الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التماثيل

خالص عزمي

2005 / 11 / 8
الادب والفن


( الى مبدعي النحت في العراق المعاصر فتحي صفوت ؛ جواد سليم ؛
منعم فرات ؛ خالد الرحال ؛ اسماعيل فتاح ؛ ميران السعدي ؛محمد غني ؛
صالخ القره غولي ؛ نداء كاظم ؛ نزار الهنداوي ؛ سعاد سليم ؛ جميل حمودي ؛
عبد الرحمن الكيلاني ؛ محمد الحسني ...... والى آخر الرعيل )


ان التماثيل في بلدان العالم ليست كلها تمثل ايجابيات العرض المشوق لجماليات الفن الابداعي بشتى الوانه ومعانيه المجسدة للانسان او الحيوان او النبات ؛ او المستوحى من فيض الخيال ؛ ولا هي كلها تهدف الى التقدير الشعبي الجارف لحالة يفتخر بها على نطاق الامة ؛ وليست هي ايضا لابراز الجوانب المضيئة من حياة العظماء من سياسيين واقتصاديين وادباء وشعراء وفنانين .. ؛ فبعضها يمثل السلبية او السخرية او التجريد من الفضائل ؛ بل ان بعضها كان نموذجا صارخا مجسدا للعار المعنوي او الجسدي ؛ ومع ذلك فما زالت الساحات والحدائق العامة والشوارع الرئيسية تعج باعمال كبار الفنانين على مختلف العصور ؛ اذ وجدت البشرية في تلك التماثيل تحقيقا لرؤية مستديمة تطالع المشاهد لها بعظمة الفنان على قدرته في الاستقراء والتخيل ثم التجسيد ؛ ولا تختلف تلك الرؤية عن منحوتات اخرى حققها الكتاب بالقلم؛ واللوحة بالريشة ؛ والموسيقى بالنوطة؛ والادات والالة بالاختراع ... الخ فكلها تتجسد امامنا باساليب مختلفة ولكن هدفها واحد في الافادة او الامتاع والابداع .

لقد ادركت مدن العالم اهمية التماثيل ا و المنحوتات بعامة فخصصت لها مواقع مكشوفة في اهم اماكنها العامة ناهيك عن متاحفها التي ترمز الى حضارتها كصورة من صور المباهاة والافتخار والاعتداد بالماضي العريق او الحاضر الواقعي . وزيارة واحدة الى بطرس بيرج او لندن او باريس او مدريد او بودابيست او القاهرة .؛ ستعرفنا على مدى انتشار التماثيل والجداريات في مواقعها البارزة بل وحتى الازقة الصغيرة التي تنتصب في بعض اركانها تماثيل او لوحات تحمل اسم الشخص العلم الذي سكن في هذه الغرفة او ذلك البيت . لقد رأيت كثيرا من تلك المشاهد بام عيني ؛ رأيت تماثيل للقادة والساسة ؛ لنيرون وا لاسكندر ونابليون وستالين و موسليني و تشرتشل وكندي وديغول ... كما رأيت تماثيل للشعراءاو الكتاب مثل كورجي وتلستوي وهوجوودوماس وبلزاك وبرنارد شو ودستوفسكي وجارلس ديكنز ونجيب محفوظ ومصطفى جواد والكاظمي والرصافي وجبران ؛ وللفنانين جون وين وجارلس لوتن وويوسف وهبي وعبد الوهاب ولورنس اوليفر وفيفيان لي و مختار وجواد سليم وام كلثوم وغيرهم مئات تتقدم كلا منهمم صحيفة اعماله بحسناتها او سيئاتها .... ايجابية كانت ام سلبية ؛ رؤفة نقية متسامحة او قاسية عاتية مدمرة ؛ ومع ذلك فهي باقية في المتاحف او الساحات او الباركات او الشوارع العامة او المسارح او صالونات البيوت تشير الى جوهر العبرة والعظة .. وان حكمة الازل ما زالت سارية وموجزها ان التاريخ هو الفيصل في الحكم ( واما الزبد فيذهب جفاء ....)

في صبيحة يوم من ايلول مفعم بضوء الشمس الرقيق والندى يلف روما ؛ غادرت فندق ريجينيا المطل على شارع فيا فيتوريو فينيتو لاسير خطوات غير بعيدة نحو ذلك البارك الواسع المعروف ب ( فيلا بركيزه ) ولاتجول بين سندسه الزاهي واشجاره الباسقة المخضلة ثم لاطوف في غابة تماثيله التي تملأ مماشيه وساحاته وبركه ؛ تماثيل من كل لون ومن عصور مختلفة ؛ ساسة وقادة وشعراء وعلماء وفنانون وجميلات عاريات ومحتشمات ؛ تماثيل كاملة او نصفية ؛ غافية حينا وواقفة بشموخ احيانا أخر ؛ تماثيل لشخصيات صارمة واخرى لشخصيات ودودة ؛ و لم يفت دلك المهرجان النحتي من الاعتزاز بتمثال لامير الشعراء شوقي ؛ هكذا تحتفل وتحتفظ احدى ركائز الحضارة بتراثها المتشعب والمتصارع والمتنافر في بعض الاحيان ؛ لم تجتثه ولم تطهره بحسب رؤية آنية وقتية عابرة ؛ اذ لو فعلت ذلك فقد كان عليها ان تدمر كثيرا من المعالم والكتب واللوحات والعمائر والنصب والكنائس والجسور التي بنيت من مال الشعب في عهد ما او نظام ما . وخذ مثلا آخر على الاعتزاز بنتاج الفنانين والحفاظ على التراث؛
تقع مدينة دريسدن على الطرف الجنوبي الشرقي من المانيا ؛ وهي من المدن الغنية بصناعاتها وفنونها على حد سواء ؛ وقد تعرضت هذه المدينة العريقة الى هجمات جوية قاسية اثناء الحرب العالمية الثانية ؛ وحينما زرت متحفها الخاص بالفنون التشكيلية في الستينات من القرن الماضي بهرت بمحتوياته الفنية من لوحات زيتية ومائية وتماثيل تحيط بجوانبه ؛ لقدحدثني احد مساعدي المديرعن الدمار الذي حل بدريسدن فقال : حينما شعر اهالي المدينة بان القصف سيصل الى كل شبرفيها تركوا بيوتهم ومصانعهم وهرعوا ومعهم ابناء قرى بيرنا وراده بيرج وكوستج وفرايتال وسيبنتس المجاورة ؛ ليجمعوا كل ما في متحفهم ومعرضهم الاهم من اعمال فنية رائدة ليل نهار تحت وابل القنابل و ليغلفوا تلك الاعمال باحكام وعناية لتأمن في صناديق خشبية متينة اودعت في دهاليز و اقبية عميقة لا يمكن للقصف ان يطالها ؛ وبعد ان وضعت الحرب اوزارها ؛ عكف ابناء دريسدن على اخراجها وايداعهامتحفها الدائم ولكي يتولى الفنانون وذوي الاختصاص يعاونهم طلبة الدراسات العليا في اكاديمية الفنون اصلاح ما قد اصيب منها ببعض التلف من جراء الخزن الطويل وعدم التعرض للاضاءة ؛ وبعد ان شرح لي بالتفصيل تلك الجهود المثمرة فاجأني بقوله : ان بعضا من اعمال الصيانة والترميم مازالت متواصلة على الرغم من مرور كل تلك المدة ؛ وتأكيدا لذلك اخذني الى ورشة العمل التابعة للمتحف والمعرض الدائم ليريني ما يبذله اؤلئك الفنانون المختصون من جهود في سبيل اعادة الحيوية لتلك الاعمال الثمينةدون الالتفات الى العهد الذي انتجت فيه ؛ اذ الاهم عندهم هو الحفاظ عليها والافتخار بها وتمتع الجمهور بها

لو تصفحنا دواوين الشعراء الكبار لوجدنا فيها قصائد هي عبارة عن تماثيل بارزة مجسدة للشخصيات التي مدحت او ذمت ؛ بصيغة جادة او كاريكتورية ؛ فهذا المتنبي و البحتري وشوقي والجواهري يرسمون بقصائدهم تخطيطا دقيقا لشخصيات منحوتة بالحرف تبرز واقع تصورهم لها في لحظة ما وفي مكان ما ؛ فهل ياترى تستأهل دواوينهم ان تجتث ا وتحرق ؛ وهل يدخل في صلب قائمة المجتثات ايضا العمائر والمشاريع والجوامع والصوامع او حتى الافلام و الصور والوثائق والصحف وكتب التاريخ والاعمال الابداعية ...؟ بل وابعد من ذلك كله....؛ ماذا ترى ستفعل ايدي العابثين بتماثيل وجداريات وفخاريات ارثنا الحضاري السومري والاكدي والبابلي والآشوري وما بعده من تراث كنوز نا العريقة الاخرى ؛ هل نجتثها هي الاخرى ام نفتح الابواب كما فتحها المحتل للسراق والمهربين ليحملوا منها ما شاء لهم الفعل المخجل المريب ان يحملواو ليزينوا بها متاحف دول فقيرة بحضارتها ؛ اوليسوقوها الى صالونات الملياديرات ( الحرامية ) الجدد من محرومي الجاه ومستجدي الحضارة ؟!

ان اجتثاث الابداع عملية خاسرة تماما ؛ ما دامت هناك مصادر تملأ رفوف المكتبات ؛ واقراص الكترونية تعم آرشيف الوثائق في جميع انحاء العالم تؤرخ للنبأ والحدث الصغير قبل الكبير ؛ و بالحرف واللون والتجسيم والتجسيد . لهذا ولغيره من الاسباب يصبح من البدهيات المطالبة الملحة بوجوب الاحتفاظ بكل عمل ابداعي و بصيغة تليق بمكانة المبدع والجهد الاستثنائي الذي بذله فيه ؛ اما اذا يجد البعض ان من الضروري ابعاد هذا العمل الفني او ذاك عن مرأى العين واجتثاثه و قواعده من الشوارع العامة او الساحات او الباركات ... الخ فعلى المسؤولين عن فوضى الاجتثاث ايجاد مواقع لاماكن محصنة يحتفظ فيها بمثل تلك الاعمال لكي تغلق عليها الشبابيك والمنافذ فلا يراها احد ولا تطل هي على احد ؛ وليرفع فوقها عنوان اعمىفي جهله يقول : (متحف المنبوذات ) ـــــ ـ> هنا تقبع اعمال فنانين عراقيين خالدين منعها التزمت من ان ترى النور !!!

ان القادة الحقيقيين هم الذين يقودون لا يقادون ؛ وهم الذين يتعضون بتجاربهم وتجارب الآخرين في الماضي والحاضر ؛ لا يستغفلون انفسهم او يستغفلهم الاخرون ؛ ؛ ولا ادري اذا كان معيار اجتثاث من تلطخت ايديهم بدماء الابرياء ينطبق على المبدعين كتابا وشعراء ورسامين وموسقيين ونحاتين وصحفيين ومطربين وممثلين واقتصاديين... الخ مع ان جل هؤلاء لم يسبق لهم ان تصدوالأنسان بل و ربما حتى لنملة او حشرة او اصغر منهما ؛ لكي يعاقبوا باجتثاث اعمالهم .
ان التماثيل من حيث التفسير او الشرعية نوعان ؛ واحد صنمي اعد اساسا لاغراض العبادة كما كان على عهد الجاهلية او في بعض الديانات القائمة ونوع آخر من الفنون الابداعية المجردة من غاية التعبد والصلاة وانما هدفها ابراز معالم الشخصية او الحدث في حالتي السلب او الايجاب وهي لا تختلف في مضمونها وهدفها عن اللوحة او الصورة او القصيدة او الكتاب او العمارة ... الخ فكل منها يبحث عن التميز في العمل الابداعي باسلوب فني يختلف في النمط ويتوحد في الركيزة الجوهرية ؛ حيث نرى انماطا من رسم الشخصيات والاحداث في القصة او القصيدة او المسرحية او القطعة الموسيقية ؛ وما التماثيل الا من هذه النماذج الاخاذة في دنيا التجليات الفنية . ولو عدنا الى العقيدة والشرع ونظرنا بعين صافية منزهة عن الدنايا والتأزم ؛ لوجدنا امامنا امثلة حية على ابداع الطبيعة في النحت ؛ فالجبال والاشجار ولافا البراكين وتخلق الاشكال بتراكيب عفوية بعد الزلزال ؛ وتجمع الاحجار الى بعضها بتكوينات فطرية بعد العواصف والفيضانات والاتهيارات ؛كلها تمثل صيغا من النحت الذي لم تعرضه الطبيعة على البشرية بقصد العبادة او الصلاة !!!. ثم خذ مثلا آخر على اساليب من النحت في استعمالاتنا اليومية ؛ كالاحجار الكريمة المثبتة في الخواتم اوتكوينات مسبحات التعبد او كرستال الاضاءة ؛ اوا لاعمال الخزفية والطينية التي نحتفظ بها في البيوت زينة او استعمالا ... الخ اليست كلها من صنح نحات ماهر عكف عليها تصميما و صقلا وتهذيبا ليقدمها الينا صورة من ابداعه .
بل ان زيارة واحدة الى متحف التاريخ الطبيعي تعطينا صورة اخرى على عظمة الفن في ابراز مختلف الحيوانات وكأنها قائمة تسعى بيننا مجسمة قدرة الفنان على الابداع في تسجيل التشكيلات المختلفة كوسائل ايضاح تعزز جوانب المعرفة

.ان الشعب العراقي الذي يعيش بين تماثيل وجداريات حضاراته من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه لاكثر من سبعة آلاف عام يأنف ان يرى شوارعه وساحاته وقد خلت من ابداع انامل ابنائه الفنانين المعاصرين الذين شهد لهم نقاد العالم باعلى درجات التفوق والابداع االعبقري الفني . ان اليونسكو التي ملأت اسماع العالم صراخا عبر وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية ومن خلال البيانات والاحتجاجات ضد اجتثات طالبان لتماثيل افغانستان ؛ عليها ان تسمعنا ولو همسة خجولة ضد ما يجري في العراق ( الجديد!!!) من اجتثا ث لتماثيل كانت مثار اعجاب واكبار لاؤلئك الافذاذ الذين سفحوا ماء عيونهم وهم يخططون وينحتون ويصبون تماثيلهم لتشمخ على قواعد معنوية من الجهد والعرق والقلق ؛ قبل ان ترتفع على قواعد من السمنت والحديد ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ستايل توك مع شيرين حمدي - عارضة الأزياء فيفيان عوض بتعمل إيه


.. لتسليط الضوء على محنة أهل غزة.. فنانة يمنية تكرس لوحاتها لخد




.. ما هي اكبر اساءة تعرّضت لها نوال الزغبي ؟ ??


.. الفنان سامو زين يكشف لصباح العربية تفاصيل فيلمه الجديد




.. الفنان سامو زين ضيف صباح العربية