الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديجيتال كمواطن مخلّص لأمن العالم

خالد سليمان

2005 / 11 / 8
العولمة وتطورات العالم المعاصر


تضيف الانفجارات، الكوارث الطبيعة والبشرية، الأعمال التخريبية، نشاطات الجماعات الأُصولية المتنوعة، تعريفاً جديداً لمفهوم الأمن الذي أصبح الهاجس الوحيد للمدن الكبيرة في العالم. تعريف يهدد الحريات الفردية بالدرجة الأولى ويضيّق الخناق على حركة الإنسان أينما ذهب، في مترو الأنفاق والأسواق والمطارات والطرق العامة، وحتى داخل باصات النقل الداخلي. يمكننا تسمية هذا التعريف أو ترجمته بالأحرى الى "نظم الأمن القصوى"، التي تقترب من أفلام الخيال العلمي أكثر من الواقع. ذلك أنها تعتمد فعالية جيل تكنولوجي جديد يختصر مفهوم الأمن في توثيق الزمان والمكان بكل معطياتهما وأبعادهما المتعددة في مفهوم بيو ـ تكنولوجي يسيطر على الإنسان داخلياً. فهي بالتالي نظم تربط بين رغبة التدجين وبين تهديد الإرهاب، ولئن يلتقي فيها النشاط الإنساني والآلي في حركة استقدامية تضمن بقاء نموذج الدولة التي صورها جورج أورويل في روايته الشهيرة بعنوان "1984"، تعتبر نظم الأمن القصوى أحدى الوجوه الرئيسية لعالمنا اليوم.
وبما أن التقنيات الحديثة لم تطرح فرصة أمام المواطن للحصول على المعلومات والمشاركة في الشؤون السياسية دون الانتقاص من حريته الفردية، يشكل اليوم نموذج شخصية جورج أورويل الروائية "وينستون سميث" مثالاً حياً للعلاقة بين التكنولوجيا والإنسان، الأمن والمواطنة. وهو في ذات الوقت، رمز أكبر تحول أمني شهده تاريخنا الحديث بعدما تحرر من أرشيف الشرطة البريطانية السرية عام 2005.
تشير معلومات أمنية عن أورويل في ثلاثينات القرن المنصرم الى مراقبة مكثفة كان يخضع لها من قبل الشرطة بسبب نشاطاته اليسارية وعلاقاته مع الشيوعيين والعمال. هذه المعلومات التي كشفت عنها الشرطة البريطانية هذا العام دفعت الكثير من المحللين والنقاد الى تقريب رواية 1984 وشخصيته المثيرة للجدل "وينستون" من سيرة كاتبها الذي طالما خضع لتلك المراقبة الأمنية المركزة. لأن أورويل ذاته كان موضوعاً لعمل "الأخ الكبير" كما تقول الصحيفة البريطانية "ذي غارديان" في عددها الصادر يوم 18 تموز 2005. وما يهمنا في سياق هذا المقال هو ذلك المفهوم الأمني الذي أخضع وينستون سميث لنظام مراقبة شديدة وأبرز في الوقت ذاته قدرة الدولة على خلق النموذج الذي تبغيه. لأنه، ومن خلال وجود كاميرات المراقبة في كل زاوية من زوايا المدن الكبيرة مثل نيويورك ومونتريال وتورونتو وباريس ولندن وفرانكفورت وبرشلونة ومدريد، تحول هاجس الأمن الى حالة نفسية ممأسسة في حركة الإنسان وحريته التي تتقلص في المجتمع الغربي يوماً بعد يوم.
ففي مدينة مونتريال إحدى المدن الكندية الكبيرة والمهددة بعمليات إرهابية وفق تقارير أمنية ومخابراتية، أخذ التعريف الأمني الجديد يوسع نفوذه على نحو لم تشهده أي مدينة أخرى في كندا وربما في العالم، إذ يتحول فيها هاجس الأمن الى حالة تأهب دائم من خلال جيش من الكاميرات وأجهزة الرادار المتصلة بالأقمار الصناعية داخل محطات ميترو الأنفاق وشبكة الحافلات الداخلية.
في حوار أجرته صحيفة "ذي غازيت" يوم 25/10/05 يكشف رئيس مؤسسة النقل في مدينة مونتريال "كلود دوفا" عن خطة إقامة كاميرات المراقبة ونظام لاسلكي موضعي داخل 1500 أوتوبيس في المدينة لاستدراك أي تهديد إرهابي قد يحصل في المستقبل. هذا المشروع الذي يكلف الحكومة الكندية حسب الصحيفة ذاتها 130 مليون دولار كندي، قدمته الحكومة الفيدرالية وطلبت من وزير المواصلات (إذا اعتمدنا لغة أورويل في 1984 فنسميها وزير الحقيقة) جان لابيير تقييم كلفة تأمين شبكة النقل في البلاد.
رغم ان هذا المشروع "الأورويلي" الذي تدعمه حكومة كندا الفيدرالية، اُتخذ على اثر تفجيرات شبكة ميترو لندن في الصيف الماضي، إلا أن له سوابق أخرى وكان أولها بعد أحداث 11 سبتمبر حيث تم تمرير قرار فيدرالي يسمح لأجهزة المخابرات الكندية بمراقبة وسائل الإتصال (خطوط التلفونات المنزلية والمحمولة) ومؤسسة البريد وتفتيش الطرود البريدية الصادرة والواردة، وحتى الرسائل الشخصية. اعتبر المهتمون بحقوق الإنسان في كندا بأن تلك الخطوة كانت أول انتهاك مباشر لمبادئ حقوق الإنسان في البلاد. علماً أن القرار ذاك تم تمريره تحت تأثير تلك الأجواء المشحونة التي تركتها أحداث 11 سبتمبر، لذا لم يلق أي معارضة تذكر وأصبح ملحقاً لصيقاً بالقوانين الكندية الأخرى.
على هذا النحو، ووفق آليات عمل النظم الأمنية القصوى التي تتبعها وزارات النقل والدفاع والداخلية في العالم (ووزارة الهجرة في دول العالم الجديد المتمثلة بالولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزلندا)، يمكننا أن نتصور مدينة مونتريال في عام 2012 كفضاء مفتوح لحركة أمن أليكتروني يقف فيها الإنسان حائراً بين ضمان أمنه وسلب حريته. سوف يكون هناك في المدينة و"أوتوروتاتها العريضة" ومؤسساتها ومرائبها ومطاراتها نظام ديجيتال "أمني" متقدم يعتمد نظام فيديو المراقبة والتصوير الفوتوغرافي وأجهزة تحديد الوجوه التي تُمكن مراكز الأمن القومي من دراسة التغيرات البيولوجية في جسم الإنسان. يعني أن النظام الأمني المستقبلي الذي تتكون عناصره من علوم الرياضيات والبيولوجيا والجيل الجديد من أجهزة الديجيتال، سوف يحول العالم الى مشاهد من أفلام الخيال العلمي، يتعرض فيها الإنسان الى تحقيق مفتوح ويصبح فريسة دائمة أمام نظام "بيو ـ ميتري" لا يخضع الوجوه للمراقبة فحسب، بل يدرس التغيرات الداخلية التي تشمل خلاياها الحيوية، ويتجاوز بالتالي حتى قياسات علم الإجرام التي تعتمدها الشرطة الجنائية. فالصورة الجانبية "التقليدية" التي تساعد المحقق الجنائي في كشف المشتبه به، تخضع في نظام الأمن المستقبلي الى إجراءات علم دراسة التغيرات البيولوجية الداخلية "البيو ـ ميتريك" التي تحصل في الوجه بشكل خاص. ذلك انه (النظام البيوميتري) يقوم على مقاسات جسد الإنسان وعناصره وترتبط مسلماته العلمية بالصفات البيولوجية عند الفرد وسلوكه أو الإطار المورفولوجي الذي يميزه عن الآخر. ولا بد من الإشارة هنا الى أن التقدم التكنولوجي في مجال المعلوماتية سمح بوضع أعداد وفيرة من أجهزة التحقيق في هوية الأفراد (مثل السكانر الشبكي، الكاميرات التي تسمح بتحديد مورفولوجيا الوجه، والجهاز الرقمي للتعرف على البصم).
منذ سنين وبعيداً عن عيون الناس أو "العامة" بالطبع، تستخدم قوى الشرطة والأمن الجنائي في الغرب تلك المسلمات البيوميترية التي توصلت إليها الثورة الإدراكية الثانية (التكنولوجيا المعلوماتية) ويتم إبعادها لحد الآن عن أيدي العامة خوفاً من إختراق عمل الأمن من قبل جماعات الإجرام الغربية والمنظمات الإرهابية من خلالها. على هذا النحو، تشكل العناصر البيولوجية المتمثلة بـ"العلامات الشبكية، قرة عين، الصوت، مورفولوجيا الوجه، ختم الأصابع" المقاسات الكفيلة لإنجاح عمل النظام الجينالوجي في مجال الأمن. لأنها توفر عناصر البحث داخل مساحة هلامية في ذاكرة "المواطن الجديد" الذي يسمى بالديجيتال.
فيما يتضمن هذا النظام الأمني الشبحي أصناف مُمأسسة وموصومة للفرد، يتخذ من جانب آخر أبعاداً جنائية قد تكون سبباً لأخطاء فادحة في التحريات البيولوجية. وليست هناك بالتالي مصداقية علمية لإنجاح إجراءات "المواطن الجديد" في قضايا الأمن طالما يحتمل النظام البيوميتري أخطاءً تقنية تتعلق بالجينات، ذاك أن التشابه في العناصر الحيوية بين الأفراد وكيمياء أجسامهم وارد وفق علم البيولوجيا ذاته.
من هنا تسيطر الشرطة ليس على الفكر وحده بل على الوظائف الحيوية في جسم الإنسان أيضاً، لأن اللغة الرقمية الحديثة المُشفّرة لا تُمكن من التفكير بين الناس، كونها تحوي رموز شرطة الفكر والعلم فقط. فالتحكم بالتكنولوجيا العلمية والثقافية والسيطرة الكاملة على كل جوانب عمليات الاتصال هو من أجل حماية مصالح الدولة وتعزيز أيديولوجياتها المتجسدة في الأمن القومي، وليس المواطن كما قال فريد وليامز: "تطرح التقنيات الحديثة فرصة أمام المواطن للحصول على معلومات ومشاركة لم يحلم بها آباؤنا المؤسسون".
في النظام الأمني الجديد يتحول الجسد الى الأرقام وحقول تجارب علمية، يتم تشريحه وفق أنظمة رقمية معقدة تعتمد وظائف الخلية الحية وكيفية إستجابتها لإشارات "المواطن الجديد" المتمثلة في ختم الأصابع والشبكيات والصورة الجانبية "بروفيلاج" ومورفولوجيا الوجه والتغيرات الجينية التي تحصل في الجسم. ولن يبقى لـ"المواطن القديم" سوى التماهي مع صورته الموصومة في كل مكان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بثلاث رصاصات.. أخ يقتل شقيقته في جريمة بشعة تهز #العراق #سوش


.. الجيش الإسرائيلي: دخول أول شحنة مساعدات إنسانية عبر الرصيف ا




.. الاحتلال الإسرائيلي يدمر مستوصف الزيتون بمدينة غزة


.. بحضور نقابي بارز.. وقفة لطلاب ثانوية بباريس نصرة لفلسطين




.. من أذكى في الرياضيات والفيزياء الذكور أم الإناث؟