الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صراع الهويات والعنف

سعد محمد رحيم

2015 / 12 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


يمنح العصر الحديث وعوداً لا يستطيع تلبيتها لكل البشر، بالأحرى لأغلبية البشر.. وهذا ما يخلق الشكل الأعقد للاغتراب، ومن أعراضها شعور كثر من أولئك البشر بأن لا مكان لهم في عالمنا الفسيح، فما يبدو في متناول أيديهم يعسر، أو يستحيل القبض عليه، ولا فرصة مناسبة لديهم بالمستطاع انتهازها على الرغم من الممكنات المتاحة عولمياً.. هنا يركن بعضهم للاستسلام والرضا بنصيبهم في الحياة الدنيا، وهؤلاء قد يستغرقون في التدين الصامت. ويمضي بعضهم في المحاولة المخيبة حتى النفس الأخير. ويختار بعضهم سلوك طرق أخرى، وهؤلاء صنفان.. صنف أول يستخدم الوسائل غير المشروعة للحصول على ما لم يحصل عليه بالطرق المشروعة. وصنف ثانٍ يحرِّضه تفكيره وحقده على تدمير العالم.. الإرهابي، في الغالب، هو مزيج من الصنفين الأخيرين.
يشير فيرن نيوفيلد ريديكوب في كتابه ( من العنف إلى التراحم ) إلى ما يطلق عليه تسمية ( حاجات الهوية )، ويحددها بالحاجة إلى؛ الأمن والترابط والاعتراف والكينونة والمعنى والفعل. وحين تُهدد هذه الحاجات وتحبط علينا توقع العنف.. فحاجات الهوية هي حاجات إنسانية لا يستطيع أي إنسان سوي التخلي عنها. والتحكم باحتمالات السلوك العنيف يتصل بالتحكم بملبيات الحاجات. والدولة الناجحة هي التي تستطيع ذلك عبر برامج تنموية، في مناخ ديمقراطي حر، يأخذ بنظر الاعتبار مبدأ العدالة كأولوية في العلاقة بين الحاكمين والمحكومين.. غير أن المبالغة في تلبية الحاجات، أو حتى عند المطالبة بها، وإذا ما تقررت على حساب الجماعات الأخرى يمكن أن تؤدي إلى مركزية عرقية ترفع من منسوب الكراهية التي هي الطاقة الدافعة لممارسة العنف.
"يبين ( رولاند ) فيشر أن الحاجة إلى احترام النفس يمكن أن تخلق الصراع. وعبر ملاحظة أن "احترام النفس مرتبط إيجابياً بهوية الجماعة وتماسكها، ومرتبط سلباً بالتهديد المدرك" يبين كيف أن هذه الحاجة تؤدي إلى التوجه نحو المركزية العرقية.
هذه الاعتبارات قد تقود إلى إمكانية إرباك نظرية الحاجات فيما يتعلق بحل المشكلة الناتجة عنها: فالحاجة إلى الهوية قد يكون لها ( جانب مظلم ) يبحث عن إشباع يُصعَّد ويديم الصراع أكثر مما يساعد على حلّه. وتبعاً إلى نظرية الهوية الاجتماعية، فإن الأفراد سوف يجاهدون لزيادة احترامهم لأنفسهم وتزيين هويتهم الاجتماعية عبر مقارنات مثيرة للحسد والبغضاء من الجماعات الأُخر. ما يخلق توجهات ذات مركزية عرقية سلبية... تحركها آليات مختلفة يمكن لاحترام النفس والحاجة إلى هوية اجتماعية إيجابية أن ينتج تشوهات مفاهيمية ومشاعر عدوانية وتعليقات سلبية موجهة نحو ما هو خارج المجموعة".
نعثر على أس العنف في تصورات مغلقة متشحة بهالات قداسة وهمية أنتجت أرواح جمّدت ضمائرها وفطرتها السليمة وجزءاً حيوياً من عقولها، وتنقّعت بالكراهية والقسوة. فالسرديات الكبرى المؤسِّسة للهويات الجماعية تنشأ بآليات الانتقاء والإبعاد والتزويق.. وقد قضى في الحروب المقدسة العبثية التي اندلعت على خلفية صراعات جماعات متخيلة عشرات ومئات الملايين من البشر.
لا شيء يسوِّغ العنف والإرهاب ولكن ثمة ما يفسِّرهما.. من غير التفسير لا يمكن الوصول إلى جذور المشكلة والتفكير بحلول.. وباستبعاد إرجاع السلوك العدواني إلى عوامل جينية كامنة في التكوين الفيسيولوجي للإنسان نواجه الفاعل الثقافي والسياسي، ونقر بدور التربية التي يتلقاها المرء والظروف الحياتية المحيطة بنشأته.. وأيضاً من غير إنكار حقيقة أن ثمة استعدادات دائماً عند بعض البشر للتخلي عن الوازع الأخلاقي ليكونوا شريرين وسيئين وميالين إلى الإيذاء، وحتى القتل إذا ما توافرت الأرضية المشجِّعة والملائمة، وهي أرضية مركّبة غالباً؛ سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية.
القسوة والشر قديمان، والتعصب عُرفَ في كل العصور، لكن هذه الصفات البشرية غير الحميدة وجدت أرضية جديدة، ربما هي الأخصب في التاريخ، للنمو والانتشار.. فالإعلام الذي سهلت صناعته واستخدامه، وأشرطة السينما التي تمجد العنف، ووسائل الاتصال فائقة السرعة، والأسلحة المنتشرة بأسعار رخيصة نسبياً، كل هذا يوفر بشكل سلس وفعّال الوسائل لبث العقائد المشبعة بالتعصب وكراهية الآخرين، وتكوين الجماعات الحاملة لتلك العقائد والمقاتلة باسمها.. هنا نحن نتحدث عن العقيدة القديمة المخصبة ببذور عولمية، وما بعد حداثية.
إرهابي اليوم معولم.. إنه وليد فشل التنوير وتشوهاته.. وهذا ما ينطبق على مشاريع التنوير العربية أكثر من غيرها.. الإرهابي المعولم اليوم هو فاقد الإحساس بالمكان الأم وبالحدود.. الإرهاب الإسلاموي بقدر ما هو نتاج عرضي لعصر العولمة هو صورته الشوهاء.. الإيديولوجيا الجهادية السلفية ليست سلفية بالكامل، إنها نتاج تكييف مع عناصر في عالمنا المعولم.. نزعة التدمير تنشأ من هنا.. يظن الإرهابي أنه يستعير كثيراً من أصل المعتقد القديم، لكنه في الحقيقة يصوغ معتقداً مغايراً متساوقاً مع مكانه المتخيل.. إن الحدود التي يسعى إلى محوها ليست الحدود الجغرافية وحسب وإنما حدود القيم السائدة كذلك، حدود الأخلاق بعبارة أوضح.. هذا الإرهاب هو نوع من العودة إلى مشاعية مبتذلة، خطرة، مشاعية فقدان المعنى والحدود والقيم، مشاعية الكراهية والانتقام.. ليس الانتقام من الآخر المختلف فقط وإنما الانتقام من العالم قبل ذلك..
الإرهابيون لم يخرجوا من كهوف العصور الغابرة بل جاؤونا من الأمكنة المفتوحة المضاءة للعولمة، الأمكنة التي على الرغم من سعتها لا تحتضنهم، أو لا يستطيعون امتلاكها.. هنا تستحوذ عليهم نزعة أن ينالوا كل شيء لأجل قتله وتدميره.. إنها شيزوفرينيا الإرهاب، وشيزوفرينيا العولمة. وبذا فإن هوية الإرهابي هي في وجه منها ضيقة مغلقة، وفي الوجه الآخر سائبة، مفتوحة، هلامية.
يعلمنا المراسل الصحافي الأمريكي روبرت د. كابلان في كتابه ( انتقام الجغرافيا ) أنه نتيجة خبرته ومشاهداته التي أهلته لكتابة تقارير صحافية على مدى ثلاثة عقود في المناطق الساخنة بخاصة، "أننا جميعاً في حاجة إلى استعادة إدراكنا للزمان والمكان، الذي ضاع في عصر الطائرة النفاثة وثورة المعلومات". وبذا فهو يريد أن يعيد الاعتبار للجغرافيا عاملاً مهماً في الأحداث الجارية بشرط أن تُقاطع بالتاريخ والثقافة، للتعرّف على إحداثيات أية ظاهرة حاصلة، ومنها الإرهاب والحروب.. يقول: "إن فهم خريطة القرن الحادي والعشرين يعني قبول بعض التناقضات الخطيرة؛ ففي حين صارت بعض الدول أقوى عسكرياً، كونها تمتلك أسلحة الدمار الشامل، فإن البعض الآخر، خاصة في منطقة الشرق الأوسط الكبير، يعتريها الضعف: فهي تفرِّخ جيوشاً لا نظامية مقيّدة بمناطق جغرافية محددة، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من تقاليد ثقافية ودينية، وبالتالي فهي تقاتل على نحوٍ أفضل مما يمكن للجيوش النظامية أن تفعل في المنطقة نفسها".
تحدثنا عن مواطن قصور التنوير الغربي ومآلاته، والتشوهات التي تركتها العولمة في الوضع الدولي. وتطرقنا إلى نوايا الآخرين السيئة وأدوارهم، والطبيعة الريعية، غير الإنتاجية، لاقتصادنا.. وبقي أن نعاين بشجاعة ثغرات ثقافتنا التي منها تنفذ البلايا وبسببها تتفاقم مشكلاتنا وتتورم.. بدءاً من قاموسنا اليومي المتخم بمفردات وعبارات القسوة والعنف، وانتهاءً بما في ذلك الجانب من خطابنا السياسي وخطابنا الديني ( وهما المغذيان لإيديولوجيتنا وأفكارنا الاجتماعية الواعية وغير الواعية ) من انفعالات وعواطف وافتقار للمنطق العقلاني السليم وحس الواقع والتاريخ، وتناقضات، ودعوات إلى نبذ الآخر ( المختلف ) والتربص به، ومحاربته. وهو ما يترك الذي يتوجه مثل ذلك الخطاب إليه، في حالة من الاستعداد لممارسة العنف، أو العيش بخوف وكأنه أبداً تحت طائلة التهديد؟
أي ثقافة علينا أن نخلق كي نحول دون أن تكون ذهنيات الناس مستعدة لتقبل أفكار لا عقلانية، متطرفة، كتلك التي تدعو إليها ( داعش ) ومن هم على شاكلتها؟.. ما هي الآليات الذهنية للتفكير التي يجب تأصيلها تربوياً، وبطرق علمية ممنهجة، والتي تدفع الناس إلى العمل الإيجابي المبدع الخلاق، وليس إلى الحقد وممارسة العنف والتدمير والفساد؟.
سيُهزم الإرهاب، في النهاية، لأنه ضد منطق الحضارة والتاريخ، ولا يتساوق مع الفطرة البشرية السليمة، ولا مع مصالح الأفراد والجماعات.. ولكنه يمكن أن يشيع الخراب في العمران، ويخلّف رضوضاً نفسية ومعنوية عميقة عند أكثر من جيل، ليس من اليسير محو آثارها بسهولة. هذه الرضوض، إنْ لم تجد، فيما بعد، بيئة صحية معالِجة ومنتِجة، ستُترجم ثقافياً بتعزيز وإشاعة قيم الكراهية والإقصاء والعنف.. فنزعة الثأر والانتقام جزء من المنظومة القيمية العشيرية عندنا. كما أن المنتوج الفقهي المصنوع سياسياً، في بعض صفحاته، تقول بتلكم القيم أيضاً. وتلك حقيقة لا يمكننا إنكارها.
إنْ لم نعلِّم أبناءنا قيم العمل المنتج والمبدع، وإنْ لم نغرس فيهم حس الجمال، ليكونوا متناغمين مع حيواتهم، وما يحيطهم، ومدركين لمعنى أن يعيشوا بسلام، لن نضمن قطعاً عدم تحوّل نسبة لافتة منهم، لاسيما في بيئة سامة كتلك التي تخلقها حضارة رأس المال البرغماتية المعولمة الباحثة عن الربح بغض النظر عن الثمن الإنساني، إلى مفسدين وقتلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية