الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العين الثالثة

صبا مطر

2016 / 1 / 11
الادب والفن


لا ادري ان كانت عيناي مفتوحتين أم انهما قد أغلقتا منذ زمن لا اعلم مدته, الا انني أتذكر كيف رأيت ان خيوط السماء بدأت بالارتخاء تدريجياً وكانت على وشك السقوط على صدري في ذلك المكان الغريب. كنت مستلقية بخوف وانا راقب تلك الخطوط الرفيعة التي بدأت بالاستطالة على نحو غريب, وكأنها اصيبت بمرض فجائي افقدها قدرتها الهائلة على الامساك بسقف السماء الشديدة الزرقة. هل ستكون نهايتي لو ان الخيوط تقطعت كلها دفعة واحدة؟ ام ان امرا اكثر اثارة سيحدث, حتى اكثر اثارة من موتي المحقق مسحوقة بالسماء!!
كنت انظر بوجل وصمت علني أرى شيئاً حينما ينقشع الضباب الذي تفتق فجاة من كل مكان ولا مكان. اغمضت عيني وفتحتهما, و ياللمفاجأة, أنني لم اجد عينيّ في مكانهما!!
تلمست اصابعي مكان عينيّ, الا انهما لم تكونا هناك!! أين ذهبت تلك الكرتان الصغيرتان يا ترى؟ وكيف افلتتا من محجريهما وأنا الحارسة التي لا تتوانى عن مراقبة اعضاءها وانفاسها وذاكرتها وكلماتها ومشاعرها وحتى مساراتها ودروبها. ربما استغلتا انشعالي بتلك الخيوط الهلامية التي بدأت بالارتخاء فجاة وهمتا بالهرب الى مكان لا اعرفه؟ ولكني لا زلت أرى كل شئ بوضوح تام ... ولكن كيف؟ وبأي عيون ارى؟؟
آه .. تذكرت بأنني ابصر أحياناً بعيني السرية . كنت مؤمنة بوجودها وكنت غالباً ما اشعر بتفتحها في داخلي , تبصر اشياء معينة وبلمح البصر تغمض اجفانها ثانية. كنت اوهم نفسي بأنها البصيرة التي تحاول ان تخبرني بشئ ما, او تكشف لي سر ما, او تحذرني من شئ ما, الا ان الرؤيا في الغالب تكون غير مكتملة, بعد ان تتركني معلقة بلقطات تتفتح وتتضاءل فجاة في مخيلتي.
الا انها تتفتح بوضوح أكبر حينما امسك بالورقة والقلم لأكتب. انها أداتي السرية المخباة في صندوق كنوزي المثير. انها عصاي السحرية التي أتوكأ عليها حينما يسود الظلام عالمي ويصبح كل شئ غريب عني... بلا طعم ولا رائحة ولا لون. انها عيني الثالثة التي تتفتق اجفانها حينما اكون في أكثر اللحظات صدقاً ونقاء مع نفسي. انها تريني العالم بألوان مختلفة, وتاخذني الى دروب لم يستدل عليها البشر بعد. حتى وان هربت عيناي من محجريهما فانا لا ابالي, لان لدي ما اكمل به طريقي . انها عين الروح التي تطلقني في عوالم الحقيقة كزهرة برية عطرة, وكحرف مسحور يكتب اسرار الدنيا ويعانق جمال الروح ويرسمه في لحظات ومضية, تشبه اللحظات التي تمطر فيها السماء الشهب التي تهوي كومضة حالمة الى خضم الروح وهي في اوج استعدادها لاستلام الاشارات المنبعثة من عوالم الغموض الجميلة. ماذا تبقى لديّ ايضا؟
نعم, يداي اللتان تستدلان الطريق بنور عيني السرية الى حروفي الغارقة في عزلتها, وحالما تلمسها يداي فانها تحيلها الى نهر يجري على وجه الكون بأتساعه, ويسقي حقول الروح الظامئة الى الشعر والكتابة. وياللعجب فأنني اشعر بأن يديّ غريبتان عني , تتحركان في اشارات وحركات مبهمة . أتحسس بقية الجسد المستلقي بهدوء على المنضدة في هذه الغرفة البيضاء. لا شي غير جسد يقع تحت تاثير المخدر. فأنا في غرفة التجهيزات لعميلة جراحية. حيث مفعول الدواء يسري بهدوء في عروقي ويشل حركتي تدريجياً. انه يجعلني استسلم له بصورة لا ارادية . الا انني لم انم او ربما نمت .. لا ادري؟ لكنني رأيت كما لم ارَ من قبل. رأيت ان السماء تهطل باتجاهي . آه كم كنت متحمسة لرؤية المشهد التالي, ربما سأرى السر المخبئ في قلبها الازرق؟ او ربما سأرى الفراغ عارياً في عزلته هناك؟ لكن هل ستسمح لي السماء بكشف بعضا من اسرارها؟ ام ان هذا مجرد حلم او تهيؤات من جراء الهلوسة الناتجة عن مادة البنج ؟
انه لعذاب جميل ان أكون هناك ولست بهناك, انه لسحر ان أكون مثل نجمة تهوي من قلب الحقيقة الاف المرات وبالاف السيناريوهات, انها لمعجزة ان أرى ان للسماء خيوطاً من حرير, ترتخي لحزني وخوفي المعلق على مبضع جراح مجهول. ترى اي منا يعيش تجربة اكثر اثارة؟ أنا أم الجراح الذي سيتعامل بعد قليل مع جسد مكون من انسجة واعضاء؟ بينما اقبع أنا خلف منظار الروح السري, اراقب اسراراً ما كنت احلم ان افكر بها او ان اصل اليها, او ان اكتشفها يوما؟
كانت روحي تطير وترفرف وترى عوالمَ ساحرة تحت اجفاني المغمضة. ان الأسرار تسكننا نحن ولا تسكن العالم الخارجي فقط. فنحن مستودع الاسرار الذي لم يدشّن بعد, وواحة عشق وطيران الى امكنة لا تخطر على بال البشر وهو في كامل يقظته ووعيه. كنت أرى من وراء الاسوار والحجب . كنت اسمع السكون يحاورني بلغة ابلغ بكثير من لغتنا العادية. كنت اسمع الريح تغني, والاشجار تتشاجر, والارض كانت تنشد بلا انقطاع أناشيدها الأزلية التي صنعتها من صوت وقع اقدام المارة.. ومن براكينها التي تغلي في دواخلها ومن فحيح رمالها ولزوجة طينها ورائحة ترابها وليونة عشبها. والبحر كان مدينة كبيرة تسكنها الاسماك الطائرة!!
حتى الديدان والعناكب تتحدث بلغة افهما, تبث اليّ شجونها التي لم نكن نعرفها. انها تتألم وتنشج وتفرح وتغني مثلنا. لكن كيف لنا ان لا نسمع الكون برمته وهو يكتب لنا اروع قصائده ويخبرنا عن اجمل حكاياته, ويصرخ احيانا باعلى اصواته؟؟ كيف لا نسمع صرخات الألم والفرح المنبعثة من كافة الكائنات الحية التي تحيط بنا من كل حد صوب, فنحن وهي شركاء على هذه الارض وكلنا نتنفس الهواء نفسه؟
السماء بدات ترتفع تدريجياً الى مكانها الطبيعي, وبدأت الخيوط بالانسحاب الى الاعلى وكأنها اكتسبت خاصيتها المطاطية من جديد. تململ جسدي وبدأت بسماع أصوت الجراح والممرضات في غرفة العمليات. رأيت عينيّ تعودان اليّ بخجل وتطلبان مني السماح بالرجوع الى مكانهما الطبيعي, بعد ان اصطدتهما بجرم الهرب المشهود من محجريهما. كذلك يداي, حيث بدأتا بالحركة والعودة التدريجية الى الحياة, ومفعول البنج ينسحب مني رويداً رويداً الى قاع سحيق. اما عيني الثالثة فانها اسدلت الستار على مقلتها الملونة وتلاشت تدريجياً الى الدواخل. فتحت جفنيّ بهدوء ورأيت الممرضات يهنئنني بسلامتي ونجاح عملية تفتيت واستخراج الحصى من كليتي اليمنى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي