الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابتسامة التلمود

صبحي حديدي

2005 / 11 / 8
القضية الفلسطينية


ما تزال ابتسامته "ماركة مسجلة"، في التعبير الطريف الذي ابتكره كرمي جيلون، رئيس المخابرات الداخلية الإسرائيلية، الـ "شين بيت"، ساعة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين. وأمّا صاحب الإبتسامة الموصوفة، والتي باتت الأشهر والأعرض في تاريخ الدولة العبرية بأسره ربما، فهو إيغال أمير، قاتل رابين. إنه يواصل الإبتسام "لأنه يعرف جيداً أنه انتصر"، يقول جيلون في حوار مع صحيفة "يديعوت أحرونوت"، التي نشرت استطلاعاً للرأي أفاد أنّ 20% من الإسرائيليين يعتقدون بوجوب إصدار عفو عن أمير. "لو اقتصر الإستطلاع على ناخبي اليمين، لكانت النسبة تجاوزت الـ 90%"، يعلّق جيلون.
والحال أنّ الـ 20% وافية بذاتها وكافية، بل هي أقلّ ما ينبغي أن ننتظره من المزاج العامّ الذي يسود المجتمع الإسرائيلي في هذه الأطوار، إزاء الأسباب ذاتها التي أودت بحياة رابين يوم 4 تشرين الثاني (نوفمير) 1995، والتي ــ للمفارقة الصارخة ـ تهدّد حياة جزّار آخر هو أرييل شارون، كما يحذّر جيلون! وحين خرّ صريع طلقات يهودية مائة بالمائة، كان رابين قد وضع جانباً عقيدة الهراوة وتكسير عظام الفلسطينيين، لا بسبب من صحوة ضمير أو ارتداد أخلاقي عن تقنيات الردع والتأديب، بل بسبب من «إلقاء نظرة تذهب خطوتين إلى الأمام» على حدّ تعبير دافيد غروسمان.
تلك كانت نظرة براغماتية رأت أنّ الاستمرار في الإحتلال والحرب المفتوحة غير المعلنة سوف يعني استمرار انكفاء إسرائيل على ذاتها، وتفاقم أمراضها التاريخية والوجدانية المزمنة. ما عجز رابين عن رؤيته، مثله في ذلك مثل السواد الأعظم من "مهندسي السلام" الإسرائيليين، هو الثقة الضعيفة أو الباهتة أو شبه المنعدمة التي اعتاد اليهودي على محضها للنوع البشري إجمالاً، وللجيران العرب بصفة خاصة. وعن رابين، وعن سواه من دعاة السلام، غابت جذور الكابوس التي تضرب عميقاً، وتكبّل بقدر ما تغوي، وتنشر الرعب مثلما تبعث على الخدر اللذيذ.
يد إيغال أمير، وهي "اليد اليهودية" كما وصفها بنفسه، تعمدت بدم رابين: «الخائن، واليهودي بالمصادفة»! وقاتله ضحك أكثر فأكثر حين رفض الناخب الإسرائيلي الإنصياع إلى الشعار الذي رفعه حزب العمل أثناء الحملة الإنتخابية: «لا تمنحوا إيغال أمير سبباً للضحك». ضحك الرجل، بل كان الوحيد الذي صوّت مرتين كما قال عاموس عوز: مرّة باستخدام الرصاصة، ومرّة باستخدام ورقة الإقتراع. ومن سخريات الأقدار أن العبارة البليغة Ballot Not Bullet (ورقة الإقتراع لا الرصاصة)، والتي نحتها بنيامين نتنياهو عشية اغتيال رابين، برهنت أنّ الفارق اللفظي لا يصنع أي فارق عملي على الأرض، وأنّ الرصاصة صوّتت تماماً بالفاعلية التي كانت لورقة الاقتراع، وأكثر بكثير ربما.
وليس بلا دلالة أنّ حزب العمل وافق على تمديد إحياء الذكرى العاشرة أسبوعاً كاملاً، كي يتيح للرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون أن يجد الوقت للمجيء والمشاركة. ذلك لأنّ حزب العمل يبدو، اليوم، وكأنه لا يستعيد الذكرى بقدر ما يعيد التشديد على المأزق الشامل، السياسي والإيديولوجي والسوسيولوجي، الذي غرق فيه رويداً رويداً منذ أيار (مايو) عام 1997، حين مُني الحزب بهزيمة تاريخية ماحقة جاءت بالليكود إلى السلطة للمرّة الأولى في تاريخ الدولة العبرية. وحين وقف مناحيم بيغن أمام جموع حاشدة تهتف «عاش الملك! عاش الملك!»، كانت السياسة في الآن ذاته تغادر مبنى الكنيست لتضع مخيّلة التلمود على شفاه الجموع، وكان الضمير الجَمْعي اليهودي يغرق بسرعة قياسية في إيديولوجيا المقدّس... المقدّس الغائم، الميثولوجي، الهستيري، والعنصري.
وإذا كان الطور ذاك قد بدأ بظهور «مناحيم بيغن/الملك»، فقد كان من غير المنطقي أن يتواصل أو يكتمل بدون ظهور «الحاخام/النبيّ»: مئير كاهانا، حامل السيف واللعنة والتذكرة، الملوّح بالقبضة اليهودية في وجه «عالم وثنيّ من الكلاب وبنات آوى». وعلى العكس مما أشاعته أدمغة التفكير الصهيونية، كانت معادلة كاهانا بالغة البساطة وبالغة الدلالة: اليهودية نقيض الديمقراطية، والصهيونية (كعقيدة ومؤسسة وسياسة) لا بدّ أن تتماهى مع اليهودية، الأمر الذي يجعل الصهيونية ذاتها تقيض الديمقراطية.
وقبل أن يخرّ صريع طلقات يهودي من أصل يمني، متديّن متشدّد وخصم للصهيونية لأنها "أقلّ يهودية ممّا ينبغي"، نطق رابين بهذه الكلمات: "الغنف يقوّض ركائز الديمقراطية الإسرائيلية ذاتها. من الواجب إدانته، واستنكاره". فهل كان يجهل، حقاً، أنّ إرث الحاخام كاهانا لم ينطو بعد موته بل تشظّى واستولد عشرات الكسور والصدوع في الضمير اليهودي، وعشرات الآلاف من نماذج إيغال أمير وقبله باروخ غولدشتين بطل مجزرة الحرم الإبراهيمي. ولهذا فإنّ جيلون لا يبالغ حين يقول إنّ الابتسامةـ "الماركة المسجلة" التي تطفح على وجه أمير منذ عشر سنوات، تطفح أيضاً على وجوه عشرات الآلاف من مناصريه ومحبّيه والناظرين إليه كبطل وقدوة.
وبين التلمود والأمن تواصل الديمقراطية الإسرائيلية إعادة اكتشاف الجدل الطبيعي لارتطام حقائق الأرض بفانتازيا التوراة، والجدل العنيف للعلاقة بين القاهر والمقهور، والحقوق الفعلية التي تصنع الخيط الفاصل بين أرض تسيل فيها أنهار الحليب والعسل، وأخرى تسيل فيها أنهار الدماء والدموع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب.. قطط مجمدة في حاوية للقمامة! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. موريتانيا: مع تزايد حضور روسيا بالساحل.. أوكرانيا تفتتح سفار




.. إسرائيل تحذر من تصعيد خطير له -عواقب مدمرة- بسبب -تزايد اعتد


.. هدوء نسبي مع إعلان الجيش الإسرائيلي عن -هدنة تكتيكية- انتقده




.. البيان الختامي لقمة سويسرا يحث على -إشراك جميع الأطراف- لإنه