الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأديب الراحل جعفر سعدون لفته الجامعي وحديث عن الحياة والموت والغربة في الوطن.- الجزء الثاني

جعفر المهاجر

2016 / 1 / 11
الادب والفن


الأديب الراحل جعفر سعدون لفته الجامعي وحديث عن الحياة والموت والغربة في الوطن.
القسم الثاني.
كتب الشاعر الراحل جعفر سعدون قصائده بطريقة العمود وبطريقة التفعيلة وأحيانا بطريقة النثر فلا فرق عنده بين المضامين الثلاثة مادام الشاعر يمتلك أدواته ، ويرقى بمضمون القصيدة إلى روح الشعر بعيدا عن الإسفاف والصور الباهتة ، والتزويقات اللفظية العائمة . فالشعر هو غوص في أعماق البحروإستخراج اللآلئ والدرر منه نتيجة معاناة وسهر ناتجين عن ثقافة رصينة تكونت لدى الشاعر من خلال مطالعاته المستمرة لفهم حركة التأريخ والمجتمع.فالقصيدة هي التي تفرض نفسها على الشاعر. وكانت جل قصائده بمثابة وضع الإصبع على الجرح لكشف فساد هذا العالم وماديته القاتلة لكل المشاعرالإنسانية الخلاقة وجنوح الإنسان المعاصر نحو رحلة الخواء التي لاتنتهي إلا بالموت دون أن يقف في إحدى محطات الحياة ليتأمل ويراجع نفسه ليوجهها نحو المسار الصحيح. والقصائد التي كان يدونها بين الفينة والأخرى كانت تمثل له صرخة الاحتجاج التي تتأجج بين جوانحه على الإستلاب والقهر والزيف.لأنها كانت أداته الوحيدة التي يمتلكها والتي يستطيع أن يعبر بها عن كوامن نفسه، وخلجات روحه، وإرهاصاته الوجدانية. وغالبا مايستعمل الرموز التأريخية ويوظفها بصورة جيدة في قصائده. وكان كلما يكتب قصيدة يراجعها مرات ومرات إلى أن تكتمل مبنا ومعنى ليقول عنها (لقد اكتشفت لؤلؤتي الجديدة رغم هذا الصمت الموحش الذي يلف المكان الذي أكتب فيه. ورغم كل القهر الذي يطوقني ويطوق فقراء وطني.) وكان يردد دائما حين يجتمع بأحد أصدقائه:
(إن القصيدة تمثل إكسير الحياة لقلبي المتعب.أتنفس عن طريقها الأوكسجين الذي ينعشه، وأستمد منها إصراري على البقاء. ولا يمكنني الإستغناء عنها. ومهما قست الأيام ، وآدلهمت الخطوب فالفجر آت آت لنعانقه عناق الحبيب لحبيبه الغائب).
ففي قصيدة (عناق الفجر )يقول:
مرت الأعوام تعبى مثلنا
فغدونا نكرع الهمً دِهاقا
أيها السائل عنا إننا
نعشق الفجر وإن ملً العناقا
وهذان البيتان لهما شبه في المعنى بقصيدة الشاعر الجاهلي امرئ القيس التي يقول فيها رغم بعد الزمن والمسافات والغرض :
ألا ايها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ
فجعفر سعدون يتلهف دوما لعناق الفجر، وينتظره في ليله الطويل على أحر من الجمر. وبعد أن يتنفس ويخترق الظلمة يسارع إلى عناقه بلهفة الشاعر المستهام منتظرا منه أن يوحي له بقصيدة. لكن الفجر يتمنع عليه أحيانا لأنه لايطل وينكشف بيسر مثلما يتمنى ويرغب. لكثافة الظلام ،وكثرة المستبدين.وحين كان الملك الضلّيل يخاطب الليل ويطلب منه أن ينجلي بصبح مشمس لكنه رغم تمنياته لايأمل من ذلك الصبح شيئا مبهرا له لأن حياته ستظل جافة قاحلة كجفاف تلك الصحراء القاسية الممتدة لمسافات شاسعة وجعفر سعدون الذي ينتظر الفجر وإن طالت ساعات الإنتظار.لأنه متيقن إن هذا الفجر الطافح بشموس جديدة لايمكن أن يختفي إلى الأبد مهما تكالب عليه عشاق الظلام.
ورغم أعوامه السبعين التي قضاها في وطنه بكل مافيها من تعب وقهر وشقاء فإن جعفر سعدون لايرغب أبدا أن يستريح من رحلته الشعرية الطويلة. ولن يستسلم لليأس الذي يولد الصمت القاتل . ورغم قلبه المتعب فإنه يشعر أن عوده مازال مورقا ،ونفسه المتطلعة إلى عالم تسوده العدالة تلح على قلبه المتعب أن يستمر في تدفقه الشعري رغم هاجس الموت الذي يلاحقه في كل لحظة من لحظات حياته حيث يقول في قصيدة أخرى بعنوان (الرحله):
ففي النفس مازالت بقيةُ هاجسِ
تراود هذا القلب أن يقرض الشعرا.
وتغريه أن العود يختال مورقا
وأن حثيثَ الخطو لم يقرب القبرا
و في قصيدة أخرى بعنوان (خيال عابث) يستخدم بحر الرمل المتسارع في قصة حب عابرة ربما رآها في المنام أو مرت من أمامه كحلم فأثارت مكامن شوقه، وحركت أحاسيسه ومشاعره الإنسانية التي تتأجج بتلك العاطفة الإنسانية. وهذا هو شأن الشعراء الذين يحلمون بعالم يسوده الحب وتؤطره الأحلام الإنسانية المشروعة وهي ممتزجة مع دمائهم منذ أن خلق الله آدم وكما قال أحدهم :
ماالعمر إلا رحلة ربانها
الحبُ والأحلامُ والشعراءُ.
وجعفر سعدون رغم (سبعينه) التي يرمز إليها في الكثير من قصائده وهي رمز للموت استخدمه كما اعتقد يعجب كيف التقى العمر بالحب الذي سرعان ماأصبح سرابا ووهما حيث يقول:
بعد سبعين تحسست الغراما
عجبا والدهر يقريك الحِماما
عجبا والعيش ولّى غضُهُ
وبجنبيه تحولتُ حُطاما
عجبا رفةُ ضلعٍ تغتلي
فتحيلُ الريًّ مشبوبا أواما
عجبا يانفسُ من أيقظَها
نزوةً أضحت تحاكيك غلاما
كان وهما من خيال عابثٍ
قال لغوا وأجبناه سلاما
ولاشك أن الشاعر الراحل قد قرأ قصيدة (الأطلال) للشاعر إبراهيم ناجي وتأثر بها وفهم معانيها. ففي القصيدتين العديد من وجه الشبه في المعنى وكلاهما من بحر الرمل .
حيث يقول الشاعر جعفر سعدون :
كان وهما من خيال عابث
قال لغوا وأجبناه سلاما
ويقول إبراهيم ناجي في مطلع قصيدته الأطلال :
يافؤادي رحم الله الهوى
كان صرحا من خيال فهوى
ولو تتبعنا القصيدتين وهما طويلتان لاكتشفنا الكثير من توارد الخواطر والشبه بينهما وهذا أمر جائز في الشعر. فالشاعر المتنبي عندما اتهمه أحدهم بأنه أخذ بعض المعاني من قصيدة للبحتري أجابه : (الشعر جادة وربما وقع الحافر على الحافر).
وفي قصيدة أخرى بعنوان (هذا ماكنت عنه أحيد )وهي قصيدة فلسفية طويلة يعاتب بها الشاعر الزمن الذي لم ينصفه، ويخاطب الليل والفجر والبرق والشرر والسًحَر وكأنه يرثي نفسه كما رثى الكثير من الشعراء أنفسهم على مر التأريخ وأبرزهم الشاعر مالك بن الريب المازني التميمي حين أحس بالموت فرثى نفسه. فقال قبل موته :
ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً
بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا
فَليتَ الغضى لم يقطع الركبُ عرْضَه
وليت الغضى ماشى الرِّكاب لياليا
ويقول الشاعر جعفر سعدون في هذه القصيدة الفلسفية التي أعتبرها مناجاة لرحلة نفسه الهائمة والباحثة عن عالم نقي بعيد عن الزيف والقهر والأوجاع الإنسانية من خلال بصيص الأمل الذي يراوده وقد امتزج الرثاء مع هذا الأمل البعيد المنال وكأن لسان حاله يردد بيت المتنبي:
تراني والفلاة بلا دليل- ووجهي والهجير بلا لثام
حين يقول في هذه القصيدة التي أسماها ( مكابدات):
أنزلت روحي بين الأين والعثر
لما عشقت زماني خشية الخطرِ
فصحوة العمر أرواح تهونها
تعاسة الجد لولا كان من وطري
لقد رأيت الفتى صفرا عزيمته
وصاحب العزم منسوبان للشررِ
هذا يجرجر مأخوذا بلوعته
وذاك تفرحه إغفاءة السحرِ
فساري البرق لم يوقظ جوارحه
وليس في القلب من شوق إلى سمر
فكم خشيت أصيلا جاء يقتلني
كذاك قد كنت والإصباح في سقر
يطوي أمانيً ملتذا بمصرعها
ويحشد الهم في ساحي ومصطبري
وموعدي الصبح قد بانت طلائعه
وأوشك الليل أن يظما من السهر
لكنني رحت من يأس إلى أمل
أنقٍلُ العمر بين الخُسر والظفر
فما أرحت من الآمال متعبها
ولا أقمت رياح العسر من شرر
كذا خلقت صبورا يوم نازلة
هذا ردائي لايشكو من الوضر
فكيف أسعد في الدنيا وصاحبها
طوعا تخلى عن العلياء في صغر؟
فكان أطيب مايرجوه معذرة
بها يرقع فتق الذل والخور
أخيَ مهما اقتربنا نحن في شركٍ
يحوكُ لحمته حتمٌ من القدرِ
فما يبالي بأيٍ حبله علقتْ
ولا متى زار من أمسى على سفر!
والسفر هو الموت الذي يلاحقه دائما في تلك الغربة التي كان يعانيها في الوطن الذي تناهبه عشاق المناصب وأصحاب الغايات المشبوهة.
كتب جعفر سعدون قصائد كثيرة من خلال دواوينه وأكثرها قصائد من العمود الشعري وشعر التفعيلة وأحيانا قصائد نثرية تضمنها ديوانه المنشور ( من خوابي العمر ) وأستطيع القول إن جميع يجمعها قاسم مشترك هو الحياة والموت والغربة في الوطن الذي أحبه وتألم كثيرا من أجله ومزج دمه بترابه. الوطن الذي عبث ويعبث السياسيون به بلا رحمة،ويقامرون بمصيره، ويتنازعون على احتلال الكراسي والمناصب فيه ولا يبالون بدماء أبنائه التي تسفك منذ أعوام على مذابح أهوائهم وغاياتهم الفردية الأنانية. ويراهنون على الحرب الأهلية بين أبنائه لكي يحصلوا على أعلى المغانم التي يحلمون بها دون أدنى شعور بما يعانيه أبنائه من قتل وذبح وحرمان . وقصائد (رائحة الحلم ) و(بوابة الأمن إلى شهداء جسر الأئمه ) و(مثوى بكف الماء ) وغيرها تتحدث عن همه الكبير بما جرى لوطنه من مآس وويلات أثناء حكم الدكتاتور المقبور وما بعد الاحتلال الأمريكي البغيض. وقد قال لي يوما بالحرف الواحد أثناء زيارتي له قبل وفاته بسنة (لقد خيب الحكام الجدد آمالنا وسرقوا الحلم الطويل الذي انتظرناه بعد أن أغرقوا العراق في حيص وبيص مرة أخرى وأصبح وطننا الجريح ساحة يلعب بها كل لاعب صغيرا كان أم كبيرا.وإن الأمريكان لم يحتلوا العراق ويقضوا على الدكتاتور إكراما لسواد عيون العراقيين وسيرى الشعب العراقي الحكومات التي ستأتي بعد الإحتلال كيف ستخيب آمال العراقيين. وإن قيام دولة المواطنة هدف بعيد المنال في ظل أحزاب متنفذة تحاول تكريس الدولة الدينية التي لاتنتج إلا الإستبداد.) رغم كتابته للكثير من القصائد في مدح الرسول ص وأهل بيته ع وصدقت نبوءة الشاعر. وقد كانت كلماته صادقة تعبر عن خيبة الشاعر الذي أحب وطنه وناسه.
ففي قصيدته ( بوابة الأمن إلى جسر الأئمة ) تنتفض روحه لهول تلك الفاجعة التي ألمت بالعراق .ويستطرد فيها ليتحدث عن لحمة التآخي بين جميع المذاهب التي ضمها تراب العراق. وكيف لا وهو الذي مزج دمه بترابه إلى لحظات عمره الأخيرة فيقول:
طارق في الضحى بغتة
تحط على القلب أوجاعه
زمنا يحتبي بالأفول
وفيه يفارق عشق التراب السنى
إلى أن يقول :
لقد نقض الوجد ميثاق كتماننا
إنها وحدها سيدي أبصرت
مجيئ (بن ثابت )
وكان العبيدي (عثمان)
يتلوه شاهد صدق
إلى مأتم تصدره ( كاظم الغيظ )
فجسر الأئمة – مملكة الحب –
لن نضل الطريق إليها
فبوابة الأمن بين ( المعظم ) و( باب الحوائج )
شامخة لاتزول.
لقد كتبت ياجعفر سعدون لفته الجامعي جوهر الشعر. وأظهرت وجه القصيدة الجلي. وميزت بين الحق والباطل. فكنت وكانت أشعارك دوما إلى جانب الحق والفضيلة في كل حرف دونته. وكنت نعم المربي الفاضل العالي الخلق والإنسان العصامي الذي مات فقيرا وعفيفا وغريبا في وطنه. وكم من مبدع وعالم ومفكر طوته سجون مظلمة في هذا الوطن العربي الذي أحرقه الطغاة بالحروب والمآسي والجراح. أو مات في صومعته بصمت دون أن يلتفت إليه أحد.؟ لقد دخلت في سلامة الرؤيا دون لبس أو زيف. فلك الرحمة والغفران وتقبل من صديق عمرك هذا البسيط والنزر اليسير الذي تستحق أكثر منه بكثير وفاء لذكرى الصداقة والأخوة التي جمعت بين قلبينا وروحينا في تلك السنين الماضيات.
جعفر المهاجر.
11/1/2016م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم


.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا




.. -لقطة من فيلمه-.. مهرجان كان السينمائي يكرم المخرج أكيرا كور


.. كواليس عملها مع يحيى الفخراني.. -صباح العربية- يلتقي بالفنان




.. -بين المسرح والسياسة- عنوان الحلقة الجديدة من #عشرين_30... ل