الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفوضى الخلاقة ...و الحرب على الإرهاب

عبد العالي الجابري

2015 / 12 / 27
الارهاب, الحرب والسلام


كان من نتائج تصريح كونداليزا رايس[i] وزيرة الخارجية الامريكية السابقة حول مشروع الفوضى الخلاقة لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ.... وما أشيع حول حرص أمريكا على تنفيذ شعارات التغيير والإصلاح.... وتعزيز الديمقراطية ...وإحداث التنمية... والنهوض بحالة المنطقة ...وإخراجها من واقع الفقر والبؤس والمعضلات القائمة والمتفشية في واقع المجتمعات العربية.... وإحداث نقلة نوعية لتطوير الواقع وإحداث الرخاء وحل معضلات التنمية... ظهور ما سمي بالربيع العربي.

وبالفعل منذ ما يسمى بالربيع العربي انقلبت الموازين وظهرت الى السطح جملة من الأكاذيب والافتراءات، وتعاظم التضليل والخداع المصاحب للإحداث.. مما ابرز وأكد خطورة الانسياق وراء مثل تلك الشعارات ومن كانوا من مطلقيها، من نخب متناحرة ذات ارتباطات متعددة بحكم ثقافات متناقضة، وحالة الجهل المستحكم بما يحيط بمجمل التحديات والأطماع الإقليمية والدولية .

مرت سنوات ولا زالت المؤامرة تحاك بخيوطها وتشعباتها من اجل إسقاط مفهوم الدولة الوطنية والقومية.... ولجعل شعوب المنطقة عبارة عن جماعات متناثرة متناحرة ذات ابعاد طائفية ودينية ومذهبية غير منسجمة.... ليسهل حكمهم والتلاعب بهم عبر افساد منظومة علاقاتهم وتسهيل امور نهب خيراتهم ... مما أوجب الاعتراف أنها مؤامرة ليس لها علاقة بالحريات والديمقراطيات.... بل ان الشاهد والثابت ....انها سلب لحق الحياة وفرض منطق الموت او الجوع اوالهجرة القصرية ... منطق ارهابي فرضه مشروع الفوضى الخلاقة....

نواصل الجزء الرابع من التمرين الذي ألقيناه على عاتقنا بطريقة إرادية، والذي عنوناه: "الهجرة ... طريق الفوضى الخلاقة نحو المرمى الأوربي"، والذي من خلاله كنا ننوي تحليل مآلات التنامي المتسارع لظاهرة الهجرة نحو أوربا بعد أحداث الفوضى التي قضت على مجموعة من الدول العربية، و باتت تهدد أخرى... بل أصبحت تطال كذلك دول النصف الشمالي من الكرة الأرضية...

تسارع الأحداث ذلك جعل من عنواننا واقعا ملموسا مما قد يتطلب منا تغيير الهدف ومحاولة سبق الأحداث والحديث عن نتائج الفوضى التي باتت - سواء بسبب اعتداءات بعض الدول في حق شعوبها أو بسبب اعتداءات خارجية - داخل أسوار القارة العجوز... لذا ارتأينا في هذا الجزء أن نركز على ما يلوح في الأفق انطلاقا مما سماه فونسوا هولاند " حالة الحرب ضد الارهاب"...



1- أحداث باريس ... هل هي إطلالة الفوضى الخلاقة على أوربا؟ أم تبرير لما هو قادم؟

مساء يوم الجمعة 13 نوفمبر 2015 ، حدثت في العاصمة الفرنسية باريس، سلسلة هجمات إرهابية منسقة تضمنت عمليات إطلاق نار جماعي وتفجيرات انتحارية واحتجاز رهائن ، تحديداً في الدائرة العاشرة والحادية عشرة في مسرح باتاكلان وشارع بيشا وشارع أليبار وشارع دي شارون. كما دوت عدة انفجارات في محيط ملعب فرنسا في ضاحية باريس الشمالية وتحديداً في سان دوني ، وقالت شرطة باريس أن عدد العمليات الهجومية في هذه الليلة كانت 7 هجمات في وقت متزامن.

تعتبر الهجمات الأكثر دموية في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية والأكثر دموية في الاتحاد الأوروبي منذ تفجيرات قطارات مدريد عام 2004.

في منتصف يوم 14 نوفمبر، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) مسؤوليته عن الهجماتوقال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بأن :"الهجمات كانت عمل حرب نفذته داعش،[viii] خُطط له في سوريا، جرى تنظيمه في بلجيكا، ارتكب على ترابنا بتواطؤ فرنسي".

الدافع المعلن من طرف داعش هو "الانتقام" للمشاركة الفرنسية في الحرب الأهلية السورية . و نذكر أن فرنسا كانت قد شنت غارات على أهداف مختلفة في الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا، منذ أكتوبر 2015. كما تجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت في حالة تأهب قصوى منذ هجمات يناير 2015 في باريس التي قًتل فيها 17 شخص من بينهم مدنيين وضباط شرطة.[25]لكن ذلك لم يمنع من وقوع هجمات الجمعة .

رداً على تلك الهجمات، تم إعلان حالة الطوارئ في البلاد للمرة الأولى منذ أعمال شغب 2005،[26] ووضعت ضوابط مؤقتة للحدود. أبدى العديد من الأشخاص والمنظمات والحكومات تضامنهم... بعد ذلك أطلقت فرنسا يوم 15 نوفمبر أكبر سلسلة ضربات جوية ضمن حملة قصف أهداف داعش في سوريا والعراق. في 18 نوفمبر، وبمساعدة استخباراتية مغربية تمكنت الداخلية الفرنسية من الإعلان عن مقتل المشتبه به المدبر للهجمات البلجيكي عبد الحميد أبا عود في مداهمات شنتها الشرطة الفرنسية في ضاحية سان دوني.

الى ذلك دعا الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند خلال خطاب ألقاه أمام نواب غرفتي البرلمان في قصر فرساي ، الفرنسيين إلى عدم الاستسلام للخوف أو ردود الفعل المفرطة بعد الاعتداءات التي نفذها تنظيم "داعش" الإرهابي في باريس الجمعة الماضي وأوقعت 129 قتيلا.

وقال هولاند إن هجمات باريس خطط لها في سوريا وجرى تنظيمها في بلجيكا ،ودعا في هذا الشأن مواطنيه إلى الوقوف صفا واحدا في مواجهة الإرهاب وأكد أن أجندات الإرهابيين لن تمر على أرض بلاده.

وقال هولاند، في خطاب أمام رؤساء بلديات مدن فرنسية في باريس، إن عملية مكافحة الإرهاب التي تمت الأربعاء في سان دوني بشمال باريس: "تؤكد لنا مرة أخرى أننا في حرب، حرب ضد الإرهاب"، .... "لا يمكن التسامح مع عمل معاد للسامية" ..... " إن فرنسا في حالة حرب والهجمات التي حدث مؤخرا تعتبر عدوانا على الجميع".

وأكد الرئيس الفرنسي أن حالة الحرب التي تجري موجهة ضد "الجهاديين" نافيا أن تكون حرب حضارات، مشيرا إلى أن حاملة الطائرات شارل ديغول ستشارك في العمليات ضد تنظيم داعش.

لكن "من- ما" هو الإرهاب؟ وما المقصود بالحرب على الإرهاب؟



2- مفهوم الإرهاب؟:

يعد تعريف الإرهاب من المشاكل الكبرى في العصر الحديث، كما هو الحال بالنسبة لتعريف الحرب أو المقاومة أو الغزو أو التحرير التي تختلف معانيها وأسلوب استخدامها حسب الاتجاهات السياسية والعقائدية للشخص.

قبل إعلان الحرب على الإرهاب كان تعريف الحرب هو صراع مسلح بين القوات المسلحة لدولتين ضمن حدود واضحة المعالم مثل الحرب العالمية الأولى أو حرب عالمية ثانية أو حرب الخليج الأولى ولكن الحرب على الإرهاب غيرت كليا المفاهيم القديمة في تعريف الحروب.

لايوجد في هذا النوع من الحرب بقعة جغرافية معينة يمكن أن تعتبر جبهة القتال الرئيسية وحتى إذا تم تحديد حدود الصراع فان مجرد محاولة إطلاق تسمية على الحملة يكون موضوعا مثيرا للجدل فعلى سبيل المثال يطلق البعض تسمية غزو العراق 2003 على الحملة العسكرية التي أطاحت بحكم حزب البعث في العراق بينما يطلق عليه البعض الآخر "عملية تحرير العراق" ويطلق البعض تسمية المقاومة العراقية على العمليات المسلحة التي تشن على قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة والسلطات التي تشكلت عقب الحملة في العراق منذ 2003 بينما يطلق البعض الآخر تسمية العمليات الإرهابية عليها وهناك تقسيمات حتى بين المتفقين على استعمال مصطلح معين مثل "المقاومة" فالبعض يقسمها إلى تقسيمات ثانوية مثل المشروعة أو الشريفة وغير المشروعة ومن الأمثلة الأخرى هي حركة حماس في فلسطين التي تعتبر من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل "منظمة إرهابية" بينما يعتبرها البعض الآخر "حركات جهادية" أو "تحررية" وحتى إذا تم الأتفاق على تسمية الحرب على الإرهاب فان هناك اختلافا في طريقة شن هذا الحرب فعلى سبيل المثال يؤمن جورج و. بوش بمبدأ الهجوم مع سبق الإصرار لغرض الدفاع بينما يؤمن الاتحاد الروسي بالتدخل في الشيشان فقط إذا كانت هناك ضربات مباشرة على مصالحها.

في يوليو 2005 تخلت الإدارة الأمريكية عن استعمال مصطلح الحرب على الإرهاب وبدأت باستعمال "الصراع الدولي ضد التطرف العنيف" Global Struggle Against Violent Extremism. بغض النظر عن التسميات فإن هذا النوع من الحرب هو مثير للجدل.

ويعتقد البعض خطأ أن الخلط الحاصل في مفهوم كلمة الإرهاب يرجع فحسب إلى ترجمة لغوية غير دقيقة، والحال أنها ترجمة غير صحيحة بالمطلق ... فحسب تعبيرهم لكلمة Terror الإنجليزية ذات الأصل اللاتيني يمكن ترجمتها عربيا بمصطلح "الترويع".

وهذا المصطلح بدوره يبدو انه لا يعبر على واقع الحال... حيث أن المعبّر عنه اليوم بالإرهاب هو ما استُخدِم للتعبير عنه في اللغة العربية بكلمة " الحرابة " أخذا مما ورد في القران في سورة المائدة الآية 33 : " إنما جزآؤُاْ الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي ٌ في الدّنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم" .

وفي فترة لاحقة توسّع فقهاء الإسلام في توسيع دلالات تعبير " الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا "، لينطبق على مخالفة أولي الأمر. واستغل الخلفاء الأمويون والعباسيون هذا المفهوم، ومن بعدهم السلاطين والأمراء ليشمل من يخالفهم الرأي في الحكم، أو ما يعرف بالمعارضين السياسيين على تعبير اليوم. لذلك يعتقد البعض أنه من الضروري البحث عن مصطلح أكثر دقة يعبر عن "الترويع" وفق الفهم الإسلامي.

وفيما يلي بعض التعاريف لكلمة terrorism أو الإرهاب:

- حسب قاموس أوكسفورد السياسي Oxford Concise Dictionary of Politics الإرهاب هو مصطلح لا يوجد اتفاق على معناه الدقيق حيث يختلف الأكاديميون والسياسيون على تعريفه ولكنه بصورة عامة يستخدم لوصف أساليب تهدد الحياة تستعملها مجاميع سياسية نصبت نفسها في حكم أو قيادة مجاميع غير مركزية في دولة معينة.
- حسب الأمم المتحدة: الأمم المتحدة عرفت الإرهاب الدولي عام 1972 بأنه" استخدام العنف غير القانوني أو التهديد به بغية تحقيق هدف سياسي معين.."
- أما المحكمة الجنائية الدولية فقد عرفته بأنه "استخدام القوة أو التهديد بها من أجل إحداث تغيير سياسي، أو القتل المتعمَّد والمنظم للمدنيين أو تهديدهم به لخلق جو من الرعب والإهانة للأشخاص الابرياء من أجل كسب سياسي، أو الاستخدام غير القانوني للعنف ضد الأشخاص والممتلكات لإجبار المدنيين أو حكومتهم للإذعان لأهداف سياسية".
- فقهاء الإسلام : بالنسبة لفقهاء الاسلام نلاحظ ان الأمر لا يرجع إلى ترجمة لغوية غير دقيقة فحسب بل غير صحيحة مطلقا، لأن الكلمة Terror الإنجليزية ذات الاصل اللاتيني و المعبّر عنه اليوم بالارهاب، تعني فيما تعنيه استهداف المدنيين، وإذا كان في شرائع الدول المتقدمة اليوم أنهم لا يتجنبون قتل مدنيين إذا شملهم هدف عسكري عذرهم أن هدفهم كان عسكريا وليس مدنيا... فإن فقهاء الإسلام أجمعوا على عدم جواز قتل مدني، أما استهداف المدنيين خاصة وهو ما تعنيه الكلمة Terror فإنه لا خلاف على تحريمه:
- تعريف A.P. Schmid الذي يستعمله علماء الاجتماع "يعتبر الإرهاب أساليب متكررة تولد الخوف والقلق يقوم بها أفراد بإشراف مجموعات داخل دولة أو بإشراف الدولة نفسها وتكون أهداف العملية سياسية عادة وتختلف عن الاغتيالات بكونها ليست موجهة إلى شخص معين ويتم اختيار الأهداف لغرض إرسال إشارات إلى أكبر عدد من الناس والحكومات التي تمثلهم".
- تعريف الاتحاد الأوروبي: "الإرهاب عبارة عن عمل عدواني متعمد يقوم بها أفراد أو مجاميع وتكون موجهة ضد دولة أو أكثر من دولة لغرض ممارسة الضغط على الحكومات بأن تغير سياساتها الدولية والداخلية والاقتصادية"[10].
- تعريف عصبة الأمم لسنة 1937 :" الإرهاب هو عمل إجرامي موجه ضد حكومة معينة لغرض خلق حالة من الرعب في نفوس اشخاص أو مجموعة من الأشخاص الساكنين في تلك الدولة"[9].
- تعريف الولايات المتحدة: "أي عملية تشكل خطرا على حياة الإنسان والتي تنافي القوانين الجنائية للولايات المتحدة أو أية ولاية من الولايات الأمريكية وحدثت إما داخل حدود الولايات المتحدة أو خارجها مستهدفة لمصالح أمريكية وغرض العملية ترعيب المدنيين والتأثير على الحكومة لتغيير سياستها". [11]

وأجمعوا أنه لا يجوز قتل شيخ فان من العدو، ولا امرأة، ولا راهب ولا مقعد، ولا أعمى، ولا معتوه إذا كان لا يقاتل ولا يدل على عورات المسلمين، ولا يدل الكفار على ما يحتاجون إليه للحرب بينهم وبين المسلمين.

- تعريف مهاتير محمد : قال مهاتير محمد في خطبته بماليزيا عام2004 [8] : إن الإرهاب ليس كالحرب التقليدية، لا يمكن للأسلحة المعقدة ولا الرؤوس النووية أن تهزم الإرهاب. الهجمات الإرهابية هي نوع جديد من الحرب. إنها حرب الضعفاء ضد الأقوياء. فطالما يوجد هذا الفارق الهائل بين القوي والضعيف في القدرة على القتل. لا بد أن تحدث هجمات إرهابية ردا على أنواع القهر التي يذيقها القوي للضعيف.

إن الحرب التقليدية ليست بأكثر من إرهاب ذا شرعية. إن المقتولين أكثرهم عزل وليسوا مقاتلين. إنهم ضحايا إرهاب القنابل والصواريخ كضحايا الهجمات الإرهابية. ولأن الحرب التقليدية ترهب الناس فيجب أن يتم وضعها في الحقيبة نفسها كأعمال إرهابية التي يقوم بها الإرهابيون غير النظاميين. ليس لأحد الحق في أن يتوج نفسه ملكا لناصية الأخلاق والحق.

تعريف جلال أمين :هناك دولة أو مجموعة من الدول (خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل) دأبت على استخدام هذا اللفظ (الإرهاب) لوصم كثير من الأعمال المعادية لها، بل ولتبرير شن حروب ضد دول لا خطر منها، ولا تشكل أى تهديد حقيقى، لتحقيق أهداف غير معلنة، ولا تتفق مع المبادئ الإنسانية السائدة، فيقال بدلا من ذكر الحقيقة إن الحرب شُنت «لمكافحة الإرهاب».[10]

حسب ناعوم تشومسكي القتل الغاشم للمدنيين الأبرياء هو إرهاب، وليس حربا على الإرهاب.

حسب سلطان الجسمي هدف الإرهاب هو خلق اضطراب في التوازنات الداخلية والخارجية، وهذا ربما يكون من أهم أهداف الإرهاب، نظرا لأهمية هذه التوازنات. هذا الفعل الإجرامي ربما يقوم به بعض المنظمات العالمية السرية، والتي تكون تابعة إما لأشخاص أو لبعض الدول، من أجل السيطرة على دول بعينها معروفة بخيراتها وثرواتها، تمهيدا لغزوها والسيطرة على هذه الثروات ونهبها.[11]



3- الارهاب في القاموس السياسي ... أو ما الفرق بين الارهابي والمتطرف والقاتل؟

استخدم مصطلح terrorism لأول مرة في السياسة عام 1795 ، وكانت الكلمة فرنسية مشتقة من كلمة لاتينية terrere وهو التخويف والترويع ، واستعملت الكلمة لوصف أساليب التي استخدمتها المجموعة السياسية الفرنسية Jacobin Club بعد الثورة الفرنسية وكانت هذه الأساليب عبارة عن إسكات واعتقال المعارضين لهذه المجموعة السياسية التي كان لها دور بارز في الثورة الفرنسية حيث كانت توجهاتها معتدلة في البداية ولكنها بدأت تنحو منحى يساريا بعد الثورة وكان عدد المنتمين إلى هذه المجموعة يقارب 500،000 ولكن المجموعة انحلت وقتل معظم قيادييها في عام 1794.[12]

في بدايات القرن العشرين كانت كلمة الإرهابي تستخدم بصورة عامة لوصف الأشخاص أو الجهات الذين لايلتزمون بقوانين الحرب أثناء نشوب صراع معين مثل تجنب الاستهداف المتعمد للأهداف مدنية أو أشخاص مدنيين ورعاية الأسرى والعناية بالجرحى، وكان التعبير يستخدم أيضا لوصف المعارضين السياسيين لحكومة معينة وكانت كلمة إرهابي ذو معاني ايجابية من قبل المعارضين.

وأقدم ذكر لهذه الكلمة مدونة في سيرة فيرا زاسوليج Vera Zasulich التي كانت كاتبة ماركسية من روسيا وقامت باغتيال الحاكم العسكري لمدينة سانت بطرسبرغ في عام 1878 لأسباب سياسية وقامت راسوليج بعد الاغتيال بإلقاء مسدسها وتسليم نفسها قائلة "أنا إرهابية ولست بقاتلة" وكانت راسوليج عضوة في مجموعة كانت تسمى لاسلطوية وكانت المجموعة معارضة لحكومة روسيا القيصرية.

وفي الأربعينيات استعمل تعبير الحرب على الإرهاب لأول مرة من قبل سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين أثناء الحملة الواسعة التي قامت بها للقضاء على سلسلة من الضربات التي استهدفت مدنيين فلسطينيين والتي كانت تقوم بها منظمتي أرجون وشتيرن فقامت القوات البريطانية بحملة دعائية واسعة في الجرائد قبيل الحملة واطلقوا تسمية الحرب على الإرهاب عليها.

ولكن الانتشار الأوسع للتعبير حدث في نهاية السبعينيات حيث كان التعبير War on Terrorism مكتوبة نصا على غلاف مجلة التايم Time magazine في عام 1977 ، وكان عنوانا لمقال رئيسي عن المعارضين أو ما أسماهم المقال اللاسلطويين الذي كانو من المعارضين السياسيين لحكومات الأتحاد السوفيتي ووبعض الحكومات الأوروبية.

بعد أحداث11 سبتمبر 2001 حدثت تغييرات على المعنى الدقيق للإرهابي وتم استعمال تعبير الحرب على الإرهاب لوصف حملات متعددة الأوجه على الأصعدة الأعلامية والاقتصادية والأمنية والحملات العسكرية التي استهدفت دولا ذات سيادة وحكومات، وكان هذا الانعطاف في معاني كلمة إرهابي وتعبير الحرب على الإرهاب مصحوبا على الأغلب بإضافة وصف الشخص أو الجهة بكونه يستعمل الدين في الشؤون السياسية أو يقوم بتطبيق الدين بصورة متطرفة.

إذا لم يكن لمصطلح "الحرب على الإرهاب" تعريف محدد، هل يمكننا تحديد مفهوم له من خلال معرفتنا للأهداف التي يسعى الى تحقيقها؟

استنادا على منشورات معهد الدراسات الأستراتيجية وهو معهد بريطاني تأسس عام 1958 فان الأهداف الرئيسية للحرب على الإرهاب يمكن تلخيصها بالنقاط التالية:

- قطع الملاذ الآمن للإرهابيين للحيلولة دون إنشاء معسكرات تدريب أو رص صفوف أعضاء ما يسمى بالمجموعات الإرهابية.
- قطع تدفق الدعم المالى لما يسمى بالمنظمات الإرهابية.
- إلقاء القبض على المشتبهين بانتماءهم إلى ما يعتبر مجاميع إرهابية.
- الحصول على المعلومات بطرق مختلفة مثل الاستجواب والتنصت والمراقبة والتفتيش.
- تحسين مستوى أداء أجهزة المخابرات الخارجية والأمن الداخلي.
- تقليل أو قطع الدعم من المواطنيين المتعاطفين لما يسمى بالمجموعات الإرهابية عن طريق تحسين المستوى المعيشي وتوفير فرص العمل.
- الاستعمال الكثيف لأجهزة التنصت لكي يكون اعتماد ما يسمى بالمجاميع الإرهابية على الوسائل البدائية البطيئة في التواصل ونقل المعلومات.
- إقامة علاقات دبلوماسية متينة مع حكومات الدول التي تشكل جبهة للحرب ضد الإرهاب.

هذه النقاط المذكورة من قبل المعهد تظهر بوضوح مدى تشعب هذا النوع من الصراع، وأن الحرب على الارهاب تتطلب تداخل الجهود العسكرية مع الاقتصادية والاستخباراتية والأمنية والدبلوماسية الرسمية/حكومية والدبلوماسيات المدنية/الشعبية ...

لكن وعلى الرغم من الغموض الذي يلف المصطلح على المستوى النظري نجد الجميع تبناه بسلاسة فائقة بل وانتقل الكل الى تطبيقه على الرغم من عدم دقة تعريفه... مما يؤكد أن السياسة على المستوى الدولي تعيش بدورها في حالة فوضى خلاقة بامتياز.

والدليل على ذلك، انه بعد أقل من 24 ساعة على أحداث 11 سبتمبر 2001 أعلن حلف شمال الأطلسي أن الهجمة على أية دولة عضوة في الحلف هو بمثابة هجوم على كل الدول 19 الأعضاء، وكان لهول العملية أثرا على حشد الدعم الحكومي لمعظم دول العالم للولايات المتحدة ونسى الحزبين الرئيسيين في الكونغرس ومجلس الشيوخ خلافاتهم الداخلية وكانت هناك تباين شاسع في المواقف الرسمية الحكومية لبعض الدول العربية والإسلامية مع الرأي العام السائد على الشارع الذي كان إما لا مباليا أو على قناعة أن الضربة كانت نتيجة ما وصفه البعض "بالتدخل الأمريكي في شؤون العالم".

بعد فترة قصيرة من أحداث 11 سبتمبر 2001 وجهت الولايات المتحدة أصابع الأتهام إلى تنظيم القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن. في 16 سبتمبر 2001 صرح بن لادن من على شاشة قناة الجزيرة الإخبارية أنه لم يقم بتلك العملية التي وحسب تعبيره "قد يكون جماعة لهم أهدافهم الخاصة بهم وراء العملية" وفي 28 سبتمبر صرح بن لادن في صحيفة الأمة Daily Ummat أن ليس له اي علاقة بالضربة ولم يكن له علم بها .

ومن الجدير بالذكر أن القوات الأمريكية عثرت فيما بعد على شريط في بيت مهدم جراء القصف في جلال آباد في نوفمبر 2001 ويظهر في الشريط أسامة بن لادن وهو يتحدث إلى خالد بن عودة بن محمد الحربي عن التخطيط للعملية وقد قوبل هذا الشريط بموجة من الفرح في الشارع العربي ، يعود بن لادن عام 2004 وفي تسجيل مصور تم بثه قبيل الانتخابات الأمريكية في 29 أكتوبر 2004 للإعلان عن مسؤولية تنظيم القاعدة عن الهجوم . (نموذج مجسم عن الفوضى السياسية عام 2001 ينفي حتى علمه لكنه عام 2004 يؤكد مسؤوليته!!!!).

يعتبر البعض غزو أفغانستان أول جولة عسكرية في الحرب على الإرهاب وكانت القوات المشاركة في البداية هي قوات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وقوات التحالف الأفغاني الشمالي التي كانت عبارة عن مجموعة من القوات الأفغانية المختلفة المعارضة لحكومة طالبان الإسلامية وانضمت فيما بعد قوات من ألمانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وباكستان وبولندا وكوريا الجنوبية.

كان هناك تأييد شبه مطلق للولايات المتحدة في إعلانها الحرب على الإرهاب وحظت عملية غزو أفغانستان 2001 بدعم كبير مقارنة بالتشتت في الآراء الذي صاحب الجولة العسكرية الثانية من الحرب على الإرهاب والذي سميت غزو العراق 2003 حيث ساندت المملكة المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وكوريا الجنوبية وبولندا وأستراليا غزو العراق 2003 وعارضت كندا وألمانيا وفرنسا وباكستان ونيوزيلندا الجولة الثانية من الحرب على الإرهاب أو ماسميت غزو العراق 2003 .

بالرغم من صعوبة تحديد ساحة محددة لهذه الحرب إلا أن الولايات المتحدة اعتبرت هذه المناطق الجغرافية كجبهات لما سمي بالحرب على الإرهاب :

- جنوب آسيا وبالتحديد أفغانستان وباكستان.
- الشرق الأوسط وبالتحديد العراق والسعودية واليمن.
- جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وبالتحديد الشيشان وجورجيا وأوزبكستان.
- جنوب شرق آسيا وبالتحديد فلبين وتايلند وإندونيسيا
- أفريقيا وبالتحديد جيبوتي وإثيوبيا وإريتريا وكينيا والصومال والسودان وجمهورية تنزانيا المتحدة



4- الحرب: هل هي أنجع منهجية لمحاربة الارهاب... أم هي أنجع منهجية لتعميم الفوضى؟:

حينما قاد هانيبال القرطاجني (حنبعل بن حملقار برقا الشهير بحنا بعل أو بهانيبال أو حنبعل 247 ق.م - 182 ق.مHannibal ) جيشا من المرتزقة معززاً بالأفيال من تونس/ قرطاجنة عبر جبال الألب وصولا إلى روما عن طريق البر في رحلة تعدّ الأغرب في التاريخ القديم، وبعد أن أعجزه الأسطول الروماني القوي بحرا عن الوصول إلى روما، بدأت أولى المحاولات القديمة للفوضى العسكرية المغامرة التي تعتمد الخيال العسكري أكثر من ممكنات الواقع.

وبرغم من أن هانيبال كاد أن يقترب من هدفه إلا انه لم يحصد في النهاية غير هزيمة كبيرة.

كان جيش هانيبال يتكون من أولئك الباحثين عن المجد المادي الصعب في العالم القديم، المصابون بهوس الثروة الناتجة عن حدّ السيف، مثلما هي تركيبة هانيبال الشخصية الباحثة عن المجد والثأر.

يحدو كل ذلك العناد التاريخي غاية لا معنى واضحا لها غير الخوض في المعركة مهما كان ثمن ذلك. كاد جيش هانيبال أن يباد بفعل البرد والعواصف الثلجية وهجمات قبائل الغاليين حتى بلغ النصف من تعداده، تتقدمه بعض ما تبقى من الأفيال في مشهد لم تره روما قلب أوربا القديمة. لكنه واصل القتال رغم جميع الصعوبات حتى كانت الضربة القاصمة له في معركة (زاما) الشهيرة، لتنتهي جميع خيالات الفوضى العسكرية المبنية على البطولات الفردية العنيدة.

وما أن خرج الفرسان القروسطيون من قلاعهم المحصنة العالية، بحثا عن مغانم أبعد وراء الأسوار والأبراج في مناطق أوسع، حتى جرت أقبح أنواع الحروب الإقطاعية غير المنظمة في العصور الوسطى في أوربا والعالم. كان الفرسان هم الذين يقرّرون ما يمكن أن يكون على الأرض و ما يحتكم إليه أمراؤهم المتنفذون.

وأوضح أمثلة على منهجية الفوضى ووحشية عالم الفرسان في تلك الحروب: دخول الحرب الدينية كشعارات مباشرة حيث كانت الأيديولوجيا الدينية تمتلك سحر الاندفاع والموت والتضحية إلى جانب المغنم المادي المزدوج في الدنيا والعالم الآخر.

ثمّ ما لبثت الفوضى الفرسانية أن اتخذت الطابع الديني بقوة أعمق وأوسع من أي وقت فلم تعد روحية البطولة الفردية دافعا ممكنا حيث سطّرت المفاهيم عن الرهبان والفرسان المضحين الذاهبين إلى الخلاص من خلال السيف كما هو عليه الحال في حملات الحروب الصليبية، ومن ثم الصراعات العنيفة والدموية بين المسيحيين الشرقيين والغربيين و الكاثوليك والبروتستانت التي بقيت تطبع التاريخ الأوربي بطابعها حتى وقت قريب في ايرلندا.

وبعد أن بنيت السفن الكبيرة المعدة للاستكشافات الجغرافية في شبه جزيرة أيبيريا (اسبانيا والبرتغال) كما تشير الوثائق الأوربية، محملة بالمدافع التي أصبحت تقاس بها، باتت البشرية على حافات جديدة من الحروب الكبيرة طويلة الأمد. كانت السفن الشراعية الكبيرة هي التي جلبت معها روائح الشرق وأطايبه ومغانمه من جديد للأوربيين، وهي في الوقت نفسه من حملتهم إلى غياهب العالم الجديد عام 1492.

فتم استبدال الحملات الصليبية البرية تجاه فلسطين والعالم الإسلامي بحملات بحرية وبمباركة بابوية أيضا. أي ثمة تغيير في الستراتيجية للوصول إلى الشرق أو العوالم المستكشفة والبحث عن بلدان السمن والعسل في أماكن أخرى ابعد من تلك المكتشفة حين ذاك. وقد شكلت حمى البحث المادي المدمر من أبشع منهجيات الفوضى وعلى مدى قرون عديدة.

عندما تبحث عن تلك الحروب المرتبطة بالرغبات العارمة والدفينة المنفتحة على الاستحواذ، فلن تجد ابهى من تلك الحروب التي شنت على الهنود الحمر في أميركا الشمالية، والحروب التي شنت بقسوة متناهية تنحو منحى توراتيا تطهيريا في أميركا الجنوبية؛ إذ دمرت حضارات الأزتك والإنكا والمايا التي اتخذت طوابع التأمل والمسالمة... كانت حروبا دينية من طراز آخر سمحت بها التعاليم المسيحية زورا ضدّ حضارات تأملية شبه ساكنة من اجل الاستحواذ على ثروات الأرض.

انتقلت الروح الأوربية العارمة المليئة بالرغبة بالفوضى من اجل البحث عن المغانم المادية و الاستحواذ الشره ضمن إطار ديني، الى الحركة الصهيونية ومؤسسيها في أواخر القرن التاسع عشر، ألم يعلن ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية في مشروعه الاستيطاني منذ البداية: أن الروح الغربية المدمرة مزروعة في مشروعه، وهم أي اليهود الصهاينة "الهاكسلاه: المتنورون" يعدون أنفسهم امتدادا لفلسفة الغرب الاستعمارية؟ لذلك ليس ثمة وزارة دفاع في إسرائيل لأن "تساهال tsahal " هي "وزارة حرب" دائمة.

أليس تلك الحرب الدائمة هي التي جلبت الخراب والفوضى الكاملين إلى المنطقة العربية على مدى أكثر من تصف قرن؟؟؟.

وهنا نفتح قوس للاشارة الى انه حينما هاجم كارل ماركس مشروع هرتزل منذ انطلاقته في نهاية القرن التاسع عشر ، لم تكن معارضة ماركس لمشروع "الدولة اليهودية" في عصره مجرد مصادفة؛ فقد كان يرى بذهنه الوقاد مخاطر تلك الدعوات على البشرية ومستقبلها. ومنه يفهم هجوم ماركس على مشروع الدولة اليهودية على أنه يأتي ضمن رؤية مستقبلية أكثر من كونه مجرد سياق عام في البحث الطبقي، والدليل أنه لم يكن عبارة عن هجوم منمق لمواجهة طبقة يهودية مالية صاعدة...

اذن تلك الحروب الدائمة مهما بدت للبعض كفعل إنساني "ذكي" لما يرافقها من خطط و دهاء ومكر وقبح، ووعي إنساني، ونشوات نصر وهمية لصناعها؛ فهي تبقى على المدى البعيد أفعالا فوضوية أجبرت سكان المنطقة على عيشها.

وللتعميم ، أليس التاريخ في ذاكرتنا هو تاريخ حروب ودول وإمبراطوريات أكثر من أي شيء آخر حتى نهاية القرن العشرين؟

فلننظر إلى تقييم الحروب البونية وحروب الإمبراطورية الرومانية الكبرى – مرة أخرى- من اجل مجد القيصرية، وحروب هولاكو وجنكيزخان ضد المشرق الإسلامي، وحروب الجرمان على أطراف الإمبراطورية الرومانية... ألا نجد أنها غير مبررة على مدى كبير اللهم الرغبات الفردية للقادة الأقوياء، والأطماع ببناء الأمجاد الشخصية لأفراد قلائل من البشر تعتريهم فوضى المجد الشخصي والدخول إلى ذاكرة التاريخ عبر اراقة الدماء؟

تخبرنا بعض المواريث الشرقية أنها قد حرمت الكذب في كلّ شيء ما عدى الحرب.. أي ما عدى لحظات تلك الحالة الفوضوية والتي من المؤكد للجميع أنه لن ينتج عنها غير الدمار الإنساني...

هل ثمة ما يوجب شنّ رياح الموت لأسباب تغدو - بعد حين- لا معنى لها؟؟؟

كلما توغلنا في عمق التاريخ الدموي للحروب وتمعنا في فظائعه تنتابنا هواجس "اللامعنى" العميقة : وهو عمق مضمون فكرة الفوضى التي يمارسها المتحاربون عادة.

فمنذ هانيبال إلى بول وولفويتز Paul Wolfowitz مهندس دخول القوات الأميركية إلى العراق، وفكرة الفوضى المشبعة (بالرعب والصدمة) هي الغالبة على الفكر المستعد لحرب استباقية تتخذ من الوسائل غير المعروفة طريقا لتحقيق أهدافها... ألا تعدّ مغامرات (هانيبال- وولفويتز) من المغامرات العسكرية النادرة و غير القابل للتحقق في تاريخ العالم العسكري.

يذكر التاريخ أن هانيبال الذي فشل في غزو روما برّاً عبر الألب قد تركه القرطاجيون الذين دمرت مدينتهم وأحرقت وأزيلت من خارطة العالم القديم، هائما متخفيا بين البلدان عارضا خدماته العسكرية على أعداء روما، وقد قال قولته الشهيرة بعد سلسلة الحروب التي شنها على روما: "من الأسوأ القرطاجيون أم الرومان؟".

لقد وضع هانيبال الهائم على وجهه، يده على جذر الفوضى في الحرب في أواخر أيامه ومات دون أن يتمكن من معرفة حقيقة عمق تساؤله.

هل لنا أن نطرح في صيغة جديدة تساؤل هانيبال، ونبحث عن الأسوأ في الحرب المعلنة من طرف الرئيس الفرنسي؟ الفرنسيين أم الإرهاب؟

طبعا للجواب عن تساؤل ، لابد لنا:

- من تشريح طبيعة الفوضى التي شملت وستشمل لا محالة كلا الطرفين،

- ومن ثم، تشخيص الأسوأ في التدمير أي "الإرهابي"، أي تحديد هل الأسوأ هو من كان قاسيا في رد فعله، أم من كان قاسيا في هجومه؟

- ...



5- أيهما الأسوأ: الحرب أم الإرهاب؟ أو ما هي أوجه الاختلاف والتشابه بين الحرب والارهاب؟

ان هدف عمليات الحادي عشر من سبتمبر (الارهابية) ، ليس مردها حجم الضحايا الابرياء الذين سقطوا دون ذنب في البرجين الشهيرين في نيويورك، بل حجم الرعب والرهبة التي احدثتها تلك العمليات.

ونفس الشيء ينطبق، فيما يخص الهدف من (حرب) عاصفة الصحراء عام 1991. فهدف الحرب وفق قرار مجلس الامن رقم (678) هو تخويل دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة ، لأخراج القوات العراقية من الكويت، وأستعادة سلطة الحكومة الشرعية. بينما جرت عمليات القصف العسكرية في مناطق بعيدة عن ميدان القتال في الكويت. وكان حجم الخسائر للبنية التحتية للعراق ونظام الحصار الاقتصادي الشامل الذي فرض على العراق، قد تجاوز كثيرا الهدف من الحرب، لعدم علاقته بمهمة اخراج القوات العراقية من الكويت او اعادة الحكومة الشرعية وفق تفويض قرار مجلس الامن المذكور ..!

يؤكد المثالين اعلاه بانفصال أعمال (الحرب) أو( الإرهاب) عن التقييم الأخلاقي للدافع او الباعث الذي حض على ارتكاب الفعل. فقد يكون المسؤولون عن الحرب أو النشاط الإرهابي من دعاة الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان ، ويرتدي دافع الحرب او دافع الإرهاب ثوب أخلاقي، ولكن انعكاسات العمليات الحربية والإرهابية، يدفع ثمنها الجسيم دائما المدنيين الأبرياء فقط ؟ وهذا يظهر بان الهدف الحقيقي من (الحرب) و (الإرهاب) هو الانتقام والتهديد المبطن لفرض الهيمنة .

أما وجه الاختلاف بين (الحرب) و (الارهاب) ، فهو عدم امتلاك الاخير تعريف متفق عليه دولياً. ولا عقوبة خاصة به. وسبب ذلك ليس لعدم امكانية تعريف الارهاب، فهو قانونا قابل للتعريف، ومعرف على صعيد الانظمة الداخلية للدول، ولكن على الصعيد العالمي، ترفض الدول الكبرى والاكثر نفوذا اي محاولة لتقنين الارهاب على الساحة الدولية.

ووفقا للقاعدة الاساسية في القانون الجزائي الداخلي والدولي : أن "لاجريمة ولا عقوبة بدون نص"، ولعدم وجود تعريف جامع مانع للارهاب يمكن الاستناد اليه، ظهرت تعاريف عديدة لمفهوم الارهاب، مما اتاح الفرصة امام الدول التي تمثل الطرف الاقوى ، لتعريف الارهاب على طريقتها الخاصة. فتصف بعض النشاطات بالارهاب والبعض الاخر دفاع عن النفس . وقد عبر عن هذه الحالة الكاتب ريتشارد فولك (أستاذ القانون الدولي ومقرر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في فلسطين ) بقوله :" ان العدد الكبير من تعريفات الارهاب يعبر بصورة عامة عن التاكيد الانتقائي للمفسر".

وفي التفكير القانوني السائد في الولايات المتحدة الامريكية، يُستبعد النشاط الإرهابي عن العمليات العسكرية، ويُقتصر النشاط الارهابي على الأفعال التي يقوم بها الأفراد المدنيين في زمن السلم، بصفتهم الفردية او بصفتهم أعضاء في كيانات سياسية. ويستبعد النشاط الإرهابي عن الدول أو الأفراد العاملين نيابة عن الدول. ويشترك في هذه الرؤية جميع السياسيين والوكالات الحكومية الأمريكية .

يظهر بشكل واضح من هذه المقارنة بين (الحرب) و (الارهاب) ، بأن الهدف منها لا يتعدى اطار الدفاع السياسي، وتبرئة (الحرب) من النشاط الارهابي. ولكن هذا التبرير من الناحية القانونية مرفوض وغير سليم، لانه يتجاهل افعال الارهاب التي تقع اثناء العمليات الحربية المرتكبة من قبل الدولة بصورة مباشرة او بصورة غير مباشرة عن طريق منظمات صورية تنشئها الدولة وتغذيها لهذه الغاية. وهي افعال قد تتماثل في الخطورة او تزيد عن النشاطات الارهابية الخاصة بالافراد او الحركات السياسية من حيث عدد الضحايا او حجم الخسائر المادية.

اضافة الى أن الافعال الارهابية سواء تحدث في زمن السلم او في زمن الحرب، وبغض النظر عن (الفاعل)، سواء كانت الدولة او الافراد او الحركات السياسية، فانها تؤدي الى نفس النتائج وهي: أيقاع الضرر بالمدنيين الابرياء المحميين باحكام القانون الدولي الانساني.

وعلى سبيل المثال فان حالة الارهاب التي يخلقها خاطفي الرهائن لاسباب شخصية كطلب الفدية، لاتختلف عن حالة الارهاب التي يخلقها خاطفي الرهائن لاسباب سياسية (عقائدية) وهي لا تختلف عن حالة الارهاب بسبب التعذيب في معسكرات الاحتلال او في معتقلات الاجهزة الامنية الحكومية السرية والعلنية. أن حالة الارهاب في كل هذه الحالات واحدة. وهي عمل مؤذي وقبيح ويستحق الشجب والعقاب بغض النظر عن الباعث الذي يحرك الفاعل.

وتجاوزا لنقاش عقيم، مفاده تحديد نسبة التصرفات الارهابية ضمن العمليات الحربية أو الدول في ايطار مهماتها الأمنية، ومعاقبة المسؤولين عنها، لا نرى مفرا من طرح أسئلة منهجية قبل المواصلة :

- في أحداث مثل أحداث باريس، لماذا يتم التركيز بشكل رئيسي على الحالة الذهنية الشخصية للفاعل عوضا عن السلوك الموضوعي للفعل ؟ وباختصار لماذا لا نصف عمل قتل المدنيين الأبرياء كجريمة موضوعية بغض النظر عن الهدف النهائي للفاعل ؟
- لماذا يتم التفريق بين العلة والمعلول بين الفعل والنتيجة عند المجرمين الذين تحركم بواعث سياسية (عقائدية) ولا يتم ذلك بالنسبة المجرمين العاديين؟؟..
- هل مرجع ذلك لاعتبار أن حالة الفاعلين الذين تحركهم بواعث عقائدية أكثر تعقيدأ؟ أم هناك بواعث سياسية لذلك؟
- وعوضا عن إيجاد تبرير مربك لتمييز متدرج للجرائم، لماذا لا نستند الى المبادى الاساسية للمسؤلية الجنائية التي اعترف بها منذ وقت طويل وطبقت في كل نظام قانوني في العالم كأساس للمسائلة ؟

لفهم ضرورة هذه الوقفة المنهجية نسوق على سبيل المثال منهجية تعامل الرؤية الفرنسية مع جريمة الإرهاب والتي تتم في مجملها عبر ثلاث مراحل كالتالي:

المرحلة الأولى : يتم تسييس الجريمة في مرحلة التجريم ، ويعتبر الباعث السياسي (العقائدي) هو العامل الحاسم في الجريمة .
المرحلة الثانية : من اجل تحديد الحد الأقصى من الجزاء على الجريمة، تنزع عنها الصفة السياسية، ويعامل الفاعل كمتهم عادي والجريمة نفسها جريمة عادية، من دون اخذ السببية بعين الاعتبار.
المرحلة الثالثة : من اجل إجراء محاكمة سريعة وسهلة من قبل الحكومة أو الحكومات المعنية للمتهم ذاته، يعاد تسييس الجريمة من جديد، وتوصف الجريمة نفسها بأنها جريمة ذات شأن دولي.

إن هذا النوع من السلوك المتغير والمتناقض اتجاه نفس "الفعل" يجعل من جريمة الإرهاب جريمة شديدة الغموض، مما يؤدي إلى إجهاض العدالة وانتهاك لحقوق الإنسان.

وهذه الرؤية الغامضة التي تحيط بجريمة الإرهاب، هي التي يبدو في رأيي، جعلت الرئيس الفرنسي يصرح أن بلاده في حالة حرب ضد الإرهاب، لأن ذلك سيسح له من إضفاء صفة الإرهاب وبشكل اعتباطي على من (يريد) ومتى (يريد) وفقا لمصالح مسطرة من قبل أو حسب الظروف، لا وفق مقاييس الحق والعدالة.

والنتيجة، أصبح الفرنسيون في حالة حرب دون أن يعرفوا من ولا ما يحاربون، ولا أين ولا الى متى سيحاربون؟

في حين أن كل الشرائع السماوية وحكمة الفلاسفة عبر التاريخ تؤكد بأن مبعث الإرهاب هو الظلم والعدوان...! فهل فرنسا من خلال هذه الحرب، تكافح الإرهاب فعلا أم ستصنعه؟



6- ما موقع السلم في حالة الحرب على الإرهاب .. أم أن الحرب هي الحل الدائم لجميع المشكلات؟

هل من اجل الخروج من جلد الحرب العفن القديم والجديد والقادم الذي لا يزال يجهز على الإنسانية هنا و هناك على نحو يثير الدهشة لا بدّ من السلام؟.

هذه الفكرة المثالية لا تصلح للتبشير فحسب، بل لا بدّ من وضع آليات أكثر رسوخا لتعميمها على البشرية القادمة، ولابدّ من الدفاع عنها في كلّ عصر لمواجهة حمى الفوضى الحربية؛ لأن فظاعات حروب قادمة سوف تكون أكثر وحشية وإفناء ورهبة من سابقاتها جميعا. ولذلك فإن دفع ثمنها - كما تنبئ معظم المؤشرات الحالية- ستكون في منطقة الشرق الأوسط، مما سيضع شعوب هذه المنطقة أمام ضرورة ظهور وعي استثنائي من اجل تلافي حمى الكوارث فيها.

- فهل تتمكن من ذلك؟
- وهل يكفي وعي الشعوب لتلافي الحروب؟
- أم أن حالة اليقظات القومية قد تكون عاملا جديدا على ظهور شبح الحرب؟

وعندما نصف الحرب على الارهاب بالفوضوية فهذا لا يعني أن ثمة حروبا أخرى ذكية ومنظمة ومسؤولة؛ فكل الحروب منذ بدء التاريخ ومهما كانت مبرراتها تقع في دائرة الفوضى البشرية، وما يزال حتى هذه الساعة... يرى بعض صناع القرارات السياسية والعسكرية أن الحرب يمكن أن تكون حلا دائما لجميع المشكلات التي يعاني منها الحكام بالدرجة الأساس وليس الشعوب بالضرورة. لذلك يشنون الحروب من حين لآخر للتعويض والتمويه عن صراعات داخلية متوقعة والأمثلة أكثر من أن تحصى.

ليس ثمة حروبا بين الشعوب والأمم الديمقراطية منذ الحرب العالمية الثانية وإلى يومنا هذا، كما يورد ذلك مفكري الغرب السياسيين؛ وهذا غير صحيح على الاطلاق، لأنه واقعيا تم نقل الميدان إلى خارج "اللعبة الغربية" على الأرض الخطرة إلى الشرق أو الجنوب من الكرة الأرضية؛ بل هذا ما يفسر لنا الرغبة العارمة في تلافي حرب البوسنة ومأساة كوسوفو ومعاقبة مرتكبيها في العقد الأخير من القرن العشرين لأنها جرت على حافات أوربا.

لم يعد بإمكان الإنسان في أوربا احتمال فكرة القتال من اجل معظم الأسباب القديمة المكرورة. وما اشتراك بعض الدول الأوربية في الحرب الأميركية على العراق إلا حالة خارج السياق حيث التحق حلفاء الولايات المتحدة ،وفي وقت قياسي، الواحد تلو الآخر بقائمة المتنحين عن السلطة: أزنار الأسباني وبرلسكوني الإيطالي ثم توني بلير الانكليزي وأخيرا ساركوزي الفرنسي... هل عدم التصويت عليهم من طرف مواطنينهم كان سببه سياساتهم الداخلية أم الخارجية وبالخصوص بسبب المشاركة في الحرب على العراق؟

في القرون الوسطى كانت الحروب تشنّ لأتفه الأسباب بين الأمم والشعوب والجماعات الدينية والعرقية والإمبراطوريات الكبرى والدول الصغيرة سواء بسواء. أما الآن فإن الحروب تشن من الإمبراطوريات الكبرى الجديدة من وراء البحار حيث تسيّر الأساطيل، وحاملات الطائرات، وتبعث الجيوش، وتنزل الدبابات، وتطير المقاتلات، ليظهر كلّ شيء من خلال شاشات التلفاز وكأنه حالة من الرسم الإلكتروني الفائق التلوين؛ ثمة خطوط عمودية وعرضية، ولا شيء غير الانفجارات التي تشبه الألعاب الطفولية لجهاز play station بالنيابة عن الإمبراطورية العظيمة، ولأسباب اقتصادية وسياسية بالدرجة الأساس.

هل ثمة فرق كبير بينها وبين شعار الحروب الاستعمارية الأولى: جئنا محررين لا فاتحين؟

ولماذا بقيت الدراسات حول الأسباب الحقيقية لتلك الحروب المدمرة الهمجية حبيسة البحث العلمي البحت ولم يقدم عنها إلا تقارير سرية تحجب عن العالم عادة؛ كما هو عليه الحال في "التقرير السري عن حرب الولايات المتحدة على العراق" المقدم من وكالة الاستخبارات الأميركية الذي لم ينشر منه إلا بضع صفحات - بأمر من الرئيس بوش نفسه- . وكذلك التقرير المهم الذي أعده جيمس بيكر عن حالة نفس الحرب.

ومن المفارقات الهامة التي يجب التطرق اليها هنا ، أنه لم يحاول عموم الناس منذ فجر الوعي الإنساني معرفة و قراءة الأسباب الحقيقية الدافعة لشن الحروب؛ تلك الفواجع والكوارث الإنسانية، وخاصة في الحروب الطويلة الأمد كحرب داحس والغبراء العربية في عصر ما قبل الإسلام، وحرب الوردتين، وحرب السنوات الثمان الأوربية، وحرب العراق وإيران، وحرب العراق والكويت، والحروب البونية، والحروب الصليبية، والحروب العربية الإسرائيلية الست، والحرب العالمية الثالثة على الإرهاب التي يتوقع لها أن تستمر عقودا قادمة وسط سيول من الدماء الحارة من مختلف الأمكنة من العالم.

أي نعم ثمة محاولة لنخب مفكرة لإنعاش الذاكرة الإنسانية دائما لكن قضية فوضى الحرب لا تشغل الفكر الإنساني بشكل عميق بعد.

هل هي محاولات منظمة من تدخل ضمن نطاق طبيعة الحروب أم إن الطبيعة البشرية التي لا ترغب في تذكّر مآسيها؟

ومن المهم أن نذكر، أنه في المقابل فإن المحاربين لم ينسوا تاريخهم، بل نجدهم متأثرين بسابقيهم، وأصطع مثال نسوقه هنا هو نورمان شوارتسكوف Norman Schwarzkopf قائد الحلفاء في حرب الخليج الثانية الملقب بنورمان العاصف stormy Norman قد أعلن أنه "تأثر بخطة هانيبال" بهذا المقدار أو ذاك، واستفاد من دروسها في حرب الخليج الثانية على نحو خاص... للإشارة أن الفكرة تكررت في لعبة الأفعوان الأميركي الذي اجتاح العراق في مدة الأسابيع الثلاث.

- فمن يؤرخ لواقع الحروب كما تقع حقيقة في القرون القادمة؟ ومن يدل البشرية على فظاعتها وتناقضاتها؟
- وهل يكفي إقامة رموز المجد من التماثيل والمشاهد الكبيرة للجنود الذين قضوا في الحروب ليمنح القتلة ما يكفي من راحة لنفوسهم المريضة؟

ليس ثمة قيمة كبيرة للقتلى وهم يظهرون على العناوين الرئيسية للفضائيات العالمية أو المواقع الإلكترونية وخاصة بعد مرور أيام على الحدث، لأن ثمة ما هو أبشع وما هو أشنع في الطريق. لذلك تستهوي الغربيين خاصة أخبار الجرائم الشخصية أكثر من حالات الحروب بين الدول وما ينتج عنها من مآس إنسانية. إنها حالة قصف دائم للوعي.

للتاريخ يجب تسجيل أن العالم عرف أكثر من ثمانين حربا أهلية ودولية بعد الحرب العالمية الثانية وخلال النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم. ولم تجر حتى الوقت الحاضر مراجعات جدية وإحصاءات أممية لمعرفة مدى الكوارث الإنسانية التي حلت ببني البشر الذين كانو ضحايا لها.

- لماذا لا يتم الحديث عنها، والتركيز على ضحايا الحرب العالمية الثانية فقط؟

- لماذا لا احد يعرف حتى الوقت الحاضر لمَ تجري تعتيمات على منطقة الشرق الأوسط وحال الحروب فيها؟
- هل إن هذه المنطقة خارج الوعي العلمي و الإعلامي العالمي؟
- أم أن إمبراطوريات الإعلام التي يهيمن عليها دهاقنة المال الصهيوني لا تريد فتح ملفات قريبة من الجرائم الكثيرة التي تقترفها إسرائيل يوميا بحق الشعب الفلسطيني والتي اقترفتها ضدّ شعوب عربية أخر؟

كتب الرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون Bill Clinton في مذكراته الرئاسية عن مدة ولايتيه، معترفا بعدم اهتمام الإدارة الأميركية والأمم المتحدة وقتذاك بما يكفي لمعالجة قضية الحرب الأهلية في رواندا، معتبرا ذلك من الأخطاء الكبرى بالنسبة له شخصيا ولإدارته على مدى ثماني سنوات. بل لم يتوان عن اعتبارها عقدة ذنب ترافقه دائما، لكنه - وهذا ما يثير الدهشة أيضا- لم يشر ولو بطرف عين إلى الشناعات الكبرى التي اقترفتها إدارته بحق أطفال العراق حيث قضى أكثر من مليون طفل موتا بسبب قرارات دولية عمل هو شخصيا على إذكائها، وهي كما يعرف جيدا لم تؤثر على النظام السياسي الدكتاتوري السابق، إن لم تكن قد منحته قوة أضافية لكبح جماح العراقيين والحيلولة دون استمرار معارضتهم.



7- مستقبل الفوضى الخلاقة : عسكرة العالم

تعدّ ظاهرة العولمة Globalization واحدة من أهم الظواهر التي لفتت نظر الباحثين المعاصرين في شؤون مستقبل العالم. وكان روبرت كندي Robert Francis Kennedy قد كتب:" بان المستقبل يكمن وراء الأفق، لكنك تستطيع السيطرة عليه". كانت تلك المقولة مصداقا لإمكانية السيطرة على المستقبل من خلال معرفة اتجاهات الحاضر الصحيحة. فهل تستطيع الولايات المتحدة من خلال العولمة السيطرة على المستقبل الإنساني بفعل إحداث أكبر مقدار من الفوضى الاقتصادية فيه؟

مرت العولمة – على قصر مدة ظهورها الرسمي بعد الحرب الباردة تقريبا – بتطورات أساسية من ضمنها بداية نزعة العسكرة militarization التي تعد الجانب المستقبلي لها حيث تعد تلك الحالة النتيجة النهائية التي تنسف معظم الخطاب العولمي الحالي.

ذلك ما يجعلنا نرى–في الوقت الراهن على الأقل- أنه على مفكري الجنوب من الكرة الأرضية – اليسار الجديد خاصة - الكفّ عن ترديد "المقولات" الشرقية الجاهزة عن الهوية والاستقلالية والخصوصية، وان يبتعدوا عن أساليب ما يعرف بالتفكير النمطي القديم ذي البعد الواحد والتركيز على دراسة نقاط ضعف وقوة المنظومة الفكرية الجديدة القائمة على علاقة "السوق" التبادلية : أي جعل المعرفة والثقافة خاضعة لقوانين معاملات الفوضى الاقتصادية، المغلف بالفكر والايمان الصهيوني.

ومن المؤشرات الدالة على أننا نواجه حربا لصهينة الفكر هي الحملات الشرسة التي بدأت على ما يعرف برواد التفكير القديم من الطبقيين الرافضين في جنوب الكرة الأرضية. من اجل سحق رؤية الفكر والهوية الوطنية التي تعد من أكثر الأفكار ضعفا أبستمولوجيا لكنها مستهواة من الجميع أيضا.

ومن هنا المطلوب هو انبثاق "قدرة" جديدة لمواجهة الاستغلال الطبقي على مستوى كوني هذه المرة مما يحفز على ضرورة الانتقال إلى مستويات أعلى من الفكر تتناسب وطبيعة التحديات الطبقية الجديدة.

في المقابل، فإن القوى الاستغلالية الجديدة سوف تظهر ما يكفي من تزييف للحقائق وتمويه دائم للقضايا ذات الطابع الإنساني. ولغرض تحقيق تلك الحال لابد من إحداث سلسلة من الهزات العسكرية الكبرى على الطريقة اليابانية: بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وما تبعها من قيام الولايات المتحدة الأمريكية بإلقاء أول قنبلة نووية على هيروشيما وناغازاكي حيث وقف العالم متسائلا عن السر في استخدام هذه القوة الجبارة المشوبة بوسائل الفناء الجماعي للشعوب الأخرى؟ وعما إذا كانت تلك القوى العسكرية الهائلة ستكون على المدى القريب ستراتيجية عالمية هي اقرب ما تكون إلى "قيصرية روما القديمة" المدججة هذه المرة بموت ساحق للغرماء والخصوم؟

ربما ستلجأ الصهيونية العالمية وقوى التحالف الرأسمالي المالي والعسكريين إلى أكثر من أحداث 11 سبتمبر و13 نوفمبر كلما تمكنت من إحراز السيطرة على عاصمة بلاد ما، أو تم انتقال مركز القيادة عاصمة أخرى؟

يمكننا متابعة ذلك الوضع بدقة في ما كتبه نعوم تشومسكي عالم اللغات حول مستقبل الولايات المتحدة القيصري.. أو في أطروحة فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama - أمريكي الجنسية ياباني الأصل حول نهاية التاريخ ، حيث عدّ فيها الولايات المتحدة بداية جديدة للتاريخ الإنساني، ثم جاء بعده صامويل هنتنغتون Samuel Huntington أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد ليقدم ورقة عمل حول نظرية "صراع الحضارات" لتصبح فيما بعد محط سجال فكري في ملف مهم أعدته مجلة Foreign Affairs المعنية بالشؤون الدولية في عام 1991.

وتعد تلك الظاهرة الفكرية "غير الأصيلة" التي عرفت فيما بعد بصدام الحضاراتClash Of Civilization نوعا من الأدلجة غير المباشرة في عسكرة العولمة، حيث إن أهم نتائج الصدامات الحضارية هو الصدامات العسكرية وفرض الهيمنة الاقتصادية على الدول والشعوب المهزومة التي يتوجب عليها أن تكون خارج التاريخ لأنها لا تستطيع اللحاق بركب العولمة. وهكذا سوف يبدأ التصنيف بدلا عن شعوب مستعَمرة وأخرى مستعمِرة، إلى شعوب متعولمة وأخرى غير متعولمة.

وبعد نصف عام من الهجوم على برجي التجارة العالميين في نيويورك عام 2001 أعلنت وثيقة صادرة عن الإدارة الأمريكية الجديدة تؤكد التحولات الستراتيجية في العالم على النحو المذكور آنفا، وهي تطالب بتطبيق برنامج نووي خاص ضد دول ما يعرف بمحور الشر: العراق- إيران- كوريا الشمالية.... ثم فاجأت الولايات المتحدة أفغانستان بكونها أول المضروبين، لتبدأ واحدة من أشرس معارك التاريخ الإنساني المعاصر.

وقد يطال الوصف الاستباقي دولا أخر كسوريا وفنزويلا أيضا. تمثل تلك السياسة مدى التخبط الأعمى الذي أصاب الإدارة الأميركية بحجة الرد على الهجوم على البرجين، وإمكانية لجوئها إلى اعنف الردود على مستوى العالم.

أنفقت الولايات المتحدة المليارات من الدولارات على عسكرتها العولمية بعد نهاية الحرب الباردة، فكلفة الوجود الأميركي في الخليج العربي – على سبيل المثال – على وفق إحصائيات مركز المعلومات الستراتيجية العالمية Center for strategic إن الولايات المتحدة أنفقت عام 1991 وهو عام الحرب على الخليج الثانية أكثر من 346 مليون دولار على قواتها العاملة في تلك المنطقة الساخنة في العالم، ثم وصلت إلى(2) بليونين دولار في عام 1998, وكانت نسبة صيانة الأسلحة والمعدات فيه تبلغ 60% أي بمعدل يفوق كلفة إنتاجها.

عملت السعودية والكويت ودول خليجية أخر على سدّ النفقات الأميركية من خزينة الدولة ومن ما يعرف بصناديق الأجيال. كما إن التقديرات الأولية تشير إلى إن الولايات المتحدة قد يصل مقدار ما أنفقته على الحرب في العراق وأفغانستان من 300- 400 مليار دولار: هذه الأرقام الفلكية لم يشهد لها التاريخ مثيلا، بالرغم من أنها تتناسب وطبيعة عولمة المستقبل.

من هنا فان العولمة الاقتصادية تستخدم جميع الوسائل ل فرض هيمنتها على المناطق التي تشهد قلقا عسكريا دائما من خلال عسكرة العولمة نفسها...

التلاحم بين العسكر و رأس المال ليس ظاهرة جديدة، فالعولمة بدأت بالتداخل مع العديد من ميادين الحياة وشؤونها، فبدأت بالإعلام ثم الاقتصاد ثم محاولة وضع برامج اجتماعية عولمية في طور التكوين تخدم مصالح الاقتصاد المتعولم، وانتهت بالعسكرة مؤخراً إذ تستند عسكرة العولمة على قواعد ثلاث على وفق رؤية شريحة كبيرة من الباحثين:

- القاعدة الأولى: استخدام الجيوش العائدة لمختلف الدول لتطبيق عقيدة عسكرية واحدة تعتمد الولاء للمركز الرأسمالي والشركات الصناعية الحربية الكبرى المتحكمة فيه والانضواء تحت قيادة مركزية موحدة تكون الولايات المتحدة الأميركية غالباً عصبها الوحيد.

- القاعدة الثانية : قيام استعدادات قتالية وتجهيزات لتنفيذ سياسات قسرية وصولا إلى فرض ما يعرف بدبلوماسية استعمال القوة أو التهديد بها كالتهديدات التي تعرض لها نظام القدافي قبل أن يتخلى طوعا عن أسلحة الدمار الشامل لديه، أو حالة إيران حيث تقبع البوارج الحربية وحاملات الطائرات أمام سواحلها من اجل ردعها أو استخدام القوة فعليا ضدها إذا لزم الأمر. أو سوريا التي أجبرت على التخلص من أسلحتها الكيميائية...

- القاعدة الثالثة : يلاحظ من خلال النظر في قواعد العقيدة الأميركية الجديدة ضرورة التركيز على المركزية، وأهمية سرعة الانتقال إلى الأهداف خارج الولايات المتحدة الأميركية، مما يؤكد استمرار ستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية في الهيمنة على العالم، وهي لا تكف عن إقامة نوع من الاصطفاف الدولي معها.

ومن المناسب أن نذكر إن الهيمنة الأميركية تطال الدول المتحالفة معها عسكريا أيضا، وذلك بالفرض عليها عقيدة عسكرية واحدة بدلا عن عقائدها العسكرية المحلية ، ولتحقيق ذلك تعتمد أساسا على استثمار التفوق التكنولوجي العسكري كقوة ساحقة، وما الدعاية الكبيرة التي شهدتها التكنلوجيا الامريكية فيما سمي "بتدمير العدو دون الالتماس به"، أو قبل حدوث أي تماس مباشر معه والتي تباهت الولايات المتحدة خلال تطبيقها في احتلال العراق إلا واحدة من التطبيقات العديدة التي قد لا نعرف عنها أي شيء لحد الآن.

وكان التطبيق العملي للعقيدة العسكرية الأمريكية قد تفعل على نحو واضح بعد عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض، حيث بمجرد انتخاب الرئيس جورج دبليو بوش George W. Bush عام 2000 طلب من وزير دفاعه السابق دونالد رامسفيلد Donald Rumsfeld أن "يتحدى" الوضع القائم في البنتاغون، وان يعمل على تفعيل ستراتيجية حربية للقرن الحادي والعشرين الذي افترض مفكرو الولايات المتحدة الرسميون بان يكون قرناً أميركيا بحتا. هكذا سوف تكون العقيدة العسكرية الأميركية عملياً على ركائز ثلاث- كما وضعها- رامسفيلد أيضا وهي : المركزية، السيطرة على العالم، التفوق الدائم.

لابد للتفوق أن يكون مزيجاً من العلم والتكنولوجيا والموارد الاقتصادية لتامين حاجة القوات المسلحة الأميركية. وكانت خطة الرئيس بوش تقتضي على العموم جعل سيطرة الولايات المتحدة على العالم لأجل غير مسمى بقوله عام 1999: " إن احد أهدافنا الرئيسة هي نقل النفوذ السلمي الأميركي عبر العالم وعبر الزمن " ولا يمكن تحقيق ما يعرف " بالنفوذ السلمي " ما لم يكن معززاً بقوة عسكرية هائلة. هذه النظرة هي وليدة التفكير النازي و تعرف إحدى النتائج المباشرة لفلسفة ليو سيتوس المتعلقة ب"الفوضى الخلاقة". وأثبتت أحداث احتلال أفغانستان والعراق ذلك على نحو لا يقبل الشك؛ إذ لم تحدد الولايات المتحدة سقفاً زمنياً لانسحابها من العراق أو انسحاب دول التحالف من أفغانستان.

إن تلك النظرة الجديدة في الهيمنة على العالم لم تكن وليدة وصول الرئيس جورج بوش إلى الحكم في ذيل القرن العشرين، بل هي سياسة الصهيونية العالمية منذ بداية العقد الأخير منه، وقبيل نشوب حرب الخليج الثانية أيضا، حينما تفردت الولايات المتحدة بالعالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

بيد أن تلك الإستراتيجية تعززت على نحو واضح منذ احتلال العراق للكويت ونشوب حرب الخليج الثانية.

نذكر هنا أنه عام 1992 ، قدم تقريراً سرياً إلى البنتاغون تحت عنوان "توجهات عامة لسياسة الدفاع( 1992-1994) " وهو يتضمن أهم التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية وسبل مواجهتها عسكرياً لأعدائها المفترضين.

ومن المناسب أن نذكر إن معظم تلك التقارير التي بنيت عليها الإستراتيجية الأميركية الجديدة تتهم العراق ونظام صدام حسين السابق بامتلاكه قوة نووية – او ما عرف آنذاك بقضية اليورانيوم المهرب إلى العراق عبر النيجر - وصواريخ عابرة للقارات يمكن تجهيزها برؤؤس نووية، وكذلك امتلاك العراق لترسانة كبيرة من أسلحة الدمار الشامل لم يثبت وجودها.

وقد اتخذ من هذا العامل سبباً مباشرا للغزو. بيد أن نتائج الاحتلال أثبتت خلو العراق من هذه الأسلحة... وهو أمر يتغاضى عليه الجميع الطرف.

- ألا يدعونا هذا في الحقيقة إلى أن نبحث عن الأسباب غير المباشرة لعسكرة العولمة التي تمثل العقيدة العسكرية - الأميركية الجديدة أهم خصائصها؟؟؟.
- أو ألا يؤكد هذا أن الغرض من الحروب ذات الهدف ما هي في الحقيقة إلا عملية عسكرة العولمة كلما أتيحت الفرصة للقيام بذلك؟
- هل يعني هذا أن الصهيونية العالمية تتحين الفرصة لنشوب أي نزاع او خلاف سياسي لتعميقه وجعله مطية للتدخل والاستقرار لمدة غير محددة رسميا؟؟؟
- هل نفهم من هذا أن التدخل المباشر للروس في سوريا شكل ضربة استيباقية، للحد من التوسع العسكري للصهيونية العالمية بعد رفض "أوباما" استعمال الجيش الأمريكي لذلك، وتأخر التدخل الفرنسي بسبب التفاعلات السياسية الداخلية غير المناسبة لأي تدخل من هذا النوع؟

هي أسئلة لكنها في الحقيقة خلاصات واضحة تؤكد أننا ذاهبون نحو عسكرة العولمة، وأي نزاع مهما بدى بسيطا قد يشكل فرصة سانحة للصهيونية العالمية للتدخل والسيطرة. مما سيسمح لنا بالوصول الى خلاصة هامة مفادها أن أولى أهداف الفوضى الخلاقة : هي عسكرة العولمة.

لكن، كيف يمكن لعولمة العسكر السيطرة على عولمة الاقتصاد، علما أن هذا الأخير له له أشواط سابقة وتجربة عالية سمحت له من مراوغة كل منافسيه حتى الآن؟؟؟ بل لأصبح يتحكم في السياسة والعلوم والاجتماع ... بمعنى آخر هل سيعود العسكر للحكم؟



8- الفوضى الخلاقة وعودة العسكر للسياسة والاقتصاد… أية علاقة؟

لم يكن ارتباط العسكر بالشركات الاقتصادية الكبرى جديداً، لكن الملاحظ في العقد الأخير من القرن العشرين بالذات ازدياد الارتباط على نحو وصل إلى التنسيق العام، فديك تشيني Dick Cheney نائب الرئيس بوش و كوندليزا رايس Condoleezza Rice مستشارة الأمن القومي الأميركي سابقا ووزيرة الخارجية وأعضاء آخرون في إدارته هم مستشارون أو أعضاء في شركات عسكرية ومدنية.

هذه التوليفة الفوضوية في الاتجاهات تحتاج من ناحية إلى نوع من التنسيق فيما بينها ومن جهة ثانية الى نوع من التنسيف الخاص يمكنها من الحافظ على اندفاعاتها على الرغم من وروح التنافس بينها أيضا. وهذه التوليفة بين التعاون والتنافس داخل نفس المؤسسة، لا يمكن أن نجدها إلا داخل المؤسسات الاقتصادية الكبرى، ولأنك لن تجد داخل المؤسسات العمومية، خاصة التي تعمل بشكل جيد، إلا أحد الاتجاهين: إما التعاون والعمل المشترك، وإما البيروقراطية والتنافسية...

هل علينا أن نخشى على منطلقات النظام الديمقراطي الأساسية، والتي شكلت لعقود من الزمن ركائز ووجوده في حالة تعمق العلاقات المصلحية والتخطيطية بين إدارات الشركات الكبرى والهيئات العسكرية؟.

هل علينا أن نخشى على النخب السياسية صانعة القرار من ان تتحول عن السياسة العامة إلى السياسات الخاصة ذات النزعات الضيقة والاهداف العسكرية؟

لأن هذه التوليفة لم تعد تقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية فقد ظهرت مؤخرا في فرنسا على نحو خاص كذلك، حيث يظهر وبشكل متسارع تطور اتجاهات التوليف بين النخب السياسية والصناعية والمالية المختلفة.

هل وجود مثل هذه التوليفة العسكرية الاقتصادية في دواليب الحكم بفرنسا هي سبب اعلان رئيسها الحرب على الارهاب ، وبشكل متفرد دون الحاجة الى تحالف الحلفاء؟

إن النخب السياسية الأميركية هم من الأغنياء دائماً، لكننا نسجل أنه عام 1964 اظهر إحصاء السكان في الولايات المتحدة بأن 29% يرون بان البلاد تدار من قبل الأغنياء. في حين بحلول عام 1992 كان 80% يرون بان البلاد تدار من قبل الأغنياء.

كما أنه وعلى مر العقود الاخيرة يلاحظ توافق كبير بين النخب الإدارية الغنية و الطبقة العسكرية الأميركية في الولايات المتحدة (تركيبة حكومة الرئيس بوش، فان كبار المسؤولين من أمثال كولن باول ودك تشيني وهم من العسكريين)، وهو الأمر عينه الذي بدأ يظهر مؤخرا بشكل فاضح بفرنسا وبلجيكا، وتبدو له بعض الارهاسات في بعض البلدان الرأسمالية الأخرى بنسب متفاوتة... إلا أنها تتداخل مع بعد ثالث متكون من اللوبي الصهيوني على نحو كبير في الولايات المتحدة وفرنسا بالذات.

كانت الحكمة الأساسية للأميركيين في عهد بوش: " إن الولايات المتحدة لن تحميك عسكرياً مالم تسايرها اقتصادياً " ويبدو إن هذه القاعدة ستكون حاضرة في القرن الحادي والعشرين بعد محاولة الولايات المتحدة أن تكون "شرطي العالم"، لكن لحسن حظ "أوباما" أو لسوء حظه، إفلاس الشركات الأمريكية المتوالي وضع الإدارة الأمريكية والعسكر في قفص الاتهام أيضا.

لذا من المفيد في هذا المجال التذكير أيضا بالفضيحة المالية التي طالت واحدا من أهم رموز الصقور في الولايات المتحدة بول وولفويتز Paul Wolfowitz الذي ترك العسكر ليلتحق مديرا للبنك الدولي باعتباره من أهم مراكز القرار الاقتصادي في العالم، حيث لم يتوان الأخير في خرق قواعد البنك من خلال منح صديقته رواتب لا تستحقها مما اضطره إلى الاستقالة، ليجد نفسه نائب وزير الدفاع الأميركي في عهد جورج دبليو بوش.

كما سيكون مفيدا التذكير بقضية شركة الطاقة الأمريكية انرون Enron التي كانت تساهم بنسبة 20% من الغاز والكهرباء والبنى التحتية في الولايات المتحدة وهي التي أدخلت الجمهور الأمريكي في جو عاصف من التساؤلات حول علاقة رجال السياسة بالشركات، وعلاقة أولئك بصناعة التكنولوجيا العسكرية المتقدمة.

ونذكر أن المتهم الرئيس في هذه الفضيحة الكبرى كان الرئيس جورج دبليو بوش شخصياً، نظرا للعلاقة شخصية التي تربطه برئيس شركة تلك الشركة "كينت لاي Kenneth Lay " حيث تبرع الأخير بمبلغ 50 مليون دولار إلى حملة الرئيس بوش الانتخابية، في حين بلغت خسائر انهيار الشركة حوالي 31مليار دولار، وسببت بذلك خسائر فادحة للمستثمرين لعشرات الالآف من المواطنين الأمريكيين بعد تضليلهم في عملية طويلة الأمد وخداعهم بأرباح الشركة الآيلة للإفلاس.

في البدء كان اسم الشركة "HNG/InterNorth Inc.", على الرغم من أن شركة "InterNorth" كانت الشركة الأسمية "الرمزية" الأم. تم بناء مقر رئيسي كبير وفخم من الرخام الزهري في أوماها (كان يطلق عليها محليا باسم القصر الزهري) التي تم بيعها في وقت لاحق لشركة الأطباء المتبادلة . ومع ذلك فإن رحيل Samuel Segnar صموائيل سنقار الرئيس التنفيذي السابق لInterNorth واول رئيس تنفيذي لEnron بعد ستة أشهر من الاندماج يسمح لKenneth Lay كينث لاي الرئيس التنفيذي السابق ل Houston Natural Gas":HNG" ليصبح الرئيس التنفيذي المقبل للشركة التي اندمجت حديثا.

ليس ببعيد نقل Lay مقر الشركة ليصبح في Houston هيوستون (بعد الوعد بابقائها في أوهاما) وبدأ في تغيير الأعمال. لاي Lay وسكرتيرته Nancy McNeil أختارا اسم جديد وكان في الاصل "EnterOn"، ولكنه علم ان معنى كلمة EnterOn في اليونانية تعني الأمعاء تم تعديل الاسم واختصاره بسرعة ليصبح "Enron" ,تم القرار على الاسم النهائي بعد طباعة بطاقة الاعمال والقرطاسية وغيرها من البنود باسم "EnterOn".

إن إفلاس شركة انرون Enron لا يعد حدثاً عابراً في سجل الولايات المتحدة الاقتصادي، بل هو يكشف عن الوجه الآخر لآليات النظام الأمريكي القائم على قوة الرأسمال وفوضى تحالفاته، ويوضح هشاشة ذلك النظام أكثر من أي وقت مضى. فدرس انرون يظهر مدى التداخل بين التكنولوجيا المتطورة باعتبارها من مرتكزات العقيدة العسكرية الأمريكية وقوة الاقتصاد... ولم تكن شركة انرون Enron على اتصال بالرئيس بوش وحده، بل قامت بالاتصال بدك تشيني نائب الرئيس ووزيري المالية أونيل Paul O Neill والتجارة دونالد إيفانس وكان سعر السهم في انرون قبل الإفلاس يتراوح 86-31 دولار في حين يصل سعر السهم بعد الإفلاس إلى "70 سنتاً" فقط. إن انهيار انرون لا يعكس طبيعة الفوضى الاقتصادية التي تنتاب الاقتصاد الأمريكي فحسب، بل تؤكد أيضاً عمق الفساد الإداري الناتج عن هذا النظام.

وطال إفلاس انرون شركات أخرى كشركة "ارثراندرسون " للخدمات المحاسبية لاتهامها بالتواطؤ مع انرون والتلاعب في البيانات وإتلاف عدد كبير من المستندات والوثائق الخاصة بالشركتين. كما اعنت مؤسسة " وورلد كومWorld Com وهي ثاني شركة اتصالات في العالم عن إفلاسها تحت وطأة فضيحة مالية تقدر ب 8ر7 مليار دولار وجبل من الديون بلغ 41 مليار دولار. وطال مسلسل الفضائح شركة زيروكس العالمية باعتبارها اكبر منتج لتقنيات التصوير في العالم، والتي يعتمد عليها الجيش الأميركي في تصنيعه العسكري. وبلغ الاتهام أيضاً شركات أخرى مثل ميريل لينش المالية ومؤسسة كلوبال كروسينج وشركة اديلفيا للاتصالات وكويست وكمونيكا شنز وهي تعد ثاني اكبر شركة (كابل) في الولايات المتحدة.

وفي سؤال للمفكر الاقتصادي الدكتور سمير أمين حول علاقة عسكرة العولمة والمشكلات الكبرى التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي، أجاب: بان الولايات المتحدة تحاول فرض مشروع الشرق أوسطي، وهو مشروع أمريكي_ إسرائيلي مضمونه فرض الليبرالية سيطرة امريكية بقيادة إسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط الكبير أو ما يعرف بإسرائيل الكبرى.

الجميع يعلم الدور الأساسي الذي لعبته وتلعبه إسرائيل في عملية السلام Peace process في الشرق الأوسط ، وكذلك في ليس خافيا تدخلها فيما يطلق عليه بأنابيب السلام Peace Pipe التي تشمل تبادل غاز ونفط الخليج العربي مع المياه التركية _ الإسرائيلية.

كل تلك الخطط لا يمكن تنفيذها إلا من خلال تفكيك الوحدات السياسية في الشرق الأوسط" عمليات الفوضى البناءة". فهل تريد الصهيونية العالمية التعويض عن الخسائر الاقتصادية والفضائح المالية والفساد السياسي الداخلي والمرض الاقتصادي المزمن الذي أصبحت تعيش فيه، بعد أن استنفدت معظم خياراتها الداخلية، بالتغطية على كلّ ذلك من خلال الحروب التي تشنها بين الفينة والأخرى؟

في الأفق يبقى الهاجس التكتيكي الانتخابات الامريكية وتغيير الرئيس أوباما، وحسب نتائج ذلك قد تتشكل القوة الصهيونية من جديد لعسكرة الشرق الاوسط الكبير في محاولة لإدماج إسرائيل بل جعلها قطبه النابض، عبر منحها وزناً إقليميا كبيرا. ومن الخطأ التفكير المسبق بأن بما أن شعوب المنطقة رافضة للنموذج الأمريكي فإن ذلك لن يتحقق، بل إن الأوضاع السياسية والاقتصادية الناتجة عن عمليات الحرب على الإرهاب هي التي ستحدد مواقف تلك الشعوب والحكومات، والعدو اليوم قد يصبح المخلص غدا.

مما سيقودنا مظطرين للبحث عن مصير حقوق الانسان في حال تمكن التحالف الامريكي -الصهيوني من تهجير الفوضى الخلاقة الى مناطق أخرى من العالم؟



9- ما مصير حقوق الانسان في زمن الفوضى والحرب على الارهاب؟

بتعبير آخر كيف يحمي الإنسان إنسانيته في زمن الفوضى والحرب على الارهاب ؟

في زمن الصراعات المسلحة تزداد انتهاكات حقوق الانسان، وتبدو تلك الحماية المقررة لحقوق الإنسان في زمن السلم غير كافية، بل وحتى غير ملائمة لاختلاف ظروف الحرب عن ظروف السلم.

ليس هذا فحسب، بل ان الحماية المقررة في القانون الدولي الانساني تعود للعقود الاخيرة من القرن الـ 19 وبذلك فهي قد سبقت الحماية المقررة لحقوق الانسان في زمن السلم والتي لم تشرع دولياً، الا في عام 1948 باصدار الاعلان العالمي لحقوق الانسان.

وسبب هذه الاسبقية معروف، ذلك ان ما ينجم عن الحروب من مآسي وكوارث واصابات وضحايا تعد ارهاصات تشكل الحاحاً على الضمير الانساني اخطر من الانتهاكات التي تقع في زمن السلم، لان اثار الدماء والحرائق والخرائب تكون اثقل على النفس البشرية من الانتهاكات ذات الاثار الاعتبارية او تلك المقيدة للحرية او المسيئة للكرامة الانسانية.

يشير البعض الى حقيقة مخيفة وهي "أن الاصل في العلاقات الدولية على ما يبدو هو الحروب والاختصام وليس الوئام والسلام".

ولا شك انه على الرغم بشاعة الحروب فان البشرية لم تخل وعلى مر العصور من دعاة لسلام وصالحين ومفكرين كانوا ينادون ليس فقط بتخفيف معاناة الضحايا بل كانوا ينادون بوقف الحروب وويلاتها ومع هذا فالحرب لم تتوقف، ولا يمر قرن من الزمان حتى نشاهد حرائق الحروب وويلاتيها شاخصة كجزء من الطبيعة البشرية، ولهذا واذا كان ايقاف الحروب بشكل مطلق حلم يصعب تحقيقه فانه من غير الممكن ان تترك هذه الامور المأساوية على عواهنها ودون منطق ودون تنظيم او قيد.

ولهذا كان دائماً هناك من ينادي بضرورة تنظيم الحروب للحد من ويلاتها او على الاقل التخفيف منها.

وكان المسلمون في طليعة الامم التي نظمت الحروب على قواعد الرحمة والانسانية، اذا نظر المسلمون للحرب كضرورة مفروضة ولا يلجأ الى القتال الا لضرورة دفع العدوان ولا ينبغي الاستمرارية في النزاع ان لاحت بوادر السلام. ولعل الوصية التي اوصى بها الخليفة الراشد ابو بكر الصديق قائد جيشه اسامة بن زيد تبرز بشكل واضح المبادئ الانسانية التي تشبع بها المسلمون الاوائل اذ جاء في الوصية: لا تخونا ولا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأه ولا تعقروا نخلا ولا تحرفوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً الا لمأكلة وسوف تمرون باقوام قد فرغوا انفسهم في الصوامع فدعوهم ما فرغوا انفسهم له".

كما نجد ان مفكري عصر النهضة كجان جاك رسو وروفائيل ولك قد نادوا بالتخفيف في ويلات الحروب، ولعل البلاغ الامريكي حول قواعد الحرب البرية لعام 1863 من أول الوثائق المكتوبة في العصر الحديث لتنظيم امور الحرب.

غير ان الامر اختلف في عام 1864 عند ابرام اتفاقية جنيف بتحسين احوال حرجى الحرب ثم بولادة فكرة الصليب الاحمر عام 1859. اذ نجد امامنا، تنظيماً دولياً واهتماماً منظماً بامور الحرب غير ان التنظيمات الأولى لقانون الحرب كانت تنصب على جزيئات معينة كاتفاقية جنيف 1864 انف الذكر لاسعاف المرضى والجرحى في الحرب البرية او اعلان سان بطرسبورك سنة 1868 بتحريم بعض انواع الرصاص او كانت تنصب على تقنينات خاصة او غير ملزمة لبعض قواعده كتقنين اكسفورد سنة 1880 لمجمع القانون الدولي او مشروع اعلان بروكسل سنة 1874.

وقد تطور الامر بعد انعقاد مؤتمرات الصلح التي عقدت في هولندا عامي 1899 و1907 والتي اثمرة عن اتفاقيات سميت قانون لاهاي والتي ركزت على الوسائل المسموح بها في اثناء العمليات الحربية.

غير ان اهم حدث في تاريخ البشرية كان ابرام اتفاقيات حنيف الاربع المبرمة في 1949 والبرتوكولين الملحقين بهذه الاتفاقيات. اذ جرى بموجب هذه الاتفاقيات تحديد الاطار العام للتنظيم القانوني لقانون الحرب ولأول مرة تتسع الحماية لتشمل تنظيم اوضاع المدنيين في زمن الحرب.

وتعد الاتفاقيات الاخيرة مع قانون لاهاي الاساس الذي يتكون منه القانون الانساني الذي عرفه البعض: هو مجموعة المبادئ والقواعد المتفق عليها دولياً والتي تهدف الى الحد من استخدام العنف في وقت النزاعات المسلحة عن طريق حماية الافراد المشتركين في العلميات الحربية او الذين توقفوا عن المشاركة فيها. والمرضى والمصابين والاسرى والمدنيين، وكذلك عن طريق جعل العنف في المعارك العسكرية مقتصراً على تلك الاعمال الضرورية لتحقيق الهدف العسكري.

ولهذا نجد ان جل اهتمام واضعي الاتفاقية الخاصة باحترام قوانين واعراف الحرب البرية التي ابرمت في 18 اكتوبر/ تشرين الأول 1907 واللائحة الملحقة بها قد انصب على تعريف المحاربين ومعالجة موضوع اسرى الحرب وموضوع المرضى والجرحى والجواسيس والمفاوضون واتفاقيات الاستسلام واتفاقيات الهدنة...

والجدير بالذكر ان هذه الاتفاقية اشارت الى المدنيين من سكان المناطق المحتلة، ففي في القسم الثاني في موضوع العمليات العدوانية ، حيث اشارت المادة 23 منعت على وجه النصوص في الفقرة (ب) اللجوء الى الغدر لقتل او جرح افراد من الدولة المعادية او الجيش المعادي.... وكذلك منعت الفقرة (ج) الاعلان عن نقض حقوق ودعاوي مواطني الدولة المعادية او تعليقها او عدم قبولها ويمنع على الطرف المتحارب.... ايضا منعت اكراه مواطني الطرف المعادي على الاشتراك في عمليات الحرب ضد بلدهم حتى ولو كانوا في خدمة طرف النزاع قبل اندلاع الحرب.

والحقيقة ان القسم الثالث من اللائحة المتعلقة بقوانين واعراف الحرب البرية هو الاهم بالنسبة لحقوق الانسان ولحقوق المدنيين ، اذ انصب ذلك القسم على كيفية ادارة اراضي العدو من قبل السلطة العسكرية. حيث فرضت المادة 43 على السلطة العسكرية للدولة المحتلة تحقيق الامن والنظام العام وضمانه، مع احترام القوانين السارية في البلاد، وحظرت المادتين 44 و 45 اجبار سكان الاراضي المحتلة على الادلاء بمعلومات او تقديم الولاء للقوة المعادية كما حظرت المادة 47 السلب....

وقد نصت المادة 46 على حماية حقوق الانسان عندما اوجبت "احترام شرف الاسرة، وحياة الاشخاص والملكية الخاصة، وكذلك المعتقدات والشعائر الدينية، ولا تجوز مصادرة الملكية الخاصة".

وهذه الحماية التي تقررها هذه المادة تتطابق مع الحماية المقررة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عام 1948 في العديد من المواد اذ نصت المادة 3. على ان "لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخص" ونصت المادة 16 فـ 3 على ان "الاسرة هي الوحدة الطبيعية الاساسية للمجتمع ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة"، كما نصت المادة 17 على الاتي: "1- لكل شخص حق التملك بمفرده او بالاشتراك مع غيره. 2-لا يجوز تجريد احد من ملكه تعسفاً".

وقد صدرت العديد من الاتفاقيات لتنظيم شؤون المنازعات المسلحة كان من ابرزها اتفاقية منع الابادة الجماعية واتفاقيات جنيف الاربع.

وتعني الابادة الجماعية بنظر المادة 2 من اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي اقرت بقرار الجمعية العامة للامم المتحدة في 9/كانون الأول/ ديسمبر/ 1948 واصبحت نافذة المفعول في 12 كانون الثاني/يناير/ 1951 ، الافعال الاتية:

أ- قتل اعضاء من الجماعة.

ب- الحاق اذى جسدي او روحي خطير باعضاء من الجماعة.

جـ- اخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً او جزئياً.

د- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون انجاب الاطفال داخل الجماعة.

هـ- نقل اطفال من الجماعة عنوة الى جماعة اخرى.



وقد نصت المادة الثالثة من تلك الاتفاقية على ان يعاقب على الافعال التالية:

أ- الابادة الجماعية.

ب- التأمر على ارتكاب الابادة الجماعية.

جـ- التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الابادة الجماعية.

د- محاولة ارتكاب الابادة الجماعية.

هـ- الاشتراك في الابادة الجماعية.



ومن الملفت للنظر ان هذه الاتفاقية قد اعدت للسريان في وقت السلم وزمن الحرب. لذا فهي تعد من الاتفاقيات التي تدخل ضمن الميدان المشترك للقانون الدولي الانساني وقانون حقوق الانسان.... كما انها تقرر العقوبة ليس فقط على الافراد بل وحتى على الحكام الدستوريين والموظفين العامين ... كما ان تلك الاتفاقية لا تعد جرائم الابادة الجماعية من الجرائم السياسية.

واذا انتقلنا الى اتفاقيات جنيف الاربع فانها قد اوردت تنظيمات شاملة لفترات الحرب. ولعل اهم ما يلفت الانتباه في هذه الاتفاقيات هو اصرارها جميعاً على حماية حقوق الانسان مما حدا بها لوضع المادة 3(5) المشتركة في جميع هذه الاتفاقيات لحماية الاشخاص الدين لا يشتركون في الاعمال العدائية او الذين لا يشتركون مباشرة في الاعمال العدائية بمن فيهم "افراد القوات المسلحة الذين القوا عنهم السلاح، والاشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض او الجرح او الاحتجاز او لاي سبب اخر، يعاملون في جميع الاحوال معامل انسانية، دون أي تمييز ضار يقوم على العدو او اللون، او الدين او المعتقد او الجنس او المولد او الثروة او أي معيار اخر".

وقد حظرت الاتفاقيات بالنسبة للاشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في النشاطات العدائية، الاعمال التالية وتبقى محظورة في جميع الاوقات والاماكن:

أ- الاعتداء على الحياة والسلامة المدنية، وخاصة القتل بجميع اشكاله والتشوية والمعاملة القاسية والتعذيب.

ب- اخذ الرهائن.

جـ- الاعتداءات على الكرامة الشخصية، وعلى الاخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة.

د- اصدار الاحكام وتنفيذ العقوبات دون اجراء محاكمة سابقة امام محكمة مشكلة تشكيلاً قانونياً وتكفل جميع الضمانات القضائية اللازمة في نظر الشعوب المتمدنة.



وهذه النصوص تتطابق مع الاحكام المقررة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العديد من مواده... فحماية الحياه والسلامة البدنية مقررة في المادة 11 ، ومنع التعذيب مقرر ايضا في المادة (5) التي نصت على الاتي: لا يعرض أي اسنان للتعذيب ولا للعقوبات او المعاملات القاسية او الوحشية او الحاطة بالكرامة" كما ان الاعتراف بالكرامة الشخصية، مقرر في الاعلان العالي لحقوق الانسان اذ جاء في الديباجة ما يأتي "لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع اعضاء الاسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو اساس الحرية والعدل والسلام".

اما ما يتعلق بالمحاكمة العادلة فهو الاخر قد نص عليه الاعلان العالمي في المادة (10) التي نصت على انه "لكل انسان الحق على قدم المساواة مع الاخرين، في ان تنظر قضيته امام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته، واية تهمة جنائية توفق اليه، ولو رجعنا للاتفاقيات جفيف الاربع لوجدنا ان اتفاقية جفيف الاول انصبت على موضوع تحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان.

اما اتفاقية جنيضف الثانية فهي قد عالجت موضوع جرحى ومرضى وغرقى القوات المسلحة في البحار.

وقد نصت المادة (12) من الاتفاقية على الاتي "يجب في جميع الاحوال احترام وحماية الجرحى والمرضى والغرقى ممن يكونون في البحر من افراد القوات المسلحة وغيرهم".

وقد عدت الاتفاقية مخالفات جسيمة الافعال الاتية: اذا اقترفت ضد اشخاص محميين او ممتلكات محمية بالاتفاقية: القتل العمد التعذيب او المعاملة اللانسانية، بما في ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة تعمد احداث الام شديدة او الاضرار الخطيرة بالسلامة البدنية او بالصحة تدمير الممتلكات او الاستيلاء عليها على نطاق واسع لا تبرره الضرورات الحربية وبطريقة غير مشروعة وتعسفية.

اما جنيف الثالثة فقد انصبت على معاملة اسرى الحرب وقد جاءت المادة الثالثة بالاحكام السابقة بشأن حماية حقوق الانسان لغير المشتركين في الاعمال العسكرية وقد اوجبت المادة 13 من الاتفاقية معاملة اسرى الحرب "معاملة انسانية في جميع الاوقات، ويحضر ان تقترن الدولة الحائزة أي فعل او اهمال غير مشروع يسبب موت اسير في عهدتها، ويعتبر انتهاكاً جسيما لهذه الاتفاقية، وعلى الاخص لا يجوز تعريض أي اسير حرب للتشويه البدني او التجارب الطبية او العلمية من أي نوع كان مما لا تبرره المعالجة الطبية للاسير المعني او لا يكون في مصلحته.

وبالمثل يجب حماية اسرى الحرب في جميع الاوقات وعلى الاخص ضد جميع اعمال العنف او التهديد وضد السباب وفضول الجماهير" وقد اكدت المادة 4 على ان "لاسرى الحرب حق في احترام اشخاصهم وشرفهم في جميع الاحوال ويجب ان تعامل النساء الاسيرات بكل الاعتبار الواجب لجنسيهن ويجب على أي حال ان يلقين معاملة لا تقل ملائمة عن المعاملة التي يلقاها الرجال ويحتفظ اسرى الحرب بكامل اهليتهم المهنية التي كانت لهم عند وقوعهم في الاسر ولا يجوز للدولة الحاجزة تقييد ممارسة الحقوق التي تكفلها هذه الاهلية سوى في اقليمها او خارجه الا بالقدر الذي يقتضية الاسر" واوجبت المادة 15 على الدولة التي تحتجر اسرى الحرب ان تتكفل بانعاشتهم دون مقابل وتقديم الرعاية الطبية التي تتطلبها حالتهم الصحية مجاناً.

واحكام هذه المادة تتفق والاحكام المقررة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان وعلى الاخص المادة 6 التي نصت صعلى ان كل انسان اينما وجد الحق في ان يعترف في شخصيته القانونية.

امات الاتفاقية الرابعة فهي الاهم على الاطلاق لانها عالجت موضوعاً مهماً هو موضوع حماية الاشخاص المدنيين في وقت الحرب ففضلاً عن الحكم الوارد في المادة 3 المشتركة فقد اوردت تلك الاتفاقية نصوصاً توفر اشكالاً متعددة من الحماية للمدنيين فالمادة الخامسة توجب معاملة الاشخاص المحميين بنسانية حتى ولو كانوا قد اتهموا بالجاسوسية او التخريب او بنشاطات تضر بامن دولة الاحتلال.

كما اوجبت ضمان حقهم بمحاكمة عادلة. كما ان المادة 16 اوجبت توفير حماية واحترام خاصين للجرحى والمرضى والغرقى والحوامل والمعرضين لخطر كبير وحمايتهم من السلب وسوء المعاملة وحرمت المادة 18 الهجوم على المستشفيات المدنية كما اوجبت المادة 24 اتخاذ التدابير الضرورية لضمان عدم اهمال الاطفال منمن هم دون 15 من العمر الذين افترقوا عن عوائلهم بسبب الحرب وقد خصصت الاتفاقية الرابعة الباب الثالث من القسم الأول للاقرار بحقوق المحميين بل ان بعض مواد هذا القسم تعد مجرد تكرار لما جاء في المادة 3 المشتركة مما يوحي بان المقصود هو التأكيد واعطاء تفصيل بماهية الحماية فقد نصت المادة 27 على ان: "للاشخاص المحميين في جميع الاحوال حق الاحترام لاشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم ويجب معاملتهم في جميع الاوقات معاملة انسانية وحمايتهم بشكل خاص ضد جميع اعمالهم او التهديد وضد السباب وفضول الجماهير ويجب حماية النساء بصفة خاصة ضد أي اعتداء على شرفهن ولا سيما ضد الاغتصاب والاكراه على الدعاره او هتك عرضهن. ومع مراعاة الاحكام المتعلقة بالحالة الصحية والسن والجنس، يعامل جميع الاشخاص المحميين دون أي تمييز ضار على اساس العنصر او الدين او الاراء السياسية على ان لاطراف النزاع ان تتخذ ازاء اشخاص المحميين تدابير المراقبة او الامن التي تكون ضرورية بسبب الحرب.

ونصت المادة 31 على حظر ممارسة أي اكراه بدني او معنوي ازاء الاشخاص المحميين خصوصاً بهدف الحصول على معلومات منهم او من غيرهم. وتحظر المادة 32 "جميع التدابير التي من شأنها ان تسبب معاناة بدنية او اباذة للاشخاص المحميين الموجودين تحت سلطتها ولا يقتصر هذا الحظر على القتل او التعذيب او العقوبات البدنية او التشوية والتجارب الطبية والعلمية التي لا تقتضيها المعالجة الطبية للشخص المحمي وحسب ولكنه يشمل ايضاً أي اعمال وحشية اخرى سواء قام بها وكلاء مدنيون او وكلاء عسكريون.

وقررت المادة 37 بانه: "لا يجوز معاقبة أي شخص محمي عن مخالفة لم يقترفها شخصياً وتحظر العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد او الارهاب والسلب محظور وتحظر تدابير الاقتصاص من الاشخاص المحميين وممتلكاتهم وقد اكدت المادة 35 على حق التنقل وهو من حقوق المقررة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان في المادة 13 منه.

واكدت المادة 38 على حقوق الاجانب وعلى الاخص مفي الحصول على امدادات الاغاثة والعلاج الطبي والسماح لهم بممارسة عقائدهم الدينية والحصول على المعاونة الروحية من رجال دينهم والاهم في هذه المادة انها اقرت بمعاملة تفضيلية لذوي الاحتياجات الخاصة.

وقد نصت المادة 39 على الحق بالعمل ولكنه خاص بالاشخاص المحميين الذين فقدوا بسبب الحرب عملهم الذي يتكسبون منه في حين ان المادة 23 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان قد نصت على هذا الحق بشكل مطلق اذ نصت الفقرة الاولى من تلك المادة على ما يأتي "لكل شخص الحق في العمل وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية كما ان له حق الحماية من البطالة" وقد نظمت المواد 41،43 امر تدابير المراقبة او فرض الاقامة الجبرية او الاعتقال كما حظرت المادة 49 النقل الجبري الجماعي او الفردي للاشخاص المحميين او نفيهم من الاراضي المحتلة الى اراضي دولة الاحتلال او الى اراضي أي دولة اخرى كما منعت المادة 51 ارغام الاشخاص المحميين على الخدمة في يالقوات المسلحة في دولة الاحتلال ونظمت المادة نفسها موضوع عدم جواز ارغام الاشخاص المحميين على العمل كما حظرت المادة 53 تدمير أي ممتلكات خاصة ثابتة او منقولة تتعلق بافراد او جماعات او بالسلطات العامة او المنظمات الاجتماعية او التعاونية الا اذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتما هذا التدبير.

ويجري التأكيد على ان القانون الدولي الانساني هو قانون نشأ على مبادئ اساسية اهمها مبدأ الفروسية الذي يمنع المقاتل من الاجهاز على جريح او اسير او مهاجمة الممتلكات الخاصة للاشخاص المدنيين غير المشاركين في العمليات القتالية وعلى مبدأ الضرورة الذي يقوم على فكرة قوامها ان استعمال اساليب العنف والقسوة والخداع في الحرب يقف عند حد قهر العدو وتحقيق الهدف من الحرب وهي هزيمة العدو وكسر شوكته فاذا ما تحقق الهدف من الحرب على هذا النحو امتنع التمادي او الاستمرار في توجيه الاعمال العدائية ضد الطرف الاخر وكذلك على مبدأ الانسانية الذي يدعو "الى تجنب اعمال القسوة والوحشية في القتال خاصة اذا كان استعمال هذه الاساليب لا يجدي في تحقيق الهدف من الحرب".



10- ما هي ضمانات تطبيق قانون حقوق الانسان في ظروف الحرب؟

من الامور المسلم بها ان حالة الحرب والنزاعات المسلحة تعد من الامور الطارئة وهي بهذا الوصف تدخل ضمن حالات الطوارئ التي يجوز فيها للدولة تقييد بعض حقوق الانسان استناداً لحالة الطوارئ هذه.

وبمعنى اخر ان حالة الحرب تعد ظرفاً طارئاً تستطيع خلاله الدول ان تتحلل من بعض الحقوق المنصوص عليها في قانون حقوق الانسان.

اما بقيت الحقوق المصانة والاساسية فلا يجوز المساس بها في فترة الحروب والنزاعات المسلحة وفي فترة الطوارئ لانها من الحقوق غير القابلة للتقييد او السقوط لذلك يمكن القول ان حقوق الانسان المصانة والتي لا يجوز المساس بها والمقررة في حقوق الانسان تسري هي ايضاً في وقت الحرب جنباً الى جنب مع احكام قانون الدولي الانساني وتعد مكملة وداعمة ومعززة للقانون الانساني وهذه الحقوق هي:

- الحق في الحياة.

- وحظر اعمال التعذيب والعقوبات الا انسانية او المهينة

- وعدم جواز تطبيق القوانين الجنائية بأثر رجعي

- وتحريم الرق والعبودية واعمال السخرة

- وحظر اخضاع أي انسان دون رضائه الحر للتجارب الطبية او العلمية

- وعدم جواز سجن الشخص بسبب عدم قدرته على الوفاء بالتزامه التعاقدي

- وحرية الفكر والضمير والمعتقد الديني



ويرى البعض ان الاتفاقية الامريكية لحقوق الانسان قد اضافة الى هذه الحقوق ذات الحصانة حقوقاً اخرى لا يجوز المساس بها في ظروف الطوارئ والظروف الاستثنائية وهي:

- الحق في الاسم

- وحقوق الاسرى

- وحقوق الطفل

- والحق في الجنسية

- والحقوق السياسية



اما الحقوق غير الاساسية فيجري تقييدها استناداً الى حالة الطوارئ والى ظروف الحرب.

ومن المناسب الاشارة الى ان القواعد المقررة في بعض المواثيق الدولية وعلى الاخص حقوق الطفل وحقوق المراة يجب ان تبقى سارية في زمن الحرب بوصفهم من اصحاب الاحتياجات الخاصة ممن يتوجب تقرير الحماية لهم بشكل اقوى واشد في زمن الحرب لذلك فيفترض ان تبقى الضمانات المقررة لهم سارية زمن الحرب استناداً الى مبدأ التطبيق من باب أولى، ذلك انه اذا كنا نوجب تطبيق تلك القواعد في شأنهم زمن السلم فان تطبيقها يكون اوجب في زمن الحرب وزمن المنازعات المسلحة ولذلك فيمكن تقرير مبدأ يقوم على اساس ان قواعد حقوق الانسان تكون واجبة التطبيق في زمن الحرب كلما كنا ازاء اشخاص لهم احتياجات خاصة، وهذه المشاركة والتأزر بين القانون الدولي الانساني وقانون حقوق الانسان مسألة طبيعية لانها تعود الى حقيقة يتفق عليها الجميع وهي: "ان حماية الانسان من ويلات الحروب وشرورها هي الغاية العظمة للقانون الدولي الانساني كما ان حماية الانسان ذاته من بطش وتعسف السلطة هو الغاية العظمة للقانون الدولي لحقوق الانسان ومن هنا فان نقطة الالتقاء الاولية بين القاننين تكمن في ان الانسان هو محور الاحماية ومحلها فكلاهما مكرس لتحقيق هذه الغاية".

وبالنظر لتداخل مجال التطبيق للقانونين فقد وصل الامر بالبعض الى المناداة بالدمج بين القانونيين فجان بيكتيه يذهب "الى اهمية النظر الى القانون الدولي الانساني نظرة شمولية عريضة بحيث يمكن القول ان هذا القانون يشتمل على فرعي قانون الحرب وحقوق الانسان وبهذا يمكن القول بان القانون الدولي الانساني يتكون من كافة الاحكام القانونية الدولية سواء في التشريعات او القوانين العامة التي تكفل احترام الفرد وتعزز ازدهاره وذلك في محاولة منه لايجاد علاقة ترابط بين القانونيين بحيث يمكن اعطاءها تسمية افضل ويطلق عليها اسم مشترك هو (القانون الانساني) بمعنى العريض لهذه المشكلة".

ولكن المشكلة التي تواجه البشرية اليوم هي مشكلات النزاعات المسلحة غير الدولية فمع انحسار الحروب بانتهاء الحرب العالمية الثانية تفجرت العديد من النزاعات الاقليمة والداخلية و بؤر الارهاب في مناطق مختلفة من العالم.

وعلى الرغم من ان هذه النزاعات مشمولة باحكام القانون الدولي الانساني الا ان تلك الاحكام يجري تجاوزها بشكل مستمر والسبب في ذلك يعود الى انه كثيراً ما يصعب تشخيص الجهة التي خرقت القانون الدولي لانها قد تكون ميلشيات سرية لا يعرف احد حقيقتها ولا اماكن تواجدها كما قد ترتكب من افراد او مجموعات صغيرة يصعب كشفها وتشخيصها وقد كشفت احداث راوندا ويوغسلافيا السابقة الى ان القائمين بها ينتمون الى مجموعات عرقية او طائفية توفر لهم الحماية والملجأ الامن وان الجنات قد يتوارون بين الجماهير المؤيد لهم بشكل يصعب لهم الوصول اليهم لانهم لا عنوان لهم ولا مناصب وظيفية معلومة ولهذا فقد حصلت مجازر لا مثيل لها في التاريخ دون ان يعاقب مرتكبوها جميعاً فقد ابيدت جماعات عرقية كاملة وشرد الملايين واغتصبت نسوه ودفن البعض احياء ويكفي ان نشير الى بشاعة ما حدث ضد المسلمين في البوسنة والهرسك والتي وصلت الى حد ان بعض المناطق غطت جثث القتلة مسافة 50 – 70 متراً.

والغريب "ان عالمنا بكل ما حققه من ثورات علمية وتكنلوجية ومن مكتسبات في مجال الديمقراطية في حقوق الانسان ومن تحولات سياسية عميقة لا زال يشر ماسي انسانية مهولة ناتجة عن الحروب والتصفية الاثنية والعنصرية والتعصب واهدار حقوق الافراد والشعوب احياناً.

وقد سلط البعض الضوء على جانب اخر مهم من المشكلة في ان التعاون بين القانون الدولي الانساني وقانون حقوق الانسان يمكن ان يأتي من خلال دوراً اخر للقانون الاخير اذ بأمكان قانون حقوق الانسان المساهمة في التخفيف من السراعات العرقية والطائفية ولا سيما الداخلية وينطلقون في توضيح هذه الفكرة من حقيقة ان انتهاكات الداخلية لحقوق الانسان والتي تقع على الشعوب من قبل السلطات الحاكمة ذات الانظمة الشمولية والاستبدادية هي ارضية الخصبة لاثارة النعرات الطائفية والعنصرية وكثيراً ما تتشكل جماعات متطرفة نتيجة لمعاناتها من التهميش في بلادها ومن الفقر والاهمال وتعبر عن احتجاجاتها عن الواقع من خلال اعمال عنفاً عشوائية تستهدف الضحايا الابرياء فاذا ما طبقت مبادء ديمقراطية وحقوق الانسان والمساواة بين ابناء البلد الواحد بمختلف مكوناته واعراقه ودياناته وتمت المساواة في توزيع الثروات القومية والقضاء على الفساد امكن معالجة الازمات وامكن حلول دون اثارة الصراعات الداخلية.

وهذه الحلول المبنية على معالجة اسباب الازمات والصراعات الداخلية يمكن ان تكون اجدى من تطبيق احكام القانون الدولي الانساني التي تطبق احكامها بعد نشوء الصراعات والعمليات العسكرية ذلك لانه على الرغم من ان المادة 3 من البروتوكلو الثاني توجب على قادة القوات المشقة التزام اعمال الحظر وقمع الانتهاكات التي يرتكبها افراد منظماتهم ان حدثت. الا ان من الصعوبة بمكان تنفيذ المواثيق الدولية بحق هذه الجماعات لصعوبة رصد مرتكبيها وامكانية تواريهم بين الاهالي المدنيين.

وعلى الرغم من نقاط التلاقي والاتفاق بين القانون الدولي الانساني وقانون حقوق الانسان وان احدهما يكمل ويعزز الاخر الا ان ذلك لا يمنع من وجود بعض الاختلافات ذات الطبيعة الفنية في الاغالب اذ يختلف مضمون القانون الدولي الانساني عن مضمون القانون الدولي لحقوق الانسان في ان الأول يعنى بصفة اساسية بحماية الفرد والممتلاكات المدنية من الاضرار التي قد تنجم عن العمليات العسكرية في حين ان قانون حقوق الانسان يعنى بصفة اساسية بالفرد لضمان حقوقه اتجاه سلطة دولته والقانون الدولي الانساني انما يعالج ارتباط حقوق المواطنين في دولة هي طرف في نزاع مسلح في مواجهة القوات المسلحة لدولة اخرى طرف في ذات النزاع.

كما تختلف آليات تنفيذ القانون الدولي الإنساني عن آليات قانون حقوق الانسان فآليات تطبيق القانون الدولي الإنساني انما تعتمد على دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر وعلى دور الدولة الحامية كما ان هناك دوراً جنائيا في تطبيق ذلك القانون على المستوى الوطني اذ توجب اتفاقيات جنيف الاربع وتقرر وجوب اعمال قاعدة الاختصاص الجزائي العالمي أي ان على كل طرف متعاقد ملاحقة مجرمي حرب لمحاكمتهم امام القضاء وعلى المستوى الدولي فقد جرى استحداث محاكم خاصة لمحاكمة مجرمي حرب عقب الحرب العالمية وهي محاكم نورتنبورغ المشهور وكذلك المحاكم الخاصة التي استحدثت لمحاكمة مجرمي الحرب في راوندا ويوغسلافيا ويمكن ان يشار الى ان تطور الية تطبيق القانون الدولي الانساني وصل الى مداه بتشكيل المحكمة الجنائية الدولية التي اعتبرت نظاماً قضائياً متكاملاً في هذا المجال.

اما اليات تطبيق قانون حقوق الانسان فانه يخضع لرقابة عالمية تتمثل في الامم المتحدة والاجهزة المخصصة والتابعة لها. إذا كانت هذه الآليات فشلت في آداء دورها في زمن الحروب التي اصبحنا نسميها كلاسيكية، هل من دور لها على الاطلاق في زمن الحرب على الارهاب؟

هل سنجد منظمة انسانية تتدخل للحيولة دون الاعتداء على من يطلق عليهم بالارهابين بدعوى الدفاع عن الحقوق الانسان في الوقت الذي نجد فيه ان هذه الجماعات يتم غزوها لعدم احترامها لحقوق الانسان؟؟؟؟

بالطبع أي منظمة ستحاول ذلك ستجد نفسها مغضوب عليها من طرف الجميع، وقد تقطع عليها المساعدات ... بل قد تتعرض للقصف اثناء اداء مهامها...



11- إذن ما الحل؟ أو كيف نقطع الطريق على الفوضى الخلاقة المفتعلة ؟

يرى جان كلود غيبو Guillebaud Ciaude Jean ضرورة إحداث ما يسمى ب "انقلاب العالم" لوضع بديل خاص به في مواجهة العولمة؛ هذا الانقلاب هو مزيج من "الثورة المعلوماتية" و "الثورة الاقتصادية الشاملة".

لكن فكرة انقلاب العالم غير واضحة تماماً. وربما تحيلنا مرة أخرى إلى أفكار الفلاسفة الاشتراكيين في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إن لم تكن تستخدم عودة الروح إلى المذهب الفوضوي الذي أفل نجمه منذ بدايات القرن العشرين.

سؤال صعب، بل هو السؤال الصعب الوحيد المطروح حاليا، قبل قيام الفوضى العارمة، هل نتمتع بالكثير من الزمن للاجابة عليه؟ لا نعتقد.

كل المؤشرات تشير الى ان الفوضى ستتعمق وتتعاضم في منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم ستتسع دائرتها لتشمل مناطق مختلفة من العالم بسبب الارتباطات الاقتصادية والسياسية مع المنطقة... فهل من سبيل لقطع الطريق على الفوضى المفتعلة من منبعها - أي الشرق الأوسط-؟

الاجابة الأولية تكمن في ما يمكن أن نطلق عليه بـ " المقاومة الحضارية: أو المقاومة التقنو-اقتصادية " في الوقت الحاضر: أي الإقدام على إصلاحات سياسية واقتصادية ذات مغزى عميق، وتعطى الأولوية للإصلاحات الاقتصادية على السياسية دون إهمال الأخيرة. فمن الصعب إقناع الناس بجدوى التغيير بعيدا عن توفير الخبز والحياة الإنسانية الكريمة وسط تزايد مستمر لقطاعات المهمشين اجتماعيا واقتصاديا في مختلف أنحاء العالم.

هذه الإصلاحات يجب أن تكون نابعة من "الداخل" وليس ذات أجندات خارجية كما يحدث في هذه المرحلة من العلاقات الدولية في أكثر من بلد. تبدأ الإصلاحات في تحرير اقتصاد البلاد من التبعية للخارج، وتخليص البلاد من سلبيات الاقتصاد وحيد الجانب، وتحقيق التنمية المستدامة بما يسهم في رفع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة الدخل القومي. ويجب عدم الإضرار بالاستحقاقات الاجتماعية. أما الإصلاحات السياسية فتتجلى ببناء دولة المؤسسات وتكريس سيادة القانون، وتعزيز المسار الديمقراطي عبر احترام الرأي الآخر، والفصل بين السلطات الثلاث ووضع قانون ناظم للأحزاب الوطنية وإطلاق يد السلطة الرابعة " الإعلام " عبر المكاشفة والشفافية البناءة، ثم إطلاق مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل وفق القواعد والثوابت الوطنية؛ كل ذلك يتمّ على قاعدة الحوار الوطني وليس على قاعدة الفرض والإجبار من الخارج.


لكن أسلوب فرض الإصلاحات من الخارج بقي هو الوسيلة شبه الوحيدة في أجندة التغيير؛ ففي المؤتمر الصحفي في وزارة الخارجية في الحادي والعشرين من يوليو 2006، سُئِلَت كونداليزا رايس عن المبادرات التي تعتزم أخذها معها لإحلال السلام في لبنان أجابت: "ليس لديَّ اهتمام بالدبلوماسية من أجل إعادة لبنان وإسرائيل إلى الوضع السابق وأعتقد أن مثل هذا سيكون خطأً... ما نراه هنا، بمعنى من المعاني، هو تطوّر الولادة العسيرة لشرق أوسط جديد، وأيّاً كان ما نقوم به، يجب أن نكون على يقين من أننا ندفع نحو شرق أوسط جديد لن يؤدي إلى القديم" (أ.هـ) فهناك رؤية واضحة لدى الصهيونية العالمية أن لب الجوهر في الهجوم على الشرق الأوسط هو تنفيذ نظرية "الفوضى البنّاءة" التي تمت رعايتها وتغذيتها منذ زمن طويل.

يكفي ان نشير هنا الى أن ديفيد بن غوريون عام 1957 مؤسس الكيان الإسرائيلي في رسالته الشهيرة التي نشرت كملحق في مذكراته الصادرة بعد وفاته، قد أصر على دفنه في صحراء النقب، ليذكّر الإسرائيليين دائما بمشروعهم الاستيطاني الذي أنطلق منذ عام 1948، ثم أضيفت فكرته هذه إلى مشروع استعماري واسع للشرق الأوسط كتب عام 1996 تحت عنوان: (الكسر النظيف) وهي ستراتيجية جديدة لتأمين إسرائيل: تلك الوثيقة، التــي كتبتها مجموعة من مفكري المحافظين الجدد (IASPS) قد هُيئت من قبل فريق من الخبراء جمعهم "ريتشارد بيرل" ثم أعطيت للمتطرف بنيامين نتنياهو. هذه الأفكار تمثل أطروحات فلاديمير جابوتينسكي شخصيا، وتدعو الوثيقة إلى: إلغاء اتفاقيات السلام في أوسلو، والقضاء على السلطة الفلسطينية الهشة في رام الله بعد إشعال حرب سياسية بين فتح وحماس وتجزئة الأراضي الفلسطينية بين غزة حماس والضفة الغربية فتح وصولا إلى ضم ما تبقى من الأراضي الفلسطينية( يهوذا والسامرة) إلى إسرائيل، بعد إحداث اكبر عملية تهجير للسكان العرب على غرار ما حدث بعد حرب عام 1948 ولن يمكن ذلك إلا بعد "حرب مؤقتة إستباقية " يمكن من خلالها للرأي العام العالمي هضم العملية برمتها. ثم القضاء على الأنظمة المتشددة تجاه إسرائيل كنظام صدام حسين -;-والأسد بسوريا، ونظام إيران الإسلامي الشيعي، وتفكيك العراق إلى دويلات طائفية وعرقية متصارعة، ولتتطوع إسرائيل لاستكمال وضعها كقاعدة أساسية في (مشروع حرب النجوم) الذي كان من تصميم الرئاسة الريغانية والذي حصد على المستوى الستراتيجي عموما انهيار الاتحاد السوفيتي السابق. فهل يمكن بعد تلك الحرب الافتراضية الجديدة دخول العالم إلى حيز جديد من العلاقات الدولية ما بعد سبتمبر (آخر)؟

وجاءت محتويات الوثيقة في الخطاب المهم الذي ألقاه بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي في اليوم التالي لاستلامه لها مباشرة. فجميع عناصر الوضع الأمني المستقبلي في الشرق الأوسط موجودة في تلك الوثيقة، بما فيها المطالبة بضم القدس الشرقية إلى دولة إسرائيل، حيث يتم الاعتراف بها كعاصمة نهائية للدولة العبرية. وهذا الرأي يلتقي مع موقف الإدارة الأمريكية المُتمثِّل بالسيطرة على المناطق الغنية بالنفط التي حددها المفكر الستراتيجي الأميركي زبينغو بريجينسكي وبرنارد لويس والمعروف ب "قوس الأزمة". وبمعنى آخر القوس الممتد من خليج غينيا إلى بحر قزوين المار بالخليج، حيث يتطلب إعادة تعريف للحدود والدول والنظم السياسية: "إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير" بعد ذلك؛ إذا ما أردنا استخدام تعبير جورج دبليو بوش.

أما الشرق الأوسط الجديد الذي دعت له كونداليزا رايس ، فالفكرة بسيطة إلى حدّ ما وهي تتلخص في استبدال الدول الموروثة عن انهيار الإمبراطورية العثمانية بكيانات أصغر تتسم بأحادية الطابع العرقي والطائفي، وتحييد هذه الدويلات بجعل كل واحدة منها ضد الأخرى على نحو مستمر. وبعبارة أخرى: الفكرة تتضمن إعادة العمل بالاتفاقيات السرية المبرمة عام 1916 بين الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية.

لكن من أجل تحديد الدول الجديدة، لا بد أولاً من تدمير الدول القائمة حاليا. هذا ما تقوم به الصهيونية العالمية بزعامة فرنسا بعدما رفض اوباما القيام بهذا الدور، بحماس متواصل لا نظير له مِن قِبَل السَحَرة المتمرسين في عملهم على النتائج المترشّحة عن السياسات العملية التالية:إن الأراضي الفلسطينية المتبقية بعد حرب الأيام الستة عام 1967 تم تقليصها بنسبة 7% مما يمهد الطريق لسيناريو الإفراغ الكامل بعد ذلك. وقطاع غزة والضفة الغربية مفصولان بجدار، والسلطة الفلسطينية من الممكن زجها في حرب بين الفصائل المختلفة حتى يتم إضعاف مواقفها الوطنية ومحق قدراتها على حشد بعد عربي أو إسلامي، فضلا عن قيام إسرائيل بسجن عناصر قوتها ووضعهم في حالة أسر يصعب الفكاك منها.

لكن لماذا أغلب المحللين العرب يرددون نفس التحاليل، المشار إليها أعلاه، لكن لا أحد يعمل بخلاصاتها؟ هل هناك اوجه اختلاف في طريقة التفكير ام طريقة التفسير أم الممارسة العملية أم ماذا؟؟؟؟؟



12- تفسير الأحداث اليومية بين الفكر الغربي والفكر العربي ...أو أين الفكر الشرقي من معركة الفوضى؟

ينظر الإنسان الغربي إلى الأحداث الماضية بعين مختلفة وهو لا يحاول أن يلجأ إلى التفسيرات الماورائية عموما، كما هو عليه الحال في الفكر القدري للإنسان الشرقي الذي دأب على تفسير الأحداث من خلال قوى تحركها من خارج الطبيعة. لذلك فإن ظاهرة "الفوضى الاجتماعية" حيث الثورات والحروب والصدامات الكبرى المختلفة وضعت الإنسان الغربي على المحك الوجودي من جديد. كما أن فوضى الطبيعة حيث الزلازل والفيضانات والعواصف والحرائق الكبرى هي مصدر بحث لمعرفة الأسباب الكامنة وراءها، مثلما هي الفوضى الصناعية الناتجة عن اتساع دائرة الأوزون والاحتباس الحراري وانهيار الكتل الجليدية الكبرى.

بيد أن الشرق مازال بعيدا عن المعركة التي يمكن أن تشتعل في أية لحظة لاتينيا بعد أية حرب نووية محدودة النطاق أو خطأ تشيرنوبلي أوسع نطاقا أيضا.

تلك المفارقة الرؤية التي توجس الخطر القادم جعلت من الشرق متلقيا دائما في حقب ما بعد النهضة الأوربية، وحتى إلى ما بعد الإعلان الأميركي العالمي عن عمليات الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر عام في أفغانستان عام 2001. يبدو أن الفكر الغربي قد تمكن من صرع الفكر الشرقي هذه المرة أيضا، في نزال مفتوح أكثر من أي وقت مضى. فالإنسان الغربي يعد مفكرا بالحياة والتاريخ في أسبابه ومسبباته أكثر من انشغالاته بعالم ما بعد الموت، وما سيؤول إليه من عقاب وثواب أخرويين. ولذلك فإن فكرة الفوضى كمرجعية فلسفية هي من أهم انشغالات الغرب في هذه المرحلة الشائكة، في وقت بقي الإنسان الشرقي يحيل التطورات الكبرى إلى مرجعيات ما ورائية غالبا وهو يحصد التلقي الدائم.

درج الفكر الغربي منذ عصر النهضة الأوربية على تلك الرؤية التشكيكية مما اكسبه قدرات مهمة على التفسير وإمكانات قلما نجدها لدى الشرق الذي أصبح بمرور الزمن شبه تابع له. وما المحاولات التي يبذلها الإسلاميون كمفكرين في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا الجولة الأخيرة لعملية صراع كبير امتد قرونا منذ الحملة الصليبية التاسعة على العالم العربي في فلسطين عام 1095م وظهور القوى الاستعمارية الأوربية في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر. وليتطور الغرب إلى قوة أعظم في القرن العشرين تحملت البشرية منه وحده وزر ثلاثة حروب عالمية أولاهما ساخنتين.

كلّ تلك القائمة الطويلة من العلماء والفلاسفة والمفكرين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والأدب الحديث الذين كانوا يبحثون أساسا في معنى الحياة ومحاولة تفسيرها عبر الفوضى التي تجتاحها من حين لآخر على أسس من العقلانية البحتة، لم يستطيعوا كبح جماح الموت الواسع الذي اجتاح القارة الأوربية في النصف الأول من القرن العشرين ثمّ انتقلت العدوى على نطاق بؤر ساخنة هنا وهناك إبان الحرب الباردة حتى بلغت 81 حربا حتى عام 2000.

نتج عن قوة دوي الانهيار قي الربع الأخير من القرن المنصرم عددا من النظريات المهمة حول الحضارة الغربية القديمة والحديثة، وبدأت سلسلة من التفسيرات لوضعية الفكر الشرقي في عيون غربية استشراقية أو غير استشراقية أحدثت تأثيرا كبيرا على طريقة التفكير الشرقية بالعالم. ولكن ما يزال الإنسان الغربي ينظر إلى تلك الانهيارات الكبرى بدهشة كاملة منذ أن تمكنت الكتابة المخترعة في العراق في حدود 2500 قبل الميلاد لتضع الفكر والعقل الغربيين أمام سلسلة من التساؤلات البعيدة عن الإجابات الجاهزة الماورائية.


العولمة والفوضى البناءة تتمظهران على نحو دائم في عسكرة هي بمثابة الشكل النهائي لنظرية لفوضى البناءة.

خلاصة قد تبدو واضحة للبعض في حين تعد قسرية وبدون تبرير بالنسبة للبعض الآخر، لذلك وجب التنبيه الى انه من أهم ظواهر القرن الحادي والعشرين هي انتشار حمى التسلح والتسلح النووي خاصة, وهي مشكلة كبرى ستتفاقم على المستوى العالمي لتخلق فوضى عارمة ربما يصعب السيطرة عليها مثلما هو الحال الذي واجه العالم عام 1939 حيث نشبت الحرب العالمية الثانية وانتهت عصبة الأمم ككيان هش غير قادر على تنظيم العلاقات الدولية.

لذا فان دول الجنوب ستجد نفسها في وضع سيتطلب منها التكيف مع المستجدات الخطيرة الدولية بشكل جدي وفي وقت قياسي (انتهى زمن ملك الملوك والحاكم الالاه والزعيم الخالد مع موت القذافي). لأننا في وقت تجد فيه دول الشمال الصناعي ما يكفي من الامكانيات والمعرفة لتنظيم عالم الجنوب في وقت قياسي (سريع) وفق مصالحها.

ولنا خير مثال ما يجري في منطقة "آسيا الوسطى الكبرى" والتي كانت الى وقت قريب تسمى "الشرق الأوسط الكبير" التي تعد المجالها الحيوي التطبيقي لجميع الاطروحات غير المكتملة من قبيل اطروحة الفوضى البناءة التي تعد الذراع العملي والنظري للعولمة الصهيونية المعاصرة.

لأنه وبالعودة إلى الوراء بعض الشيء، نرجح أن تكون سلسلة "الثورات الملونة وثورات الربيع العربي" التي كان من المقرر لها ألا تخرج عن نطاق "الفوضى الخلاقة"، اندلعت في معضمها تحديدا في إطار ما أطلق عليه "الشرق الأوسط الكبير" باستثناء تونس وليبيا.

اذن عسكرة العولمة هي من أوضح صور العولمة الحالية. بعدما نجحت العولمة الاقتصادية والعولمة الإعلامية والعولمة الثقافية.... إلا أن عسكرة العولمة هي من أخطرها على الإطلاق حتى الوقت الحاضر ...

وإذا كنا قد رصدنا جانباُ من جوانب عسكرة العولمة الحالية , فإن الأحداث القادمة في منطقة الشرق الأوسط سوف تؤكد من جديد استمرار هذا الأسلوب . ولذلك لابد من متابعة عسكرة العولمة والقيادة الصهيونية لها بما يخدم محاولات تفهمها واتخاذ أساليب علمية ومحددة إزائها.

ربما ستستمر اجتياح الفوضى للعالم العربي والإسلامي او ما سيسمى "بآسيا الوسطى الكبرى" عقودا من الزمن من وجهة نظرنا، واقع الحال يشبه في تكوينه إلى حدّ ما تلك الحروب الرعناء التي شنت على العالمين العربي والإسلامي إبان بداية الألفية الثانية. بيد أنه من الصعب إجراء مقاربة أولية في الوقت الحاضر فالحرب التي تشن الآن هي في بدايتها. وما مفهوم الفوضى البناءة إلا محاولة أولية أيضا من وجهة نظر الصهيونية لتفهم طبيعة الصراع العسكري والإعلامي الجاري في منطقة الشرق الأوسط، والذي يراد له أن يتحول إلى صراع فكري في الوقت نفسه...

لكن الأكيد والواضح، في السياق نفسه، أن مراحل أكثر تقدما آتية في الطريق لذا فالصهيونية والغرب عموما يحثون الخطى في هذا الاتجاه من اجل وضع نوع من الايدولوجيا لأعمالهم العسكرية الكبيرة وما الفوضى البناءة إلا واحدة من هذه الطروحات الأولية .

تحياتي

عبد العالي الجابري

وجدة في 10/12/2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينتزع الحراك الطلابي عبر العالم -إرادة سياسية- لوقف الحرب


.. دمر المنازل واقتلع ما بطريقه.. فيديو يُظهر إعصارًا هائلًا يض




.. عين بوتين على خاركيف وسومي .. فكيف انهارت الجبهة الشرقية لأو


.. إسرائيل.. تسريبات عن خطة نتنياهو بشأن مستقبل القطاع |#غرفة_ا




.. قطر.. البنتاغون ينقل مسيرات ومقاتلات إلى قاعدة العديد |#غرفة