الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سبع أرواح

طارق المهدوي

2016 / 1 / 17
الادب والفن



مع إيماني التام بأهمية التفكير العلمي العقلاني فأنا مدرك لحقيقة تأثر الحياة الإنسانية إيجاباً وسلباً بالمنظومات المادية والروحية وبالتفاعلات الكمية والكيفية وبالمصادفات الخارجة عن جداول الأنماط المتوقعة سلفاً، وبغيرها من الموجودات التي مازال الوعي البشري المباشر حتى اليوم غائباً عن استيضاح تفصيلات ملامحها الملموسة والمحسوسة، دون أن أترك نفسي للانزلاق سواء داخل حظائر الإيمان الشعبوي العشوائي بهذه الغيبيات أو داخل أفخاخ الصور الذهنية المغرضة والمبرمجة حولها، بما تشمله من خرافات وخزعبلات وسحر وشعوذة تدفع نحو التفكير القدري الاتكالي المؤدي إلى سلوكيات بشرية انهزامية تستسلم عند مواجهة شرور الحياة اليومية، ورغم الوضوح النسبي للوجه الواقعي في الشرور التي أحاطت بحياتي الشخصية ذات مرة منذ ثلاثة أعوام فقد تضمن المشهد نفسه أحداثاً أخرى لها وجه مغاير لم استطع حتى اليوم استيضاحه، فالأجهزة السيادية المصرية المخترَقة والمعتلاه من قبل جماعات الإسلام السياسي الفاشية والكارهة لي على خلفية أفكاري وآرائي وممارساتي كشيوعي مرتبط مهنياً بتلك الأجهزة، كانت قد رتبت كل شيء آنذاك على نحو من المفترض أن يسفر عن قتلي عبر أسلوب الإزالة النظيفة المتمثل في إخراج جريمة التصفية الجسدية وكأنها خطأ طبي غير متعمد أدى إلى وفاتي، وبمجرد انتهائهم من ارتكاب الخطأ الطبي ضدي بشكل إجرامي نموذجي نزع الأطباء جميع الأنابيب والتوصيلات عن جسدي المسجى بلا حراك وغطوه بالكامل ثم أحكموا إغلاق باب الغرفة من الخارج، واتجهوا صوب مكتب مدير المستشفى لتوضيب أوراق ملفي الطبي بشكل قانوني مع كبير ضباط الاتصال بين المستشفى والأجهزة والذي أرسل إشارة لاسلكية إلى قياداته يقول نصها المنطوق: "صاحبنا خلاص باي باي"، لتقوم الأجهزة السيادية بفتح مقابرها من أجل استضافة جثماني وتحريك إحدى عربات نقل الموتى التابعة لها بطاقمها البشري نحو غرفتي، حتى تنقلني تحت إشراف كبير ضباط الاتصال إلى المقابر المفتوحة بدعوى أن إكرام الميت يتطلب سرعة دفنه لاسيما لو كانت طبيعة عمله المهني مرتبطة بتلك الأجهزة، ورغم حصولي لاحقاً على إفادات تفصيلية حول التدخلات المتعددة والمتنوعة التي مارست ضغوطاً مكثفة من أجل التراجع عن سيناريو تصفيتي خلال الفترة الزمنية القصيرة الواقعة بين الإشارة اللاسلكية ووصول عربة نقل الموتى أي بين إعلان وفاتي وسحبه، فمازال للمشهد وجهاً خفياً استعصى على التدوين ليس فقط بسبب صعوبة تصديق تفصيلاته ولكن أيضاً بسبب صعوبة استيضاح منطقة حدوثها، فأنا لا أعلم حتى اليوم على وجه اليقين والدقة ما إذا كانت تلك التفصيلات قد حدثت في منطقة الواقع أو في منطقة الحلم أو في منطقة التخدير أو في منطقة رابعة غيرها، وما إذا كانت المنطقة الرابعة المحتملة تتوسط مناطق الواقع والحلم والتخدير أو أنها تعلوها أو تضمها معاً أو تبتعد عنها جميعاً!!.
(2)
رأيتُني وقد خرجتُ من جسدي المسجى بلا حراك على فراش الموت وفارقتُه طائراً ثم ارتفعتُ فوقه لمشاهدته من أعلاه بمزيج غريب من مشاعر الفضول والدهشة والمتعة واللامبالاة لاسيما وقد زال شعوري بالآلام الناجمة عن سابق تمزيق الأطباء لأحشائي، ثم سرعان ما عاودتني صور فيلمية مدمجة ومكثفة لكل مشاهد حياتي السابقة بجميع أطرافها الأخيار والأشرار من الفاعلين أو المراقبين أو المفعول بهم مع كافة تفصيلات تلك المشاهد حتى ما كان منها خافياً عني في حينه، ثم ما لبثتُ أن رأيتُ قطيعاً من كائنات سوداء قبيحة نصفها الأسفل بشري ونصفها الأعلى حشري تحت قيادة شبيه الذبابة باعتباره أكثرهم قبحاً وسواداً، كانوا جميعاً شامتين وهم يهددونني بمعاقبتي جراء ما سبق لي فعله ضدهم إلا أنه كلما اقترب أيهم مني ظهرت تفصيلات ملامح وجهه المتطابقة مع أحد الفاسدين أو المستبدين أو التابعين الذين طالما حاصرتني شرورهم خلال حياتي، وفجأة تراجع القطيع الأسود بمجرد ظهور الوجوه البيضاء المتشابهة لكل الراحلين من أحبائي مع كافة الراحلين من المشاهير الذين طالما تعلق قلبي بحبهم وكانوا جميعاً ضاحكين وهم يرحبون بقدومي إلى المكان الناعم المريح الذي حجزوه لي وسطهم، ثم أتاني صوت جلبة صاخبة أخذت تتصاعد تدريجياً كلما اقتربت مصادرها التي اتضح أنها هتافات الراحلين من شهداء جرائم الفساد والاستبداد والتبعية في مصر المعاصرة، والذين رغم اختلاف أشكالهم وتعدد ألوانهم فقد كانوا جميعاً قلقين وهم يناشدونني البقاء حياً حتى يمكنني استكمال محاولاتي المضنية لأكشف أمام ذويهم مستور ما سبق أن أصابهم من مظالم أزهقت أرواحهم، استمرت تهديدات الفريق الأسود دون أن تخيفني كما استمرت ترحيبات الفريق الأبيض دون أن تغريني أما مناشدات الفريق الملون فقد جذبتني نحو العودة للدخول مجدداً إلى الجسد المسجى بلا حراك، ارتعد جسدي بقوة زلزلت الفراش بينما أخذ لساني يكرر بصوت مرتفع ترديد عبارة: "لا تقلقوا يا رفاقي الراحلين فلسوف استكملُ محاولاتي التي وعدتُكم بها ليس فقط من أجلكم ولكن أيضاً من أجل أبنائكم وأحفادكم"، حتى أن أعضاء كتيبة دفن الموتى قد سمعوا صوتي فور دخولهم إلى غرفتي فأعلنوا رفضهم المشاركة في دفن أحد الأحياء وهم يتراجعون للانسحاب بعيداً عن كبير ضباط الاتصال، الذي لم يجد أمامه سوى توبيخ مدير المستشفى على مسمع مني بسؤال استنكاري يقول نصه المنطوق: "مش أنا سبق شرحت لك يا غبي إن صاحبنا ده زي القط عنده سبع أرواح"!!.
طارق المهدوي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبكة خاصة من آدم العربى لإبنة الفنانة أمل رزق


.. الفنان أحمد الرافعى: أولاد رزق 3 قدمني بشكل مختلف .. وتوقعت




.. فيلم تسجيلي بعنوان -الفرص الاستثمارية الواعدة في مصر-


.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص




.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟