الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الروح في عالم الزبالة

هيثم بن محمد شطورو

2016 / 1 / 3
الادب والفن


من أين لك ان تبني تصورات انطلاقا من عالم الزبالة؟ في الحقيقة اصبحت الزبالة ذات عنوان سياسي بارز منذ خرج اللبنانيون متظاهرين في حركة احتجاجية ضد اكوام الزبالة التي اكتسحت بيروت درة الشرق الاوسط في الستينات. الشرق الاوسط كله غارق في الزبالة اليوم.
قبل تظاهرات لبنان بسنوات. منذ سنة 2008 التي تكـتسي بدورها بعنوان سياسي بارز في تونس النوفمبرية حينها لما خرجت مظاهرات احتجاجية عارمة في مدينة قفصه، و لكن الموضوع كان حول الظلم في التـشغيل بشركة فسفاط قفصه. كانت معارك حامية ضد بوليس بن علي. بن علي الذي تفاوضت حكومته ساعتها مع النقابيـين اللذين قادوا الحركة الاحتجاجية و ابرزهم القيادي "عدنان بالحاج"، الذي اصبح اليوم عضوا في برلمان تونس الحرية في انـتخابات حقيقية،ثم زج بهم في السجون اثر محاكمة زائفة تحاكي زيف السلطة برمتها في كل شيء، حتى ان الحلاقة اصبحت سيدة تونس الاولى و صنعت لها دكتوراه، و كيف لا وقد طبعت النظام السياسي بمبدأ التجميل الظاهري لأقبح الوان البشرة البشرية الانتهازية المافيوزية الحقيرة.
ساعتها رضيت بالعمل في مصبات الزبالة التابعة لوزارة البيئة في اطار شركة لتجميع و تحويل النفايات المنزلية، و مازلت الى اليوم. ساعتها كنت اخرج من مكتبي لأتابع حركة تستهويني و هي رفع الرافعة للناقـلة و صبها للزبالة في الحاوية المعدة لذلك. ساعتها و كل يوم يتملكني تصور يثلج صدري و هو ان هؤلاء العمال البسطاء الطيـبين اللذي ينظفون البلد من الزبالة ستصب شاحناتهم ذات يوم زبالة السلطة الجاثمة على الصدور. السلطة التي بقيت مندهـشا من تركها لي اشتغل في شركة تابعة لإحدى وزاراتها و انا المدرج ضمن المغضوب عليهم باعتباري معارضا و مشاغبا قديما لم يقدم صكوك التوبة من كهنة السلطة. المهم كان عزائي اني أشتغل اخيرا في مكتب و امامي جهاز حاسوب و لي من الوقت الكافي لأطالع الكتاب الذي احمله معي، و هي عادة لازالت متواصلة معي الى اليوم. كان لي عزاء آخر و هو احد زملائي في العمل و هو سائق احدى شاحنات الشركة الناقلة لحاويات النفايات، و هو معز البحري الذي اصبح رئيسا لنقابتـنا في الشركة التي تأسست بعد الثورة. كان معز ينقـلني الى العمل و يرجعني في المساء الى منطقـتي. يوميا كانت تدور بيننا نقاشات سياسية. الرجل كان يسب و يلعن النفايات التي تحكم في البلد، و كان لي متـنفـسا في تبيئة نفسي مع عالم النفايات.
منذ سنة 2010 الى اليوم انـتـقلت الى خطة متـنـقـل بين مراكز التحويل الاربعة و مكنتـني الشركة من دراجة نارية. تلك المسافات الطويلة التي اقطعها في الشتاء كانت حزينة و لكن لم يطل الامر كثيرا حتى تحولت البلاد الى نار تـتسع دائرتها في كامل البلد. بعد تاريخ 06 جانفي 2011 حيث قـتل البوليس ستة افراد في منطقة الرقاب من سيدي بوزيد تيقـنت انها ثورة حقيقية ستطيح بالنظام. بما اني لا أثـق إلا في معز البحري فاني صارحته ساعتها بأنها ثورة و بأن زين العابدين سيسقط، إلا انه انكر علي هذا الرأي و قال انه شعب جبان. قلت ان الجبن و الشجاعة متحركان و ليس ثابتين ثم ان التونسي ليس بجبان و انما يميل الى السلام. اما الآن فهناك دماء قد سالت و مستحيل ان يركن الشعب. حين تصل الامور الى صفاقس ثم تونس سيتهاوى النظام. مادام اليوم ضعيف و يلتجئ الى القـتل فماذا سيصنع مع انـتـفاضة صفاقس و تونس؟..
و اليوم، بعد لقاءاتـنا المتعددة عبر التصورات الذهنية، فانه اصبح من الاكيد ان نجزم بان قيمة الانسان في خلقه عالما ذاتيا في الوعي و الروح اكثر شساعة بآلاف الاميال من محيط عـيشه المباشر. فأنا اتمثل نفسي قابعا في مكتبي بكتابي الذي امامي كعنوان استـثـنائي يجذب عمال النفايات العينية و سائقي شاحنات الزبالة و يخلق لهم اعتزازا بمهنتهم برغم تورط المجتمع في النظرة الاحتـقارية لهذه المهنة. صرح لي بعضهم بالقول انهم حين يلتـقون بأكوام الزبالة التي تملأ الشوارع اليوم فإنهم يتذكرون المفكر القابع في مكتبه بمصب الزبالة فيشعرون بأنهم اسياد البلاد. البلاد التي ثارت فيها الزبالة ففاضت على جميع الأمكنة. الثورة التي كان عنوانها الرئيسي تطهير البلد من زبالة سلطوية غرقت جل شوارعها اليوم في الزبالة. الثورة رفعت الغطاء الذي كان يغفر جميع قذارات المجتمع و اليوم الجميع امام قذاراته التي يرمي بها بلا خجل في الشوارع.
ففي الاسبوع الفارط دخل الى مكتبي "بن عبدالله" في مصب طينه و هو سائق شاحنة بلدية، و لنا نـقاشات سياسية عديدة بعد الثورة حيث اطال لحيته و يدافع عن حركة النهضة، و كان يحلو له النقاش معي برغم هجوماتي على حركة النهضة، و كان قد اعترف ذات مرة انه حين يفكر بعقـله فانه يدرك ان مصلحته تـقـتضي اختيار الجبهة الشعبية و لكن قـلبه مع النهضة. المهم اني لا انزعج من اي رأي بل هو صديقي بما انه يناقـش و يفكر. في الاسبوع الفارط جذبه كتابي الجديد الموضوع على مكتبي لسبب باراسيكولوجي. مسك الكتاب و سأل عما يتحدث، فـقـلت انه يتحدث عن اعـظم فيلسوف و هو "هيغل". سألني ماذا يقول في الدين فجذبت الكراس التي أسجل فيها بعض المقـتطفات مما أقرا و قرأت له هذه الفقرة:
" حين نتحدث عن حب الله، فإننا لا نتصور الله على انه مجرد موضوع يمكننا ان نتعلق به، بل نحن نتصوره على انه مبدأ الحركة التي تـشيع فينا، و أصل الفعل الذي يصدر عنا، و ان كان الله في ذاته مغايرا لنا."
يعني اننا في حب الله نحب انفسنا و نحب انفسنا في حبنا للاه، و لكنه الحب الذي يتجه الى السمو اي حب اسمى ما فينا و توق الى كمالنا..
يبدو انه لم يفهمني جيدا و لكنه ادرك ان اليساريـين او المثـقـفين و المتـفـلسفين يؤمنون بالله كذلك و لكن بطريقـتهم التي هي نتاج الثـقافة و الفكر. ادرك ان الفارق في القراءة و الثـقافة. سألني عن دراستي الجامعية فأخبرته اني دارس في الحقوق. تسائل عن سر اشتغالي في هذا العمل فقـلت له:
ـ نحن اليساريـين مغضوب علينا قبل الثورة و بعدها.
فقال:
ـ قبل الثورة الزين و بعد الثورة النهضة.
ابتسمت و تخيلت ان اليسار بدأ يدخل الى قلبه مثلما دخل الى عـقله..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أون سيت - الأسطى حسن .. نقطة التحول في حياة الفنان فريد شوقي


.. أون سيت - أولاد رزق 3 .. أعلى نسبة إيرادات .. لقاء حصري مع أ




.. الكاتب علي الموسى يروي لسؤال مباشر سيطرة الإخوان المسلمين عل


.. بيت الفنان الليبي علي غانا بطرابلس.. مركز ثقافي وفضاء إبداعي




.. العربية ويكند | جيل بايدن تقود الرئيس بايدن إلى خارج المسرح