الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب من العنف إلى التراحم..المصالحة من رحم المستحيل

عبد الجبار خضير عباس

2016 / 1 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


كتاب من العنف إلى التراحم..المصالحة من رحم المستحيل
عبد الجبار خضير عباس
تأليف فيرن نيوفيلد ريديكوب ترجمة سهيل نجم ومصطفى ناصر منشورات الروسم. بدءاً الكتاب وبحسب قناعاتي يعد من أهم واخطر المطبوعات التي تعالج حالات العنف الطائفي والعرقي، والديني، والقومي.... إذ إن الكتاب لا يعتمد على سرد قصص العنف والاغتصاب والتهجير...فحسب، بل إن الكتاب يدرس حالات العنف المتنوعة عرقياً، وطائفياً...بمختلف تنوعاتها الجغرافية فضلاً عن دراستها نظرياً وتحليلها وتفكيكها عبر المتابعة والمعاينة الميدانية، فمثلاً على الرغم من أهمية كتاب (مراقبة الريح) تأليف سوزان كولن ماركس الذي يتحدث عن حل النزاعات في جنوب أفريقيا عبر زمن الانتقال نحو الديمقراطية، وتجربته الغنية في نقل حكايات عن حالات التعذيب، والتنكيل، والتهميش، والامتهان الذي تعرض له السود، ثم دور نلسن ماندلا، والقوى المحبة للسلام بانتشال جنوب أفريقيا من التدمير إلى حالة من السلام والوئام، وازالة التفرقة العنصرية التي مرت عبر مخاضات عسيرة، والأجواء الملبدة بالعدائية، والكره المزمن، والوراثي...إلا أن الكتاب افتقر للقراءة النظرية والتحليل مثلما طُرح من معالجات في كتاب (من العنف إلى التراحم). إذ ثمة إجابات بشأن الكم الهائل من خزين العدائية الذي نحمله للآخرين وكيف نعدهم "جحيماً على الأرض" في الكتاب إجابات لتساؤلاتنا "لماذا تكون لدينا هذه المشاعر؟ وما المطلوب منا فعله حيال ذلك؟" يظهر لنا الكتاب "أننا بينما نحاكي رغبات الآخرين فنحن نحاكي مفاهيمنا عن داخليتهم" يتحدث الكاتب بصوتين صوت المنظر للصراع والمصالحة والثاني، صوت الإنسان العادي الذي يغرق في أجواء الصراعات والعنف ومصالحات الواقع اليومي، ويعتقد أن عرض الصوت الثاني، ضروري لان أغلب الصراع العميق الجذور هو عما يحدث في داخل الإنسان. ويفكك الكاتب المفاهيم التي تؤثر في تشكل الصراع العميق الجذور مثل المعنى، والترابط، والأمن، والفعل، والاعتراف. ثم يبين أولويات هذه المفاهيم وأختلافها في المجتمعات لكنها مشتركة في كل حالة من حالات الصراع، ويضعنا في تجارب ميدانية مختلفة من كندا، والبوسنة والهرسك، وجنوب إفريقيا، وفلسطين وغيرها عبر قراءات ميدانية...أرى من الضروري تدريسه في الثانويات، والجامعات، والمؤسسات الأمنية، إذ سيكسب المتلقي حصانة ضد عدائية الآخر المختلف. وأنه لا توجد أية مشكلة في الصراعات العميقة مهما بدت معقدة جداً ومركبة وشائكة إلا ولها الحل حتى لو أنه يبدو مستحيلاً، فمن رحم المستحيل هذا تحققت المصالحات إذا أمنا بها. اختم هذه المقدمة بما كتبه لي المترجم سهيل نجم عبر إهدائه الكتاب "ترى متى يدرك العراقيون أن لا سبيل لهم إلا بالتراحم والمصالحة".
الكتاب (من العنف إلى التراحم) يفكك مفاهيم العنف، والروح العدائية التي سببها الصراع العميق الجذور، ويبحث في الميكانزمات المحركة لها عبر الدراسة النظرية والقراءة الميدانية، فمثلاً عند الحديث عن حاجات الهوية الإنسانية يقول:" قدمت مداخلة عن الصراع العميق الجذور إلى مجموعة من طلاب الجامعة في موستار والبوسنة والهرسك، كنت قد وصلت قبل يوم من تقديم المداخلة، وقد أفزعني جداً أن أرى صفاً بعد صف من المباني المدمرة، فكرت بآلاف الناس الذين عانوا من سنوات القتال، وعمليات الإزاحة التي رافقتها، استعملت في المداخلة المعايير المطلوبة للمعنى، والفعل، والترابط، والأمن، والاعتراف. وحين انتهيت، عملت استطلاعاً لأقرر أي هذه الحاجات له الأولوية، وعندما وصلت إلى (الأمن) كان 95% من الطلاب قد رفعوا أيديهم، عندئذ نظرت إلى وجوه هؤلاء الطلاب، وهم في العشرينيات، أدركت أن أغلبهم كانوا في عمر المراهقة حين حدث القتال، والتطهير العرقي، قدمت هذه الحاجات إلى المئات من الطلبة في مختلف الأماكن من العالم، لكنني لم أواجه مثل هذا التحديد الساحق للأمن في ذلك السياق، يبدو أن تلك الاستجابة يقف وراؤها ألم لا يصدق وخوف وحرمان."
ثم ينتهي إلى ضرورة الخروج من العنف إلى التراحم، ويورد العديد من التجارب التي نرى من المستحيل أنها ستفضي إلى المصالحة، لكنه يؤكد عبر الوقائع على قدرة منظمات المجتمع المدني، والإرادة السياسية على حل تلك المشاكل، وينتهي الصراع بصيغة من التراحم بين الأطراف المتصارعة، ويبعث رسائل مفادها ليس هناك من مشكلة صراع بين أطراف متناحرة ليس لها حل، إن توفرت القناعة بعد تفكيك أسباب هذا الصراع. وإن جميع عمليات التطهير العرقي، والصراعات إذا كانت في رواندا، أو كندا، أو جنوب افريقيا، فإن أسبابها متشابهة، وكذلك آليات حلها.

يشير الكاتب إلى مصدر كل ثيمة مهمة في هذا العمل. فمثلاً يشكر رينيه جيرارد على (نظرية القربان) التي اعاد صياغتها. كما يشير إلى (ربيكا آدمز) التي لعبت دوراً حيوياً في تطوير بعض المفاهيم الجديدة التي توفر عليها الكتاب، وتأثره بمحاضرتها (حب المحاكاة) وكيف أسهم الحوار المستمر معها عن الأبعاد الإيجابية، والإبداعية في نظرية المحاكاة، التي ساعدته في اكتشاف وتوضيح مثل هذه المفاهيم بكونها بنى محاكاتية للعنف، والتخندق، والتوافق. ويفرد مساحة لعلاقة الذات بالآخر وعلاقة النفس بالضمير بالركون الى كتاب بول ريكور(الذات عينها كآخر) ونظرية ماكس فيبر عن العنف فضلاً عن طروحات مفكرين واكاديميين وكتاب آخرين.
يقول ريديكوب: "هذا الكتاب هو حصيلة تراكم أحد عشر عاماً من الدراسة والتدريب والبرنامج المتنامي، وقد تداخل برنامجي لدراسة الدكتوراه مع ترقيتي لأكون رئيساً للمعهد الكندي لقرار الصراع (CICR) وفيما بعد مديراً لبرنامج التطوير في دراسات الصراع بجامعة سانت بول في أوتاوا، عندما كنت في (CICR) شارك المئات من الناس في اثنتين وستين حلقة دراسية، وقد ساعدت الحلقات الدراسية التي كانت فعالة ومنتجة على تصفية الكثير من الأفكار المتداولة هنا، كما ساعدني المنصب هنا في جامعة سانت بول على إكمال هذا العمل...."

يبدأ الكتاب بتوطئة كتبها رئيس الأساقفة في كيبتاون، بجنوب افريقيا ديزموند توتو.
إذ يقول: "عرفت العنف عبر حياتي جيداً، ليس فقط في بلادي "جنوب أفريقيا" عندما أرعبت قوانين القسر، والممارسات الوحشية الأجيال، بل أيضاً في القدس، وأديس أبابا، وبيافرا وبلفاست، حيث أحسست في هذه الأماكن جميعها عنفاً مهولاً. إن ما يصفه فيرن نيوفيلد ريديكوب في هذا الكتاب بكونه عنفاً عرفت جميع أشكاله، وها هو الآن يعرض لأولئك الذين لديهم الرغبات في اضمحلال سلطة العنف في هذا العالم خطة عمل مفاهيمية، تساعدنا على أن نسمي باختصار شديد حركية الأفعال المؤذية والسياسات والدوافع.
ولست أيضاً غريباً عن التوافق لكونه نتيجة لعمليات التصالح، إن كلمة (التوافق) كما يستعملها ريديكوب لها تشابه عائلي مع مفهوم (الأوبانتو) [(كلمة متداولة في جنوب أفريقيا وتعني (الإنسانية) الذي قاد الكثير منا عبر أيام ضريبة الحقيقة ومفوضية المصالحة.
يتحدث مفهوم (الأوبانتو) عن جوهر الإنسان، إنه يتضمن صفات الكرم، والضيافة والصداقة، والاهتمام بالآخرين، والتعاطف معهم، إنه يعبر عن حقيقة أن الإنسانية مشاركة، وإننا نعثر على هوياتنا عبر الترابط البشري، الناس مع الأوبانتو يشعرون بالسعادة لنجاح الآخرين وسعادتهم، ثمة صفة محاكاة متبادلة للأوبانتو، يكون فيها أوبانتو أحد ما مستجيباً عند الآخر، وهو بدوره يضيف لأوبانتو الأول، ثمة مظهر عام للأوبانتو يتجلى في أنه يسهم في الرفاه الاجتماعي، عندما يقدم ريديكوب فكرة أن "بنية محاكاة التوافق تغرس نظاماً علائقياً"، فهو بالنتيجة يتحدث عن زيادة الأوبانتو ضمن مجموعة ما، كل هذا يعني أن النظرية الجيدة تساعدنا أفضل في الفهم، والتواصل مع المظاهر الأساس لمشهد عالمنا.
الكتاب يقع في خمسة عشر فصلاً، يعنون الفصل الأول بـ (الصراع العميق الجذور) إذ يقول:
"، منذ أن انتهت الحرب الباردة، شهد المجتمع العالمي صراعات بين الناس الذين عاشوا جنباً إلى جنب لأجيال عديدة وفجأة، يشتركون في عنف لا حدود له، وتتضمن أدوات العنف، حرق البيوت واغتصاب النساء، وتدمير المدن التاريخية، وحرمان الناس من الطعام، وتطهير المناطق من جماعات الثقافة العرقية، والقتل بكل بساطة لعدد كبير من الناس في إبادة جماعية مجنونة، ويكون من الصعوبة بمكان التدخل للمساعدة جزئياً بسبب تعقيدات الصراع التي تجعل من المستحيل فهم ما يحدث، هذا التعقيد معروف على مستوى الجماعة، الذي يمثل بؤرة هذا الفصل، لكنه أيضاً جزءاً من العلاقات التي بين الأشخاص.
في هذه الصراعات، تتأسس الهويات المميزة للجماعات المتخاصمة على القرابة، أواللغة، أو السلالة، أو الدين، أو العرق، أو البدائية، أو القومية، أو الانتماء السياسي، أو الطبقة، وفي الغالب تتداخل هذه الهويات .... أولاً، يمكن للمرء أن يرى من الناحية الجينية انتقال نمط ظاهري، كصبغة الجلد والقامة (كما هو الحال مع التوز من رواندا وبوروندي)، ونسيج الشعر وملامح الوجه أو بعض من هذه الميزات السلالية... ثانياً، يمكن للمرء أن يستند إلى ما يصنعه الإنسان على أنه علامة للعرق، فيعرف أفراد جماعة إما بالبتر الجسدي و/أو عبر تزيينات معينة تحمل على أنها شارات توضح الانتماء إلى الجماعة. ثالثاً، يمكن للاختبار أن يكون سلوكياً، تتحدد العرقية بالكلام، والتصرف، والسلوكيات، والمعرفة المقصورة على جماعة أو بعض البراهين الأُخر على الكفاءة في ميزة السلوك التمثيلي للجماعة.
"في بعض السياقات، يمكن للتعبير عن هذه الاختلافات العرقية أن يؤدي إلى (عنف) موجه نحو الآخر. في أوغندا يري الهيماس أنفسهم على أنهم من باقي الأعراق، لاسيما الذين يسمون الـ (بايرو). وفي ظل الظروف العادية، لا يمكن لفتاة من البايرو أن تعري جسدها أمام أي من ذكور الهيماس. ولكن يمكنها التمتع بالسباحة عارية في نهر بحضور رجل بالغ من (المويرو) (التي تعني مفرد البايرو)!!! ويكون في تفكيرها أن الرجل المويرو محايد، مثل أي حيوان، أو أي كائن آخر، ليست لديه السلطة على سلوكها."

المصالحة: من الداخل والخارج
تتمثل نقطة بداية المصالحة في الصراع العميق الجذور، بالنظر إلى جوانبه الداخلية والخارجية. الصراع العميق الجذور عبارة عن حركية نابضة. من الخارج يمكن النظر إلى الصراع على أنه أفعال عنف تحصل بشكل علني. هناك طرف يفعل أشياءً لإيذاء الآخر الذي بدوره يرد على ذلك بحماس واندفاع. أما إذا نظرنا للصراع من الداخل، فهو يبدو متذبذباً بين الشعور بالأذى، وربما إلى درجة الصدمة، وشعور الضحية من ناحية، والعدوانية إلى درجة أن طاقة المرء تتحفز لإيقاع الأذى بالطرف المتسبب في ذلك من ناحية أخرى.
في المصالحة هناك لحظتان حاسمتان. اللحظة الأولى تشكل هرباً من البنية المحاكاتية للعنف التي خلقها الصراع العميق الجذور. واللحظة الثانية تتمثل في التأسيس الخلاق للبنى المحاكاتية للتراحم. كل لحظة من هاتين اللحظتين لها حركتها الخاصة، وخاصية الحركة إلى الأمام والخلف. تتضمن اللحظة الأولى للتخلص من البنية المحاكاتية للعنف عنصري مداواة الجروح والتسامح كظواهر داخلية من شأنها أن تخفف شيئاً من التأثير القوي للعنف علينا. تتجسد هنا حركة ثقة تنطوي على تعبيرات عن الندم والتسامح بين الذات والآخر فتأخذ كلا الطرفين إلى خارج سياق العنف. تساعد أفعال التعويض، أو إعادة الحقوق، ضمن المستويات الحقيقية، أو الرمزية، على خنق صرخات العنف باسم العدالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيسة وزراء إيطاليا في ليبيا لبحث التعاون المشترك بين البلدي


.. العراق.. زفاف بلوغر بالقصر العباسي التراثي يثير استفزاز البع




.. المخاوف تتزايد في رفح من عملية برية إسرائيلية مع نزوح جديد ل


.. الجيش الإسرائيلي يعلن أنه شن غارات على أهداف لحزب الله في 6




.. إنشاء خمسة أرصفة بحرية في العراق لاستقبال السفن التجارية الخ