الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة المقابر..!!

ياسر العدل

2005 / 11 / 11
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


أيامنا ترخّ أعيادا بهيجة، وتاريخنا يمتلئ بأحداث سارة، حلول أيام يفلت فيها المفطر من كل صوم، ثبوت عقم مسئول كبير أسرف الأعداء فى التعريض بقدراته، زواج بنت رجل عظيم هرب منها كثير من طالبى الستر، إحالة مسئول صغير إلى التقاعد تشدق بالأمانة فى أحاديث إذاعية، فك حبس بعض الصحفيين تداولوا فكرة اعتزال الكتابة، سجن أربعة تجار مخدرات لا يمارسون التدخين، طلاق ثلاث فنانات أفسد جمالهن رهطا من الرجال، نجاح مطرب متواضع فى إدارة مزرعة للدّجاج، ومع كل عيد نذهب للمقابر.
لأن وقائع تاريخنا رصدت أن كثيرا من ولاة أمورنا، يقطعون الرزق ويجلبون الشقاء، لذلك تحوّلت أعيادنا إلى احتفاليات نقيمها عند المقابر، نسترضى الأموات ليمدوا أياديهم بالخلاص لنا من كل شر ويأخذوا عنا ناصية كل أمر، هكذا اختلطت فى عقولنا أضغاث أحلام مريضة مع مفردات واقع حى، لا نفرّق بين بركات كاذبة تصيبنا من أدعية نشتريها بلقيمات خبز وقطع لحم، وبين بركات صادقة تحلّ علينا من تعب نصيبه فى طرق أبواب الحضارة.
فى احتفاليات أعيادنا نتماوج بين الأزقّة والشوارع والميادين، نتلقى التّهانى وننطلق فى جماعات نحو المقابر، ننشر جلساتنا حول أجداث موتانا، نلطّع أجسادنا على الجدران والمصاطب والأبواب والشّبابيك، ننشر أهازيجا ونوزّع على الأهل والزائرين نقوداً وخبزاً ولحوماً وبعض الدّموع، نستعرض ما جَنته أيدينا تفاخراً وضعفاً وكبراً، ونشترى أدعيةً وزهوراً وكثيراً من النّميمة على موتى الآخرين.
احتفاليات أعيادنا عند المقابر، يشارك فيها مرضى يعاقرون حياة ليست طيبة تماما، يتجمّعون حول موتى هربوا الى حياة ليست طيّبة تماما، لا أحد من الفريقين ينتبه لمعنى الأعياد، الشّحاذون من بائعى الأدعية هم الأكثرُ انتباها، يخدعون الجميع بترجيع المحفوظ من أدعية الرحمة والسعادة، ويحاصرون بألسنتهم كرم من يطلب عمراً أطول، الشّحاذون من بائعى الزّهور هم الأكثر انتفاعا، يقتصّون الثمن من أناس مضروبة لديهم مشاعر الجمال، يبيعونهم زهوراً كالحة نافرة فقيرة تقطع من حواف الترع والمصارف والحدائق، وعند المقابر يرسُخ لدى الجميع بأن تمام احتفالنا بأى عيد، قرين بتحصيل أكبر قدر من الأدعية واللّحوم والنّقود والخبز والزّهور الذابلة، وقليل من الأمانى المستحيلة.
برغم أن احتفالاتنا بالأعياد كسور مصطنعة فى إيقاع الأسى، وزياراتنا للمقابر أمنيات شائهة بطول العمر، وبرغم جهامة إحصاءاتنا السكانية المعلنة، إلا أن حسبة الموت فى بلادنا بسيطة، فحفارى القبور يستقبلون كل يوم جثث ألف وخمسمائة ميت مصرى، يصطادهم الموتُ فى وقتهم المحتوم، نائمين على الأسرة، راكبين على الإسفلت، واقفين بجوار أنابيب البوتاجاز، أو مستعرضين سنج البلُطجية، لكن عموم الحسبة غير محزن تماما، فبرغم تأخر سن الزّواج وتساقط أسنان كثير من العوانس، وسفر الرّجال إلى بحار النفط، وضعف إحساسنا بالجمال، إلا أنه فى كل يوم يستقبل الأطبّاء والدّايات، ثلاثة آلاف خَلاص لمولود مصرى جديد، ويزداد صافى الزّحام تضخّما بألف وخمسمائة نفس جديدة كل يوم.
المزعج فى حسبة الموت، أننا نتكّدس سبعين مليونا، فى بيوت تشغل أربعة فى المائة من مساحة أرض مصر، البالغة مليون كيلومتر مربع، وينحصر معاش كل فرد منا فى استغلال خمسمائة متر مربع فقط يتنازع الوجود فيها مع مقابر الأموات، وترتفع أسعار المقابر وينتشر سوق حفارى القبور، ويبقى براح أرض مصر خاليا من البشر، صالحا ليدفن فيه ما يقارب المليون من الموتى الجدد سنويا، ليكون نصيب كل ميت مصرى قبرا تزيد مساحته على خمسة عشر ألف متر مربع، ويعيش كل حى مصرى محشورا فى ارض ضيقة.
وقبل أن ينقضى عمرنا، وتنتهى قدرتنا على أى حساب، ويدُوخ ورثتنا بين سماسرة مقابر الجمعيات والأثرياء والصدقات بحثا عن حفرة يدعون فيها جثثنا، فإننا نطرح للنقاش قضية ارتفاع تكاليف بناء مقابرنا، فاقتصادنا متهافت لا يكفى إطعام جثث أحيائنا وتجهيز رفات أمواتنا، وإنشاء مقابرنا تتحكم فيه كثيرُ من الأمراض الاجتماعية والثقافية، فلماذا لا يتدخّل رجال الدّين والأطبّاء والمهندسون لتحديد شكل بسيط وغير مكلف لمقابرنا؟0
نحن المصريين بحاجة لأن ينفك العبء النفسىّ والمادّى الذى تضربه على كواهلنا ثقافة المقابر، نحزن فلا نقاوم أسباب الحزن، نفرح فنذهب إلى مقابر الأموات، مقابر أمواتنا بيوت يسكنها حفارو قبور وتجّار مخدّرات وبعض الكتّاب والفقراء، وتوحى بأن تاريخنا مشغول بتحنيط الجثث والبكاء على رؤوس الموتى، والفشل فى التواصل الحضارى مع الأحياء.
د0 ياسر العدل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل انتهت الحقبة -الماكرونية- في فرنسا؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. ما ردود الفعل في ألمانيا على نتائج الجولة الأولى من الانتخاب




.. ضجة في إسرائيل بعد إطلاق سراح مدير مستشفى الشفاء بغزة.. لماذ


.. الغزواني يفوز بعهدة ثانية لرئاسة موريتانيا وفق نتائج رسمية




.. هكذا انتقل -رجل الثعابين- إلى أرض الكوبرا في الهند