الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحمار/ قصة قصيرة

منير ابراهيم تايه

2015 / 12 / 26
الادب والفن


اثناء تجواله في الانحاء البعيدة من قريته بعدما اراد ان يمضي بعض الوقت في الاستمتاع بجمال الطبيعة في القرية التي كان نادرا ما يزورها صادف حمارا يتجول بين الحقول فهو يعتبر الوقت الذي تستمتع باضاعته ليس وقتا ضائعا.. وتحت احدى الاشجار الكبيرة وقفا، بدت على الحمار علامات الصمت، ودون خوف وقف مكانه بهدوء.. لم ينزعج الحمار من وجوده على مقربة منه. لوح بذيله، كإشارة ترحيب وحسن نية.. أما هو القادم من المدينة، والذي لا يملك ادنى خبرة للتعامل مع الحيوانات الأليفة وغير الأليفة. تعامل مع الأمر بشكل عادي، فلم تظهر عليه عند الاقتراب من الحمار، علامات الخشية من رفسة أو ما شابه ذلك، أمعنا النظر في بعضهما البعض وكأن كل منهما يقرأ افكار الآخر.. وبعد مرور دقائق تذكر هو أنه لم يركب حمارا ولو لمرة واحدة في حياته..
ولكنه يعلم ان للتخاطب مع الحمار لغة خاصة تخلط بين الصوت والحس والإشارة … ولكي تتفاهم مع حمارك لابد لك من تعلمها والا فإن الحمار يشعر أنك حمار بنظره ويتجه لمشاكستك، فيقولون تنّح الحمار أي استعصى فإذا شددته للأمام شد للخلف ، وإذا قدمت له الطعام رفضه ، وإذا اقتربت من مؤخرته رفسك ، فلكي تتعايش مع الحمار عليك تعلم أدب وإتيكيت التخاطب معه.. يقولون للحمار "حا" فيسير ، و"هيش" فيتوقف ، يشدون رسنه نحو اليسار فيستدير نحو اليسار ، ويشدونه للخلف فيتوقف ، ويضربونه بلطف على مؤخرته فيتابع ، أو يربتون على بطنه بالساقين ، أو يشدون ويرخون الرسن بالتناوب لإشعاره بالحركة … وبالمقابل يلتزم الحمار بتعلم الطرقات ، ولديه “GPS” خاص يجعله قادرا على التعرف بالأماكن ، وهو مخلص جدا لك لو أخلصت اليه ، ولأنه حمار فهو لا يعرف الكذب
طال وقوفهما، وكل منهما يحدق في الآخر.. أخذ الحمار يحدث نفسه فقال: يبدو انه لا يفرق بين الجحش و البغل ، ورغم هذا سيغامر باعتلاء ظهري، ظهري أنا، الحمار المتمرد، الهارب، في قرية جبلية، بعيدة ، نائية.
اما هو فلم يفكر اكثر مما فكر الحمار خلال تلك الدقائق الطويلة، ودونما تردد قرر أن يعتلي ظهر هذا الحمار الغريب، الذي تصادف وجوده على الطريق الجبلي. جمع قواه وحشد إيمانه قبل ان يضع رجله على سرج الحمار.. ثم قفز فوجد نفسه دون عناء فوق ظهر الحمار، الذي أبدى تفهما لرغبته، رغم انه لم يستأذنه بذلك.
استغرب عدم اعتراض الحمار على الطريقة التي اعتلى بها ظهره.. ولم يدر هل انه محظوظ أم أن هذا الحمار أحمر من بقية الحمير التي سمع عنها.. فلحسن حظه في ذاك اليوم، ان الحمار الهارب من العتالة والأثقال والأشغال الشاقة، لم يبد مقاومة، ولم يرفض حمله على ظهره المنهك. فقد كان حمارا ناضجا وان تنضج، هو ان تبدأ في كره الأشياء في صمت
سعد كل منهما بلقاء الآخر.. فقد فرح الحمار البلدي بلقاء الحمار الآدمي الخام ..، تماما كما سعد هو بدوره لتفهم الحمار له وبرغبته وتعاونه معه..أمسك بحبل شد إلى سرج وربط باحكام حول عنق الحمار.. وشده صائحا: حا...
فتحرك الحمار إلى الأمام بعدما أجابه: آ
جواب الحمار أحدث مفاجأة لم يعرف معها كيف سيتصرف
انه لا يفهم لغة الحمير، فقد أنه عاش حياته مع حمير آدمية، ناطقة، احيانا تتكلم لغة مفهومة واحايين أخرى غير مفهومة استطاع أن يفك طلاسمها مع مرور الأيام
حدث نفسه قائلا: هل يتحدث هذا الحمار العربية أم انه حمار لا يجيد سوى قول آ ؟
ثم اعاد التفكير مرة ثانية وقال، لما لا أختبره بطريقة أخرى، فبدلا من حا ، سأقول له دي .. فرح بما جادت به عبقريته وبسرعة عثوره على الطريقة التي يمكنه منها كشف سرّ هذا الحمار...
يجب عليه أولا أن يدعه يتمهل، فالحمار يسير سعيدا بما على ظهره من حمل، حمل ليس ثقيلا، وآمر لا يعرف قيادة الحمير ولا يفقه لغتهم. فليس كل حمار حيوان غير ناطق وليس كل إنسان حيوان ناطق.
قال للحمار السائر بعد شد الحبل من جديد: دي
رد الحمار فورا: وي
اما هو فقد تعجب وقال: ويجيد الفرنسية ايضا!
يا لها من مفاجأة، لقد حلمت طوال عمري بتعلم اللغة الفرنسية ، ولم يكن بمقدوري إيجاد من يعلمني، فهل سأتعلمها من حمار؟ لا بأس فليكن ، إنها فرصتي للتعلم..
ولكن.. هل هذا الحمار فعلا يتحدث الفرنسية ؟
وهل هو فعلا حمار عربي ام انه حمار اجنبي يتقن العربية؟
وهل يتحدث مثل كل العرب الفصحى والعامية؟
هكذا بدا يتساءل مع نفسه، وأخذ يردد في قرارة نفسه أسئلة منوعة وكلمات غريبة.. ويقول: قد أكون في حلم، ولم لا.. ولكن هل يحلم المرء وهو يمتطي ظهر حمار؟
فقرر اختبار الحمار للمرة الثالثة على التوالي ليعرف ان كان في صحو ام حلم ؟..
فقال له : دي وبسرعة البرق سمع جوابا يقول : سي
يا الله.. انه يجيد الايطالية ايضا.. ما هذا الحمار العبقري ؟
انه أذكى من بني البشر .. يجيد لغات عديدة، يرد على الكلمة بمثلها وعلى وزنها ، حمار مثقف، حمار لم يستسلم لهزائم المحيط الذي يعيش فيه وخراب عالمه، متحدث لبق، يبني كلامه وفق منطق، يحسب كلماته قبل ان يتفوه بها، كما انه يتحدث بلغات اجنبية، حمار يحب السير تحت المطر ولا يحمل مظلة حين تمطر الدنيا... حمار منفتح، عقلاني، واقعي، يؤمن بحتمية التحرر من ديكتاتورية الانسان، حيث استعبد طوال حياته
يبدو أن هذا الحمار شيوعي وصاحب أفكار يسارية وميول ثورية.. لا يحب الإقطاعيين، قد يكون قرأ لماركس ولينين وانجلز،.. وربما يؤمن بضرورة الكفاح لأجل الحرية والحياة بكرامة وحق الشعوب بتقرير مصيرها، وأظن أيضا أنه يعلم ان الحياة هي وقفة عز..
يا له من حمار ذكي، نسيت بعد كل هذا الخلط انه أجابني بالايطالية، فعندما قلت له دي أجابني سي ، وهذه كلمة إيطالية، من اللغة التي يجيدها الايطاليون اللذين شيدوا برج بيزا في مدينة بولونيا وسط ايطاليا؟
ترى هل يعرف هذا الحمار لغات أخرى.. يجب ان اختبره، فأنا أجيد بعض الكلمات باللغات السلافية، سأجرب معه اللغة الروسية ربما يعرفها.
قلت له : حا
أجاب مرة واحدة : دا
يا له من عبقري !
حسنا ، سأجرب أن أوقفه بالعامية..
قلت له: هش
قال لي: فش
يا له من حمار مدهش.. انه موسوعة، ردوده جاهزة ولسانه فصيح .. ماذا افعل معه الآن ؟
سأطلب منه ان يتوقف ونجلس معا للحديث في أمور الحياة والدنيا...
طلبت وكان لي ما أردت، لكنه بادرني بالسؤال : ما هي أخبار المدينة؟
قلت لا جديد، هي كما هي دون تغيير نحو الأفضل ، الأخلاق فسدت والكذب انتشر والفساد.. القوي يأكل الضعيف والبيئة دمرت والبشر أصبحوا أكثر مادية..؟

وما أخبار الحمير في بلادكم ؟
يقال وأنا لا أجزم لأنني عديم الخبرة بالحمير، أنهم الآن أكثر وعيا وحنكة ،حيث تمرسوا في العمل والحياة ومنهم من تفوق على البشر.. فنحن معشر الحمير جهلنا بسيط واما انتم معشر البشر فان جهلكم مركب
وما الفرق بينهما؟
الجهل البسيط هو من يعلم أنه جاهل أما الجهل المركب فهو من يجهل انه جاهل
لقد ادهشتني ايها الحمار الحكيم... ولكن ما الذي جاء بك الى هنا والى أين تتجه ؟
لست ادري ولكني كنت انقل الحطب وكان معي شاب شرير يسوسني، ولم يكفه أن يتعبني الجبل الذي كنت اصعده بعلوه ووعورته، ولم يكفه الحجارة المسننة أن تجرح حوافري، وإنما كان يلسعني بالسياط طوال الطريق ولاادرى ما الذي يدعوه لمواصله ضربى وهو يرغمنى على مواصله السير، حتى أن ألم ضرباته كان يخترق جسمي حتى النخاع. وبما أنه كان يلهب بضرباته جانبي الأيمن على الدوام، وينزلها في الموضع نفسه، فقد تهرأ جلدي وانفتح فيه جرحا مستطيلا ، وأحدث فيه تقرحات واسعة. لم اكن اراه ولكنى كنت احس به
ولا ادرى كيف لم ينتبه صاحبى له وهو يواصل لسعى بالسوط ، ولم يكن يتوقف عن ضرب الجرح الذي كان يقطر دما. وكان يحملني حملاً من الحطب، يخيل للمرء أنه رزمة قد أُعدت ليحملها فيل لا ليحملها حمار. وما أن يفقد الحمل توازنه ويميل إلى جانب، حتى يلتقط الحجارة ليضربني بها، بدل أن يخفف من الحمل بعض الأعواد ويريحني من ضغطه لأسترد أنفاسي أو يضعها فوق الجهة الأخرى لإحداث التوازن على الأقل..
ولم يكفه ما حل ويحل بي الالم بسببه، بل وجعلني أحمل ما تجاوز الحد من الحطب، وحين وصلنا إلى مجرى مائي بمحاذاة الطريق في اتجاه الوادي، كان علينا أن نقطعه، جلس فوق ظهري ليحفظ نعليه من البلل. كان وزنا خفيفا بالنسبة إلى ما كنت أحمله! وإذا حدث مرة حقا وعجزت عن حمله، بسبب الطين الموحل الذي يجعل من صفحة الماء لزجة، عن مسك الحمل وزلقت، كان في وسعه في هذه الحالة أن يسرع إلى مساعدتي، فيجرني من اللجام أو من ذيلي لأقف، أو يخفف من حملي على الأقل إلى أن أنهض ثانية من كبوتي، فلم يساعدني على ما أنا فيه من عناء، بل كان ينهال عليَّ بهراوة كبيرة ويضربني فوق رأسي، بل فوق أذني بصورة خاصة، إلى أن تنهضني هذه الضربات بدل أن ينهضني التخفيف عني؟؟!
كما ان الوغد فكر في المكر بي: كان يأخذ حزمة من الأشواك الحادة، ويربطها بخيط معقود، ويثبتها في ذيلي بوصفها آلة تعذيب معلقة. فإن أنا مشيت، تحركت وترنحت وجرحتني بإبرها القاتلة بشكل مؤلم لا يطاق! وهكذا كان عليَّ أن أختار بين شرين: عندما أخب لأتجنب ضرباته الرهيبة، تتأرجح الأشواك وتخزني بشكل أشد. وعندما أتوقف لأخفف من ألمي، ترغمني ضرباته على الجري. وكان يبدو أن هذا الوغد الحقير لا يفكر في شيء سوى كيف يتم له القضاء عليَّ. وقد أقسم على ذلك وهددني أكثر من مرة... وحين يأتي المساء يجلس امامى ويبكى ويحضتنى ويقول لى : ماذا افعل من غيرك... اريد ان اغفر له قسوته وبؤسه ولكني لا استطيع، هذا انتم يا بني البشر تتعاملون معنا بكل قسوة ودناءة.. اننا معشر الحمير لا نحب بني البشر ولا نثق بهم لانهم يظلموننا ولا يحترمون حقوقنا بل لا يعرفون ان لنا حقوقا..
ولكنك لم تسأل نفسك ايها الحمار الثائر: لماذا لم تنجح مقاومتك للبشر في تغيير الظروف المحيطة بحياتك؟
انك تقف معترضا لكي تبرهن على أنك تتمتع بكل المؤهلات التي تجعل منك ثائرا من الطراز الأول. لكن المشكلة في مقاومتك لظروفك، انها مقاومة عشوائية..
اعلم ان الحمار فيلسوف عميق التفكير، وربما كان عبقريا، إلا انه لا يحدد أهدافه، ولا يدقق في أهميتها. ولهذا السبب، فقد بقيت حمارا. تقاوم، وتتحدى، فقط من أجل أن تبقى حمارا. ولم يعنَّ لك يوما ان تتطور لتكون حصانا. ولهذا السبب أيضا، فان نظرية داروين (النشوء والارتقاء) لا تنطبق عليك. وداروين مات وهو لا يعرف لماذا لم تسفر تضحياتك عن شيء جديد؟
ان فكرتك ثابتة عن الكون، لا تغيرها أبدا مهما تغيرت الحقائق من حولك تبقى متمسكا بها، ربما لانها ترضيك، أو قل لأنها كافية تماما لك كي تعيش حمارا..
ولهذا فانت لا تحاكم افعالك ولا توجه لنفسك اسئلة؟
ولأنك مقتنع تمام الاقتناع بأنك تقوم بأعمال بطولية، فقد ظللت تجنب نفسك اعباء السؤال: لماذا لم تنجح؟ ولماذا بقيت تنهق المظالم، دون أن يتغير شيء؟ ولم تسأل نفسك يوما ما الشيء الذي يجب أن تؤديه لجعل مقاومتك أكثر فاعلية؟ وإذا كان الإنسان عدوك الأول، فما المصالح الجوهرية التي ستجعله يحل عن ظهرك؟
الحمار لا يسأل. صحيح أنه يفكر بعمق، إلا أن تفكيره خال من الأسئلة؟
هل عرفت حجم البطولات التاريخية التي قمت بها من دون أن تسأل: لماذا بقي الحال على ما هو عليه؟
فالقصة ليست قصة كم تقتل، بل كم تؤثر، وأين تؤثر، وما هو العصب الذي إذا أمسكت به، أجبرت خصمك على التخلي عن تياسته..
ابتسم وقال لنفسه في لحظة صدق .. لا بأس بما قلته… ربما غدا اعثر علي ذاتي والان يكفيني ما قلته... أرجو ان نعود من حيث اتينا لاني اشعر بالتعب.. لنعد يا صديقي الآدمي لنعد...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي