الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدائرة الأولى والأنظمة القمعية

مارلين تادرس

2016 / 1 / 18
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


ذكرتنى قصص الإختفاءات القسرية والسجون التى باتت تضم الكثير من معارضى النظام فى مصر برواية "الدائرة الأولى" للكاتب الروسى الكساندر سولزينيتسين والتى نشرت ترجمتها الإنجليزية عام 1968 بعد نشرها ناقصة بسبب الرقابة باللغة الروسية. تتحدث الرواية عن حملة التطهير التى قام بها النظام الستاليني بعد الحرب العالمية الاولى عندما كانت حالة البرانويا متزايدة لديه فقام بسجن المثقفين والعلماء والنشطاء والسياسيين وكل من تسول له نفسه نقد النظام او الإعتراض على ما يفعله. وقد وضع ستالين نخبة من الأكاديميين والعلماء فى مكان خاص - الشاراشكا- بحيث جندهم لخدمته وخدمة الدولة بعلمهم كل فى تخصصه, فهم بذلك أصبحوا من المختارين, ولذلك تعتبر الشاراشكا ميزة عن باقى السجون بالرغم من أنهم لا يتمتعون سوى بحريات رمزية مثل وجود ورقة وقلم على سبيل المثال.

فى نهاية الرواية قام 20 عالما بالاعتراض على المهام اللاأخلاقية التى طلب منهم النظام القيام بها فقرر النظام إرسالهم إلى سيبريا عقابا لهم فلم يعد النظام بحاجة إليهم. وعلق أحدهم وهم فى سيارة الترحيلات انهم كانوا بلا شك فى جهنم فكل شىء كان ممنوعا– فقاطعه آخر قائلا: "هذه ليست جهنم. الشاراشكا هى الدائرة الأولى – هى الجنة بالنسبة للجحيم الذى سنذهب إليه." وتعبير "الدائرة الأولى" مأخوذ عن رواية "الفردوس المفقود" لدانتى والتى يرى فيها ان هناك 9 دوائر لجهنم تزيد تدريجيا فى قسوتها كلما اقتربت من القلب. واولى تلك الدوائر هى المطهر – حيث يتواجد فيه من لن يستطيعوا دخول الجنة لكنهم أيضا لا يستحقون دخول جهنم فيبقون فى مكان خاص هو المطهر. وعلى فدر فظاعة المكان فإنه الأقل قسوة من كل الدوائر الأخرى. حتى أنه عندما تبدأ رحلة دانتى بدخول جهنم تقابله بوابة كبيرة مكتوب عليها: "تخلوا عن الأمل يا من تدخلون هنا." هم إذن كمن رقص على السلم.

نرى فى الرواية أيضا كيف أنه كلما ازدادت برانويا النظام – أى نظام – يزداد قمعه, وتمتلىء السجون بالظالمين والمظلومين سواء. فستالين – على الأقل فى رواية سولزينيتسين – يصاب بجنون العظمة فيرى أنه لابد أن يعيش تسعون عاما على الأقل لأنهم يعيشون فى أوقات مضطربة , حتى يستطيع أن يكمل بناء الدولة ويقهر العدو الخارجى الغربى الديمقراطى فهو وحده القادر على هذا دون سواه. وهو يرى حب الشعب له حينما تقابله الجموع بالترحاب أينما يذهب ولكنه يرى أيضا أن معاملتهم برفق ليست ضرورية فالجموع التى تقل هنا سوف تزداد هناك. وتأتى مع حالة البارانويا حالة من النرجسية – فهو الوحيد القادر على حماية الدولة ولا يثق فى اى فرد من الشعب ليساعده. ولكنه وجد من يثنى عليه ويتملقه ويصفه بكل الصفات العظيمة. بل وذهب ستالين إلى رفض كلمة ثورة فى حد ذاتها – فلا توجد ثورات بعد اليوم – بعد ثورته هو العظيمة.

وأما وزارة أمن دولة ستالين فكان لها ثلاث محاور فى جلساتها الإعلامية: المحور الأول هو انك لو كنت مواطنا حقيقيا فسوف تساعد النظام – والمحور الثانى لو لم تساعد النظام فأنت لست مواطنا حقيقيا – والمحور الثالث لو أنت لست مواطنا حقيقيا فأنت لست مع النظام بل ضده وعليه تستحق الحكم المشدد عليك.

إنها الثلاث محاور لأية أنظمة قمعية – وهى الكلام الذى يتردد على ألسنة الناس ليس لأنهم فكروا فيه ولكن لأنهم تلقنوه. هى الدعاية المدروسة. والشعب لا يبحث عن الحقيقة فالشعب يريد الأمان من الأعادى على كل باب – وقد يكون هناك بالفعل أعادى على الأبواب - الشعب يريد الطعام لأولاده ويريد ما يقيه برد الشتاء. أما السياسة وفكرة الظلم وفكرة الكرامة لم تعد لها وجود. حتى كلمة حقوق الإنسان يتم إستباحتها وكأن من يتحدث عنها يتحدث عن موضوعات إباحية. هى الطاعة التى تسعى لتدمير كل قيم الحرية حتى أن المقهور يشعر بأنه ليس مقهورا وانه سعيد بالوضع الحالى. فالنظام القمعى– حسب إعلامه وابواقه – هو المخلص الأوحد والمعلم الأكبر وهم فوق النقد لأن من ينقد فهو ليس مواطنا حقيقيا. فأجهزة الدولة بإعلامها تعمل على بناءا قيميا جديدا يدين الإختلاف ويقمع الحريات ولكنه يؤكد فى ذات الوقت أن الحريات مكفولة. ويتم التشكيك حتى فيما تراه أمامك – فأنت ترى على سبيل المثال جنديا يدوس بحذاءه فوق صدر فتاة فيخرج آخر ليقول ان الجندى كان يساعدها بعد ان سقطت – فيشكك حتى فيما نرى ونعرف. أو أن ترى فتاة يضربها ضابط بالرصاص فتسقط قتيلة فيقول قائده هذا نوع من الرصاص لا نستخدمه. التشكيك فيما نرى ونعرف – فما تراه ليس ما تراه وما تعرفه ليس الحقيقة بل هو من فعل الخونة والعملاء.

تذكرت كل هذا وتذكرت الرواية حينما قيل لى أكثر من مرة هذا الأسبوع " لماذا تتكلمون عن هذه الأشياء الآن قبل 25 يناير؟ نحن مبسوطون هكذا" وكأن هناك مؤامرة كبرى جعلت الكل يتحدث فجأة بالرغم من أن نفس من كان يتحدث من قبل هو الذى يتحدث الآن. أصابتنى كلمات "مبسوطون هكذا" بحزن عميق– كيف أكون مبسوطا هكذا وأنا أعلم أن هناك – حسب كلام الرئيس ذاته – أشخاص مظلومون فى السجون؟ مبسوطون كيف وهناك طفل كتب على التى شيرت لا للتعذيب فقبع فى السجون بدون محاكمة 700 يوما ويزيد ولا يزال هناك؟ مبسوطون كيف وهناك من لا يحصل على الدواء أو على البطانيات ليقيه برد الشتاء لأنه غير مسموح إدخال هذه الأشياء فى السجون؟ مبسوطون كيف وهناك جراح اتى من المانيا فى زيارة قصيرة لمصر وشارك فى وقفة مسالمة فوق كوبرى 6 اكتوبر احياءا لذكرى محمد محمود وتم القبض عليه؟ مبسوطون كيف وقد قبض على فتاة معها كتاب غسان كنفانى وهى تدخل مطار القاهرة؟ مبسوطون كيف واسلام البحيرى وغيره متهمون بازدراء الأديان؟ مبسوطون كيف ونحن نعلم أن هناك ترتيب قائم فى مجلس الشعب وتحالفات لا معنى لها سوى الإنقضاض على اختصاصاته؟ والقائمة تطول.. ولكنهم مبسوطون.

فى نهاية كتاب الدائرة الأولى, عندما كان السجناء العشرون مرحلون إلى سيبريا – السجن الأكثر قسوة فى العالم, مرت سيارة الترحيلات الكبيرة فى الشارع مكتوب عليها كلمة " لحوم" بأربعة لغات لأن ستالين كان يرى أن شكل سيارة الترحيلات يعطى احساسا غير محبب للشعب وللزائرين للبلد فأمر بأن يكون مكتوب عليها أسماء أطعمة. وتوقفت السيارة عند مزلقان قطار ووقفت بجانبها صدفة سيارة مراسل صحيفة جريدة ليراسيون الفرنسية. نظر إلى سيارة الترحيلات واخرج ورقة وقلما ودون فيها باللون الأحمر "بين الحين والآخر يصادف الشخص شاحنات نقل غذاء نظيفة ومعقمة فلا يوجد شك لدى أن تنظيم امدادات الغذاء في العاصمة يتم بشكل جيد للغاية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل وبخ روبرت دينيرو متظاهرين داعمين لفلسطين؟ • فرانس 24 / FR


.. عبد السلام العسال عضو اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي




.. عبد الله اغميمط الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم التوجه


.. الاعتداء على أحد المتظاهرين خلال فض اعتصام كاليفورنيا في أمر




.. عمر باعزيز عضو المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي