الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثالوث الأقدس الذي دمّر الشرق وأهله

علي سيريني

2015 / 12 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


لعلّ من أفجع التغيــُّـرات في تاريخ الأمم والشعوب هو التغيـُّـر الذي بدأ في أواخر الدولة العثمانية، وتوج بإنتصار عظيم للمد الجديد الذي حمل هويته، وصفاته، وأجندته وأهدافه. المد الجديد تمخض عن إنتصار أمم الغرب على أمة الإسلام (الشرق)، ليس في ميدان الحرب فحسب، بل وفي ميادين أخرى، فكرية وسياسية وعلمية وإقتصادية و... الخ. الأدهى والأمرّ من هذا هو أنه للمرة الأولى صار للغرب جيوش متطوعة في داخل شعوبنا الشرقية، وإن كانت صغيرة الحجم، لكنها مخلصة ومنقادة إليه، في مجالات ليست عسكرية وسياسية فقط، بل وفي مجالات أخرى تصدت لها هذه الجيوش المتكونة من الأقليات الدينية، والضباط، والمثقفين، والموظفين ونخب أسروية حاكمة في مناطق متفرقة، وأخرى انخرطت في مجال التصدي للحكم لاحقا حتى ارتقت إلى سدة الحكم، وأصبحت أسر حاكمة في ما بعد؛ في توليفة جديدة أمست تقليداً معتادا عليه عند عامة الناس بمرور الزمن، حيث ارتخت أحبال الإتصال بالماضي القريب الذي كان يحمل هوية أخرى وصفات وأهداف مختلفة، وتوليفة غير التي حلّت في العهد الجديد. ورغم أُلـْـفة الناس بالعهد القديم ومعرفتهم به وإعتيادهم عليه لقرون طويلة، لكن العهد الجديد فرض نفسه بقوة مطهمة رسّخت قواعد الإعتياد بصرامة وإرهاب، لكنها ظلت إلى اليوم عاجزة عن الرسوخ الطبيعي وبقيت مكسوة بالغربة: غربة الناس عن هذا العهد ومفرداته وروحه ومده، وحضوره المألوف، لكن الشاذ عن روح الأمة وتأريخها!
يعد أتاتورك، أحد أبرز العرّابين والقوّادين للعهد الجديد. لكن المؤسسة التي أنتجت هذا العهد الجديد، والتي كانت واجهتها جمعية الإتحاد والترقي في تركيا، كانت قد تكوّمت عبر أكثر من مجرى، ولها رموزها في أكثر من بلد، لاسيما مصر وتركيا، ليس على شكل تنظيم مركزي بل على أساس ردة فعل للطوفان الغربي الجارف وتماهياً معه. ويعد رفاعة رافع الطهطاوي من أشهر النماذج التي لفظها الطوفان الغربي نحو تخوم الشرق، فنبت من بقايا الجرف أمثاله من نـَـبْتٍ زقوم وجدنا رؤوسه و أغصانه في بلاد المشرق والمغرب العربي، لقرن كامل، في نظامٍ ظل يحكم، بإفتخار، بهوى الطوفان الغربي الذي بهر الطهطاوي وأمثاله بمظهره وإنعكاسه.
من هنا تكونت ثقافة مقدسة، ميزانها في تقييم الأشياء ظل يعمل وفق ما يراه الغرب من قياس صحيح ومقادير صحيحة. فما رأه الغرب حسُناً، فهو عند الطبقة المستولية من جديد حَسُن. فنمت وترعرعت مفاهيم جديدة مثل الديموقراطية والليبرالية وما إلى ذلك من جانب، والإشتراكية والمساواة وما شابه من جانب آخر. وأمسى التعامل مع ما نملك من ثقافة وتراث وقيم ومفاهيم، تعاملا، يشبه تعامل الناس مع الآلة المعطلة المحروقة، التي لم تعد ذات صلاحية وفائدة. ومن أخطر الأمور في هذا المجال هو إصطناع مذهب جديد بسم التقدم والعلم، وهو مراجعة التاريخ والتراث الشرقي بموازين وأدوات غربية، وهو أمرٌ –ربما- لم يسبق له مثيل في تأريخ الأمم والشعوب. على أي حال، هذا النمط الجارف رسّخ نفسه في خلال نظام جديد، بدأ يتشكل رويدا رويدا بتعاون وتظافر جهات ثلاث. الجهة الأولى كانت الدول الغربية ذي الماضي الصليبي الحاقد على أمتنا، والمعادي لوجودنا: كل الوجود. هذه الدول جاءت من جديد لابسة قناع المرحلة الجديدة، ولكنها ظلت في الجوهر نفس ما كانت عليها في العهود التي سبقت. وسمّى الموالون الشرقييون المرحلة الجديدة بمرحلة "الإستعمار"، مع أنه، أي الإستعمار، لم يكن سوى إستخراب حقيقي. هذه الجهة مازالت إلى اليوم صاحبة القرار الحقيقي في الشرق، واللاعب الأكبر في تقرير يومه وغده، بشكل مباشر عبر التدخلات الفاضحة، أو عبر وكلائه من اللاعبين المحليين الذين يشكلون بدورهم الجهة الثانية والثالثة. الجهة الثانية تشكلت من الأسر الملكيّة الحاكمة في أول الأمر، ثم تغير الأمر في بعض الأمصار (الدويلات الإقليمية القومية الجديدة بعد سايكس بيكو) إلى "جمهوريات" عسكرية عبر الإنقلابات المعروفة. في الوقت الراهن، تتوزع هذه الدويلات بين هذين النموذجين، مع إضافة الفوضى التي حلّت كعواقب للثورة التي ضربت العهد الجديد بزلزال قوي كاد يدمره، لكن تحالف الثالوث الأقدس استطاع أن ينجو وأن يعود بقوة. الجهة الثالثة هي النخب التي تكونت من خلطة عقدة النقص وعقدة الإنبهار بالغرب. معظم هذه النخبة، خرج من بين ظهرانيي الأقليات الدينية الموالية للغرب، بسبب وشائج القربى الدينية بينها وبين الغرب، وكرهٍ لتراث المنطقة الذي عمّ منذ 14 قرنا. وتحت تأثير هذه النخبة، بدأت ثقافة جديدة تعم المنطقة، في آداء بدأ يأخذ شكلاً مقدساً، حتى صارت إثارة السؤال حول كنهها وجدواها وشرعيتها من المنبوذات، ومن الكفر البواح بهذه الثقافة الجديدة التي ليست سوى إنعكاس تام للثقافة الغربية، بل هي ظلها غير المفارق، بل وكلبها الوفي غير القادر على إمتحان مفرداتها وطرح السؤال عما يميز صالحها من فاسدها. هذه النخبة بدأت تكبر في خلال إستقطاب المتعلمين والطلبة والصحافيين والفنانين والضباط وحواشي السلطات الجديدة (من الجنسين الذكر والأنثى). من أبرز سمات هذه النخبة هو النفاق والكذب وضحالة المقدرة العلمية والفكرية والثقافية. لكنها مدعومة دعما قويا من تينك الجهتين، حتى استطاعت أن تسوّق ما تملك من بضاعة مزجاة، توحي لنا أنها هي البضاعة المطلوبة ذات الجودة والرقي والإحسان: البضاعة المقدسة.
كنتيجة واقعية لعمل هذه الجهات الثلاث في مسار منسجم ومتناغم ومتآلف، وعبر التراكم المستمر، تكوّن في مدى وأجواء الشرق تحالف ثلاثي مقدس، بل الأقدس، بين هذه الجهات الثلاث، من غير إعلان له ومن غير تسمية له. لكن مفردات هذا التحالف وجوهره وسريانه، على أرض الواقع، أصبح أكثر وضوحا من أي إعلان صوري، أو إجراء رسمي، لأن وجوده أطغى وأشد من أن ينكره من غمس في الغباوة إلى قعرها.
في ظل هذه الثقافة الجديدة المعادية للذات والتراث واالتأريخ الذي نملكه، تم الإيمان بالغرب ليس كمتفوق حضاري وعبقري العصر الذي لا ينافسه أحد، بل وكـ "إله" قادر لا مفر من العبودية المطلقة له. لذلك فحين انقلب بعض النخب (بقيادة العسكر) على النظام الملكي في أكثر من بلد عربي، لم ينقلب ليغيّر جوهر هذا المكنون، بل ليزيح هذا النظام وليقدم نفسه البديل الأجدر لتحقيق هذه العبودية المطلقة سواء كانت للمعسكر الغربي أو للمعسكر الشرقي (الإشتراكي).
لكن الأنظمة الملكية في بلاد النفط (دول الخليج)، ظلت مستقرة في كنف النظام العائلي للأسر الحاكمة التي ظهرت في أعقاب إنهيار الدولة العثمانية. ورغم الثروات الهائلة في هذه الدول، لكن الأسر الحاكمة أوكلت إليها مهمة تأمين نقل الثروة (النفط أولا)، إلى بلاد الأسياد بالثمن الذي يرتضيه الغرب. وأصبحت هذه العوائل تكبر وتنتج المزيد من الأمراء الأثرياء الذين لم تتجاوز قدرتهم، في بناء أي قوة تذكر، حدود السيطرة على مواطنيهم، فيما نامت هذه الأسر كلها مطمئنة البال في حماية الدول الغربية (أمريكا بدرجة أساس)، دون أن تملك حلماً كبيرا للبلاد التي تحكمها. ونظرا لإفتقاد هذه العوائل، للإمكانيات الثقافية، التي تخدم سيطرتها ضمن حدودها، والتي تجمّل صورتها، وتسوّقها على أساس أنها فعلا صاحبة دولة ونفوذ ومشروع، فقد وقع إختيارها على توكيل المهمة للمخلصين الأوفياء. فتم تعيين هؤلاء المخلصين من الذين يوالون أولياء النعمة (الغربيين). ولم يكن هناك أسهل من إيجادهم بين طبقة النخبة، من الأقليات الدينية، أو التي أمست نسخة مطابقة لها بين أبناء المسلمين، في التوصيف الذي ذكرناه سابقا. لذلك فليس من العجيب أن الآلة الإعلامية لهذه العوائل المالكة، تدار من قبل نخبة تعمل من أجل ترسيخ العهد الجديد الذي استمات في ترسيخه أتاتورك، ونظـّـر له كثيرون من الذين نبتوا في جرف الطوفان وانتشروا كالأشواك في بلادنا. ونظرة بسيطة على الجرائد والمجلات والشبكات الإذاعية والتلفزيونية، المدارة من قبل هذه النخبة، سواء في أوروبا أو في هذه الدول النفطية، تجدها مدعومة ومملوكة من قبل هذه الأسر، مما يكشف لنا عمق الزيف الذي يُباع في أثواب أمست مقدسة عندهم، ويريدوننا أن نراها كذلك! والغريب أن أمراء هذه الأسر لم يُذكروا في هذه الوسائل الإعلامية بأي نقد أو تقريح، رغم أنهم يمثلون أبشع النماذج في ما يخص المبادئ الغربية التي يُطبل لها في العهد الجديد، كالديموقراطية والليبرالية والمساواة والشفافية والتقدم...الخ. لكن هذه النخبة (ونسبة الأقليات الدينية فيها تكاد تكون نسبة الأسد)، ظلت تركز في هجومها المستمر على أي جوهر أو منحى أو جهد أو حركة تسير باتجاه العهد القديم (مرحلة ما قبل جمعية الإتحاد والترقي)، أي الذي ترسّخ لقرون عديدة. هاتان الجهتان، تلقتا دعما وحماية وترويجا كبيرا من لدن راعيها الأكبر، الجهة الأولى وهي الدول الغربية. لذلك فإن الأموال الضخمة في هذه الدول النفطية، لا تستثمر من أجل بناءٍ وتنميةٍ وتقدمٍ يَـعُـدْن بالنفع على شعوبها، بل تنتقل في صفقات إلى دول الغرب، فيما يقتطع جزء كبير منها لبحبوحة ورفاهية الآلاف من الأمراء (هناك في السعودية وحدها، على سبيل المثال، حوالي 24 ألف أمير!).
ولكن الأخطر، هو ما تمارسه هذه الدول النفطية عبر الأموال من تدخل مباشر ومميت في شؤون الدول الشرقية الأخرى، الأكثر سكانا والأغنى تأريخا وثقافة، لكن الأفقر مالاً وإقتصادا. فهذه الأموال تُصرف لأنظمة عسكرية تدعمها النخب التي ذكرناها. وكلتاهما من صنيع العهد الجديد. أما الفئة التي تدير الشبكات الإعلامية والصحافية لدول النفط، فمهمتها هي التنظير والترويج والتطبيل لهكذا سياسات تدميرية في عالمنا. وأوضح صورة وأفظع واقعة من بين المئات، هو ما حدث في مصر قبل عامين حين انقلب العسكر على ثورة شعب كان ولم يزل توّاقا للحرية. منذ تلك اللحظة التأريخية، حيث دقت نبضات النهوض الحضاري، وتململت الأجزاء المشلولة من جسد الأمة الذي وقف على قدميه يستشرف الآفاق، حتى استنفر العدو الغربي من أقصى المشرق (روسيا) إلى أقصى مغربه، الأوروبي والأمريكي، بكل إمكاناته، ليعيد الأمة إلى حالة الموت السريري. وحين استنفر هذا العدو، المُـتـّخَـذ كإلهٍ عند الجهتين الحاكمة في بلادنا، وبطانتها النخبة، تلاقت مصالحها جميعا في الوقوف ضد قيامنا، قيام الأمة. فكان أبرز تجلّي لهذا التحالف المقدس المسكوت عنه، والمعمول به منذ إنقلاب أتاتورك، هو ضرب الثوارت العربية في الصميم.
تزامناً مع هذه الجهات، هناك جهة أخرى وهي أيضا مناوئة ومعادية عبر التأريخ، يقودها النظام الإيراني الشيعي. لكنني سلطت الضوء على هذه الجهة في عدة مقالات، لذلك إستثنيتها هنا، في الحديث عن التحالف الثلاثي المقدس.
لا مفر من القيام، وهو آت لا محال. ولكن لن يحدث هذا القيام، إلا حين تلد القوة التي تهزم هذا التحالف المقدس، وتفك وشائجه وقواه. وأي حديث بغير ذلك، لن يغدو سوى متاهات تطيل درب القيام، ومسرحيات تغبش المشهد ووضوحه، كما هي الحال في مثال داعش رغم المفارقة!
للحديث بقية...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: ماذا عن إصدار محكمة عسكرية حكما بالسجن سنة بحق المعارض


.. مشاهير أمريكا. مع أو ضد ترامب؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الولايات المتحدة وإسرائيل ..الدعم العسكري| #التاسعة


.. ما هي التقنيات الجديدة لصيانة المباني الشاهقة؟




.. حماس تتهم إسرائيل بقطع الطريق على جهود الوسطاء | #غرفة_الأخب