الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متحف منتصف الليل.. وإشكالية الفعل الإنساني

رحمن خضير عباس

2016 / 1 / 2
الادب والفن


متحف منتصف الليل
وإشكالية الفعل الإنساني
رحمن خضير عباس
ما أنْ تشرع في قراءة (رواية متحف منتصف الليل) للكاتب العراقي باسم القطراني ، حتى ينتابك إحساس بأنّ هناك حمولة سردية تتصارع وتتدافع مع بعضها على صعيد الأحداث والأفعال والإرادات . مابين رغبات الكاتب الذي يقف مترصدا شخوصه وأفعالهم . مرة بصياغة الحدث أو تغييره ، واخرى بتوزيع الأدوار من خلال إعادة السيناريو المفترض في سياقاته الطبيعية . ومابين تمرد أبطاله على النص المُعد سلفا ، معترضين على الصياغات التي كبلتهم بفعل أُقحم عليهم من قبل الكاتب ، فوجدوا أنفسهم مندمجين أو غير منسجمين مع هذا التوزيع للأدوار. وهذا يقودنا الى فكرة الصراع المفترض بين مشيئة معدة سلفا وبين إرادات جزئية . وحتى الكاتب المفترض للنص، هومجرد بيدق من بيادق النص . والذي اختفى تحت شخصية صابرفياض المعلم القديم ، والمثقف الئي هجر الثقافة بفعل الظروف القاهرة ، ولكنه يعود اليها من خلال تلصصه على عناوين لكتب وعناوين قديمة . كان قد عشقها ذات يوم، ولكنه هجرها بفعل الحرب . ثم عاد اليها وكأنه يتحسس غبار السنين الماضية . هذا الرجل الذي أبصر ما لم يبصره أحد . والمنبهر بصفحات الأدب المشرقة ، والمتمثلة بكبار الكتاب والمؤلفين الذين شحنوا ذائقته الأدبية ورؤاه بما يشبه الهوس والجنون . ولكن صابر يصطدم بمخلوقات ورقية قد كتبها ذات يوم وتركها على رف النسيان . تستيقظ من سباتها وتستحثه لينفخ بها الحركة الروائية والحياة . وما أنْ يصحو من هول المفاجأة حتى يتعامل مع مخلوقاته الخيالية بشكل أكثر جدية ، يجمع ما بين واقعية الأحداث التي تتوالى ووهم الوسيلة المتمثلة بمخلوقات ورقية تبحث عن وجودها . وكأنها " حكايات تسقي أعشاب مخيلته، تغريها بالنماء ثم تتيبس في النهاية مع جدب الخرافة في روحه ص15"
إمكانية الفعل السردي المتمثل باحداث ستأتي في سياق الرواية في الفصول القادمة . وخيالية الأبطال الورقيين الذين ينتمون الى سطور واوراق مركونة على الرف . هذا الوهم الذي لاوجود له إلا في وهم الكاتب صابر فياض وربما في جنونه !
وكأنّ الروائي باسم القطراني يريد أنْ يصدمنا بحقيقة أنّ كل الشخوص الورقية غير قادرة على ترجمة الجنون العراقي في حروبه المستعرة التي طحنت البشر والحجر ، تلك الحروب الحادة التي مسخت الإنسان وجعلته كائنا ورقيا منسيا ، يتوسل أن يمارس فعله ويؤكد وجوده بشكل عبثي . وفي تناقضاته التي تستعر على أرض (مجنون) حيث الثروات الهائلة المخزونة تحت أديم أرض اصبحت مسرحا لحرب ضروس ، أكلت الأخضر واليابس ، ودمرت البنى التحتية ، وزرعت الخوف والتوجس ، كما عصفت بالقيم الحياتية وأفنتْها . في ذلك المكان الذي يخبو على نار أزلية تتوهج بالنفط .
" إنها قرية البعير المحمل بالذهب، وهو يبحث عن الشوك طعاما ص10"
هل تتسع هذه الشخوص الورقية ان تترجم الوجع الانساني لبشر طُحنوا ببشاعة تحت ماكنة الحروب والقسوة وإختلال المقاييس ؟ أم أنها محاولة لألتقاط شذرات من أحداث مضت وتشظت في وعي الكاتب ، وهو الآن بمعرض البحث عنها ، وجمع ما تناثر منها ليكوّن الصورة التي يبحث عنها والتي تتمحور في هذا السؤال العريض : لماذا حدث ما حدث ، ومن هو المسؤول عنه ؟ وهل ان هذه المخلوقات الورقية مجرد كيانات طائفة على صفيح الواقع ولاتمت اليه الا بعلاقات واهية ؟ هذا ما تحاول الرواية أنْ تقدم مقاربة فنية عنه . لذا فعلى القاريء أنْ ينسى صابر فياض والذي أطلّ علينا في بداية الرواية ليقدم لنا مفارقة المخلوقات التي عثر عليها في مخطوطاته القديمة . مما يوحي لنا بأنّ السارد(صابر) هو قرين لمبدع العمل(باسم القطراني) الذي إختفى تحت شخصية هذا القرين ، وخوّله صياغة الحدث والتلاعب بمصائر أبطاله، حد ألإنغماس معهم ، وكأنّ هذا القرين قد تحول إلى جزء من الأحداث والأفعال ، من خلال إطلالاته المتكررة على مسرح الحدث السردي ومحاورته لبعض الصياغات التي جرت ، او تغيير مجرياتها .
ومع أن هذه الحيلة الفنية قد إنطلت على القاريء ، وحققت مكسبا فنيا ، بإعتبارها قد إبتعدت عن التقليد السردي في إلباسه حلة ممتعة .ولكننا سننسى صابر ومخلوقاته الورقية ونتأمل طبيعة المتن الروائي . سنجد ثلاثة شخوص يملؤون مساحة النص ويغرقونها بتفاصيل أفعالهم . وهم حردان وفرهاد وسميرة الذين يشكلون أعمدة النص الرئيسية . ثم هارون وكمال والطفل ، وهم يشكلون الأطار الثانوي . وقد كان وجودهم على متن النص كأبناء لمؤسسة عسكرية ، يعطينا فكرة عن عسكرة المجتمع وشيوع ثقافته القائمة على التسلط التراتبي ، ومحاولة استغلال الملذات واللهو المجاني الطاريء ، ولو كان ذلك على حساب القيم والمثل المتعارف عليها . إنه سلوك ينتمي الى خشونة الغاب وقيم البقاء للذي يمتلك القوة . لقد كان أبطال الرواية من العناصر والشرائح الطفيلية غير المنتجة . اي انها تنتمي الى المؤسسة العسكرية التي أدخلت البلاد في مغامرات وحروب مجنونة . انهم أبطال سلبيون لايمثلون الا الجوانب الرخوة من المجتمع. حردان ضابط في الجيش ينتمي الى حزب السلطة ، كان زميلا لفرهاد أثناء تورط النظام العراقي في الحرب الأهلية اللبنانية . ويحدث ان يموت فرهاد في تلك الحرب فيعود حردان ويصبح عسكريا في الجيش العراقي ، ويتزوج سميرة التي لاتحبه وانما ربحها برهان بين شخصين0(حردان وهارون) يعاقران الخمرة ويتراهنان على الزواج، لتصبح سميرة زوجة لحردان الذي يكبرها سنا ، والتي لاتبادله الحب ، ونتيجة لحرمانها تحاول اصطياد كمال وهو جندي مراسل لزوجها وتمارس الحب ( الزنى) معه . أما فرهاد الذي يفترض انه مات ودفن في نهاية السبعينات ، فيظهر من جديد في ساحة الرواية . بدعوى انه لم يكن المقتول في ذلك العام ، ولجأ الى إستبدال دلالات شخصيته وهويته بهوية الشهيد وشارته ، كي يتخلص من الواجب العسكري والحزبي .ويختفي من الحياة العامة ،ليظهر من جديد بعد أقل من ثلاثين عاما كأمير إرهابي يستغل الإنفلات الأمني ليمارس القتل الطائفي ، وليمارس سادية بحيث انه يحتفظ بكل المديات التي ذبح بها ضحاياه ، ليكوّن ( كولكشن) من أدوات القتل والفتك ، ليريها الى رفيقه السابق حردان في تلك الليلة التي كشف عن نفسه ، وساوم حردان ما بين القتل أو الإنخراط في العصابة الإرهابية .
كانت الحرب هي ثيمة النص الرئيسية ، سواء في تشابك الأحداث أو في إيقاع السرد وخلفياته السايكولوجية . فمنذ اللحظة الأولى يضعنا الكاتب وجها لوجه امام أجواء من بقايا حروب " الليل في مجنون ينضح وحشة وكآبة لامثيل لها تجعل ساكنيها يخالون أرواح الجند الذين إستراحوا هنا ولم يرجعوا إلى أهليهم...ص9" . تلك الأجواء التي رافقت الرواية حتى نهايتها .وذلك من خلال التوترات والتعقيدات التي اكتنفت الحياة ، حتى أن المتن الروائي الذي لم يكتب عن أجواء الحرب ، بل تناول آثارها القريبة والبعيدة ، من خلال مجسات حكائية صغيرة تتناول مخلفات الحدث ، وكأنه يرى بأنّ الحرب هي حالة من التصدع للذات البشرية والتي تمتد بعيدا في نفوس البشر الذين ألفوا رائحة الحروب وتعودوا عليها فاصبحوا يدورون في أفلاك عنفها وإرهابها . ومع أنّ عودة فرهاد الى الحياة كانت غير مقنعة من ناحيتين . الأولى في كونها تقترب من الأساليب البوليسية التي تعتمد على روح المفاجأة. الثانية إنّ شخصية فرهاد وطبيعة عمره الأول لاتؤهله ان يكون أميرا ذباحا لأننا لوحسبنا عمره الإفتراضي كنقيب في الجيش في عام 1978 وكإرهابي عام 2005 وهذا يدل على انه بلغ من عمر يناهز الستين مما يضعف واقعية الحدث . حيث ان أغلب الأرهابيين في سن الشباب . ولكن الروائي كان منهمكاً في صياغة الفكرة ، دون الإهتمام بالتفصيلات الصغيرة التي لاتؤثر على فحوى ما يرمي اليه من تدرجات في الإيقاع الروائي .
كانت القسوة هي التي هيمنت على روح النص . القسوة في الحرب والقسوة في السلم وفي العلاقات الإجتماعية . القسوة في الهيمنة على شباب سميرة من قبل حردان ، والقسوة في سلوك سميرة وعذاباتها واستباحتها من قبل رجال لاهمَ لهم سوى استهلاك الشهوات العابرة . والقسوة في الخطف وآلامه والقتل الوحشي الذي يتعرض له المخطوفون ولاسيما الطفل المنغولي على حد توصيف الكاتب . ولكن القسوة تتجلى في أعلى أشكالها حينما يتم مشهد اللقاء في مايسمى بمتحف منتصف الليل حيث المدى المضرجة بدماء الضحايا ، والتي تدل على سادية ووحشية الإنسان في تدميره وهمجيته . إنها القسوة التي تتجلى في المقايضة بين الموت ذبحا وبين الإنضمام الى فرق الموت الإرهابية التي روّعت المجتمع ، والتي يطرحها فرهاد ، الميت/الحي على رفيق نضاله وزميله في السلك العسكري حردان . ولأن حردان لايمتلك اية ملامح إنسانية تؤهله أنْ يكون شجاعا أو نبيلا ، فقد إختار ان يكون قاتلا لينجو بنفسه الى حين ،على أنْ يكون إنسانا كبيرا ويضحي بنفسه ، او يحاول – على الأقل- التأثير على الإرهابي فرهاد للتوقف عن القتل . وهكذا فقد أدان الكاتب القسوة ورفضها من خلال هذا النضح السردي الجميل .استطاع أن يجعل من جهده السردي فضيلة ان يكون الشاهد على هذا العصر المتخم بالتفاعلات .كما أن الرواية كانت صادقة ووفية لزمن عاصف ومتخم بالأضداد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل