الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بغداد - نص مشهدي مسرحي

عبد الرحمن جاسم

2005 / 11 / 7
الادب والفن


(أغنية سعدون جابر "يا لمعيبر" تصدح في الخلفية، المسرح عبارةً عن ضفتي نهر، وفي الوسط، قاربٌ متهالك قديم، وصاحب القارب مهمته إيصال الناس بين ضفتي دجلة، لافتةٌ إلى اليمين تشير إلى المكان، والضفتان تبدوان بعيدتين عن بعضهما للغاية).
(الموسيقى الخلفية تكمل في أغنية سعدون جابر، لتعود إلى موسيقى لمنير البشير، صاحب القارب يهيئ قاربه بهدوءٍ شديد)
صاحب القارب: عسى أن يكون نهار خير. (يرفع رأسه ليرى رجلاً قصيراً بثياب غريبة يقترب منه).
صاحب القارب: أهلاً، أهلاً.
الرجل: أتوصلني للضفة الثانية، ولك أجرك.
صاحب القارب: هذا عملي، يا أهلا وسهلاً.
الرجل(يبدوخائفاً): عجِّل يا رجل، المدينة كلها خلفي، كل المدينة تطلبني.
صاحب القارب(ينظر حوله، ويمد رقبته خارج القارب): لكنني يا سيدي لا أرى أحداً، أأنت واثقٌ أنك ملاحق، ليس هناك من أحداً في الطريق؟
الرجل: أتتهمني بالكذب يا هذا، (ويشهر سيفاً كان يخفيه تحت ثيابه).
صاحب القارب: العفو، العفو، يا سيد، أنا قلت ما أراه، أنا لم أقصد تكذيبك.
الرجل (يخفض سيفه، يهدأ ويجلس، ثم يقول بخشونة): إذا دعنا نمضي، هيا.
صاحب القارب: ولكن يا سيدي ألا تخبرني من أنت؟ (يبدأ القارب مسيرته المتأنية في عباب دجلة)
الرجل: وما شأنك أنتَ ولكن ليس هناك من مشكلة، أنا سيد المغول، أنا هولاكو.
صاحب القارب: هولاكو التتاري؟( ويحدث نفسه): هولاكو القاتل.
هولاكو: ويحك يا رجل، ماذا تقول؟ أسمعني.
صاحب القارب: لا تغضب يا سيد المغول، أنا لم أقل شيئاً، ولكن لِمَ كان الناس يلاحقونك.
هولاكو: الناس؟ يلاحقونني؟ أنا من لونت النهر هذا بالأسود، أنا من صبغت بغداد كلها بالدماء، يأتي يومٌ ويلحقني فيه الناس لقتلي.
صاحب القارب: ولكن دجلة لا يحب أن يلون!
هولاكو(يبدو كما لو أنه لم يسمع الجملة): أنا لا أفهم، كيف يفعلون هذا، لقد كنت أخيفهم، اقتل منهم من أريد، كيف يثورون علي، الخوف! ألا يخافون الموت. لقد فتحت هذه المدينة، وقتلت كل من فيها، واستبحت كل شيء، ولم تسقط، دمرت مكتباتها وحضارتها، ولم تسقط، (ينظر باتجاه المدينة المضيئة على الضفة الأولى)، يا مدينة تؤرق الفاتحين، أنا هولاكو، أعترف بعجزي أمامك، فتحتك، ولم افتحك، غزوتك وانتصرتِ أنتِ، ماذا تريدين مني.
صاحب القارب: اهدا يا سيد المغول، تكاد تقع من القارب.
هولاكو(لا يسمع نداء صاحب القارب ويكمل غضبه الساخط): يا بغداد، كلما تصورت أنني سأمسك بزمامكِ أكثر، كلما تحكمتِ فيَّ أكثر، أقتل شاعراً، فيخرج كاتب، أزهق كاتباً، فيأتي مغنٍ، أخنق مغنياً، فيظهر مقاوم، قولي لي من أين لكِ بهم، من أين، ماذا تريدين مني، ماذا يريد أهلكِ مني، أرحل، أنا راحل، أنا لا أريدك، أنا لا أريدك...(هولاكو يتحدث وهو يحرك يديه بعنف، ويزداد عنف حركاته، والنهر موجه هائج، وفجأة يقع في النهر، فيلتقمه النهر ولا يعود يظهر منه شيء).
صاحب القارب: أظن أن النهر أخذ حقه منك في النهاية يا سيد المغول، أنتَ لونته بالأسود، وهو أخذك لتدفع الثمن. (يدير القارب ويتحكم به، ليعود إلى نفس الضفة التي جاء منها).
(الموسيقى في الخلفية، تعود إلى اغنية سعدون جابر الأولى (يا لمعيبر) ولكن في مقطعٍ آخر "لك ساعة ذهب عبرني، شو تقول العرب عبرني")
صاحب القارب: عسى أن يكون الرزق خيراً هذه المرة.
(تقترب سيارة كبيرة، ينزل منها رجلٌ مرتدياً الأخضر، يحمل أمتعةً كثيرة للغاية).
الرجل: أنتَ، ستوصلني إلى الضفة الثانية.
صاحب القارب(بهدوء، كما لو أنه لم يسمع نبرة التهديد والأمر): أوصلك نعم. هذا عملي.
الرجل(يقترب من القارب والأمتعة التي يحملها تكاد توقعه على الأرض): ساعدني يا رجل ألا تراني أكاد أقع.
صاحب القارب(يحمل شيئاً من المتاع ولكنه يعود ويدرك صعوبة أن يحتمل القارب كل المتاع): ولكن يا سيدي إن القارب لا يحتمل كل هذه المتاع، ما رأيك أن تترك بعضها هنا.
الرجل: أتركه؟ هل جننت يا رجل! هيا احمله وإلا سأقتلك هنا.
صاحب القارب: تقتلني؟ لماذا أنا لم أقل شيئاً. (صاحب القارب يساعد في نقل الأشياء بصمت شديد).
الرجل: هيا فلننطلق طالما انتهينا. (القارب ينطلق في دجلة الصاخب الأمواج)
صاحب القارب: لكن يا سيدي، لم تقل لي من أنتَ، ولماذا تريد نقل كل أغراضك؟ ولمَ أنت غاضب؟
الرجل: كلكم هكذا يا أبناء بغداد، تريدون معرفة كل شيء، ولا يأمن منكم أحد.
صاحب القارب: نحن؟ بالعكس نحن طيبون للغاية، (ينظر إليه بتمعن، وإلى الأمتعة كذلك)، ولكن هل أعرفك من قبل؟ أظن أنني رأيتك أو رأيت هذه الأمتعة من قبل.
الرجل: نعم، أنا رجل الحرية!
صاحب القارب: رجل الحرية؟ آه،(يتحدث مع نفسه بصوتٍ خفيض)، هذا الكاذب المدعي الذي أتى ليحتلنا، تحت اسم الحرية. (ينظر إلى الرجل، ثم يعود لعمله في القارب).
رجل الحرية: ماذا يا رجل؟ ألا تعرفني؟(يتحدث إلى صاحب القارب بسخط).
صاحب القارب: لا، لا أعرفك.
رجل الحرية: ماذا تقول أنا من أتيت من بلادي لكي أمنحكم الحرية التي لطالما حلمتم بها.
صاحب القارب: لكن يا سيدي، الحرية لا تعطى، الحرية تأخذ، الحرية تستحق، أنت لا تعطي شيئاً لا تملكه، الحرية أن تختار، وأن تنتقي وأن تريد. وكيف نفعل هذا وأنتَ وعتادك فوق رقابنا.
رجل الحرية: ماذا تقول يا رجل؟(بكل انفعال) أنت منهم أليس كذلك؟ تريد قتلي أليس كذلك؟
صاحب القارب: لست أريد قتلك، لست أريد منك شيئاً، وأنت الآن ترحل، فليس هناك من مشكلة بيننا، أنا لا أعادي أحداً.
رجل الحرية: بلى(يحمل مسدسه ويهرع صوب صاحب القارب، ويضع الفوهة على صدغ صاحب القارب)، وستعترف الآن من معك.
صاحب القارب(يجيب بسخرية): من معي؟ لا أحد معي، أنا وأنت في القارب وحدنا. (رجل الحرية يبتعد بغتة، ينظر حول نفسه، ويبدو كما لو أنه انتبه للأمر فجأة).
رجل الحرية: كل مرةٍ تقولون هذا، ويظهر منكم الآلاف، أنتم لا تحتملون، كل مرة، كل مرة.(رجل الحرية يجلس في أرضية القارب، يكاد يبكي، يضع رأسه بين راحتيه).
صاحب القارب: يا رجل الحرية، أنا لا أعرف الكثير، لكنني أعرف أن الناس لا يحبونكم، لا لأنكم أغراب، ولكن لأنكم تظلمون، وتقولون ما لا تفعلون، هل اختيار طريقة الموت، اختيار؟ هل الإجبار على انتقاء نوع من الطعام، اختيار؟ هل تهجيرك من بلدك اختيار؟ أخبرني كيف هو شكل الحرية التي تعدوننا بها.
رجل الحرية: توقف يا رجل، توقف أو أسكتك بنفسي.
صاحب القارب: يا رجل الحرية، أنا لست عدوك، أنت عدو نفسك، مالك ومالنا، ماذا تريد منا، هل هو زيتنا؟ هل أغراك زيتنا بالمجيء؟ يا رجل الحرية، زيتنا لنا، وزيتك لك، هل لاحقناك يوماً على زيتك؟ هل أخذنا منك شيئاً ذات يوم وجئت تحاسبنا عليه؟ إذا قل لي ماذا تريد منا؟
رجل الحرية: أنا؟ أنا لا أريد زيتك، أنا أريد حقي!
صاحب القارب: حقك؟ هل لك حق في أرضنا، وجئت لتأخذه؟ وكيف يكون حقك وهو حق أجدادنا وأولادنا، كيف يكون حقك وأنت لم تطأ هذه الأرض في حياتك.
رجل الحرية: حقي، حق القوة! حق كل حضارة أقوى من غيرها. ألم تفعلوا أنتم في الماضي ذلك؟
صاحب القارب: فعلناها، فعلناها، وكنا مخطئين وتعلمنا، تعلمنا أن لا نفعل ذلك مرةً أخرى.
رجل الحرية: أتقول لي ماذا يجب أن أفعل؟ هل تعلّمني؟
صاحب القارب: كلا، كلا، أنا لا أعلمك، لكن افهم يا رجل الحرية، نحن لا نكرهك، ليس بيننا وبينك شيء، لكن طالما أنت هنا، لست بأمانٍ هنا، كل الأشياء لا تحبك، كل الأشياء. (يصلان إلى منتصف النهر، الأمواج لا تزال غاضبة مرتفعة)
رجل الحرية: لا شيء يؤثر بي، لا شيء، أنا أقوى من هذا كله، ومنكم، أنا أقوى(يقف على قدميه، ويرفع يده بمسدسه ويقول): سأدفعك ثمن كل ما تفعله بي. (القارب يهتز بعنف، من جراء موجهٍ عالية، يختل توازن القارب، ورجل الحرية يسقط في الماء، يحاول صاحب القارب أن يساعده، لكن لا يستطيع، النهر يأخذ رجل الحرية معه).
صاحب القارب: يا رجل الحرية، قلت لك، لست أول واحد ولا آخر واحد، ولكن النهاية ستبقى واحدة، كلكم سيأخذكم النهر نفسه. كلكم. (يدير قاربه بهدوء ليعود إلى نفس الضفة، الموسيقى تعود لتصدح في المكان من جديد، وأغنية سعدون جابر (يا لمعيبر) تعود لتظهر من جديد).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب