الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقتطف من كتاب: -المفكر والمثقف- - بوادر ظهور أزمة العقل الغربي -

ساكري البشير

2016 / 1 / 14
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


في البداية نحاول رسم الحدود الزمنية للقرون الوسطى؛ ولتحديدها نجد أنها استمرت منذ سقوط الحضارة الرومانية في الغرب عام 476م إلى سقوط الحضارة البيزنطية في الشرق على يد الأتراك عام 1453م، بمعنى أنها استمرت ألف سنة تقريبا! وهذه فترة طويلة جداً في تاريخ الحضارات وعمر الشعوب؛ ثم جاءت بعدها طبقة الحداثة التي لا تزال مستمرة منذ أربعة قرون وحتى اليوم. وهي مقسمة حسب ما يذكره لنا المفكر هشام صالح، فهناك العصور الوسطى الواطئة والعصور الوسطى العالية، أو العصور الوسطى البعيدة والعصور الوسطى القريبة؛ فالأولى استمرت منذ القرن الخامس بعد الميلاد إلى القرن العاشر أو الحادي عشر، وهي الأكثر إظلاما وفقرا من الناحية العلمية والفكرية؛ أما الثانية فقد استمرت منذ القرن الثاني عشر (تاريخ إرهاصات النهضة الأوروبية الأولى) وحتى القرن الخامس عشر أو السادس عشر (تاريخ النهضة الأوروبية الحقيقية)، وبالتالي فمن الظلم أن ننعت القرون الوسطى بأنها مظلمة كلها بنفس الدرجة، أو أنها معادية للعلم والعقل من أولها إلى آخرها، فهذه صورة سلبية جدا عن تلك العصور. وقد تشكلت في عصر النهضة وما بعدها من أجل تسفيهها والتمايز عنها.
وأول الأعمال التي تمخضت عنها هذه الأزمة التي أودت بالعقول التي كانت تنير الحضارة الغربية في العصر الروماني، هو ذلك العمل الذي قام به الإمبراطور جستنيان سنة 529م، بإغلاقه المدارس الفلسفية في أثينا، إذ يبدو أنه أراد منع الفلسفة غير المسيحية في جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية؛ بغضِّ النظر عمَّا دفع الإمبراطور جستنيان لإغلاق المدارس الفلسفية، فقد كانت أيام التساؤلات العقلية المنفتحة معدودة على كل حال، لقد كانت القيود الروحية والدينية على الفكر اليوناني الروماني تزداد قوة لفترة ليست بالقليلة، لذلك كتب الشاعر بروكليوس في إحدى ترانيمه للأوثان يقول: "فدعني أحط رحالي أيها الشريد في قلعة الورع".
هنا بدأت علامات الفلسفة اليونانية التقليدية تخبو حتى بين المفكرين غير المسيحيين، فالصبغة العقلانية التي اتصف بها طاليس وأناكساجوراس وديموقريطس وأبيقور، وعادةُ التساؤُل المتأصِّلة التي اتصف بها سقراط والسفسطائيون والشكوكيون، وحب أفلاطون للجدال المنطقي، وفضول أرسطو العقلي واسع النطاق، كل هذه الصفات كانت تختفي أو على الأقل تتغير.
لم يكن إغلاق المدارس الفلسفية في أثينا عام 529م أمراً خطيراً في حد ذاته، فقد سبقه حدثان ألحقا ضرراً أكبر بالحياة الفكرية؛ أولهما؛ تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى الغرب اللاتيني والشرق اليوناني في القرن الرابع، حيث فصل سريعاً بين الأوروبيين وبين تراثهم الإغريقي، وثانيهما؛ تدمير الإمبراطورية الغربية وحضارتها على يد البربر في القرن الخامس، ومع ذلك بعد عام 529م علامة فارقة في تاريخ الفلسفة، فمنذ ذلك التاريخ ظلت الفلسفة في الغرب بشكل أو بآخر أسيرة الديانة المسيحية قرابة ألف عام. إذا نقول بأن في نهاية الإمبراطورية الرومانية، أصبحت المسيحية الدين الرسميّ: ترسّخ مشروعها شيئاً فشيئاً بالنسبة للجميع بواسطة الدعوة التبشيرية وأيضاً بواسطة القوة والعنف. وإذا نظرنا إلى الأمر بعين الفكر الحديث، فمن الـمُغري أن تنظر إلى ذلك الفاصل الزمني الطويل، وكأنه يشبه حكاية الجميلة النائمة، فبعد أن التقت الفلسفة بالعقيدة المسيحية غرقت في سبات عميق قرابة ألف عام. ولا ننكر تلك الثورة التي غيرت مجرى التاريخ، التي يدس فيها الغرب سمه داخل المسيحية بذاتها.
وفي هذا لي رأي يخالف تلك الآراء، فالمسيحية قد لطختها أيدي الغدر، ولم يبقى منها سوى اسم يدل على ظلام العقل في تلك الفترة؛ هذا الإنكار هو ما حمل مفكري العصر على إعادة بعث بوادره في العالم الإسلامي ليُسمى الدين الإسلامي بنفس المسميات التي تطلق على الدين المسيحي والعقل المسيحي في القرون الوسطى، فلا فرق بينهما عندهم كما هو عندي، ولكن رؤيتي للحالة هي أننا نحن من نعيق عمل الدين، ونخلط بين هذا وذاك، فالمسيحية كانت نقية ورسالة سماوية كما هو الشأن بالنسبة للدين الإسلامي، وكما تم تلويث الأولى، فهم الآن يحاولون تلويث الثانية بنفس الأدوات التي تم استعمالها سابقا، لهذا نرى ونسمع كثيراً في الإعلام مصطلحات تُنسب للمسلمين كالإرهاب والتطرف والتخلف وغيرها؛ لهذا فقط يتم وصف العالم الإسلامي بالقرون الوسطى الجديدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و