الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخطاب السلطوي تجلياته وآليات اشتغاله

ابراهيم دشيري

2016 / 1 / 23
الادب والفن


مقال الخطاب السلطوي: تجلياته وآليات اشتغاله / د دشيري ابراهيم

عديدة هي تعريفات اللغة وعديدة هي وجوهها، فهناك من عرفها بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وهناك من رآها مؤسسة اجتماعية ذات قواعد وسنن تفرض نفسها على الأفراد وتتناقل بطريقة حتمية من جيل إلى آخر، وهناك من رآها أداة تفكير، وأن الفكر لايوجد من دون لغة، إلا أننا في هذا المقال سننظر مع رولان بارت وروبول وشليغر إلى وجه آخرمن وجوه اللغة لايقل أهمية عن الوجوه الأخرى، إنه الوجه السلطوي الذي يتجلى في كل تلك الوجوه. إن طبيعة مقاربتنا للخطاب السلطوي الذي تنتجه كل ممارسة لغوية تقتضي منا تحديد مفهوم السلطة من خلال تحديد مجالاتها وأدوارها كما تقتضي منا تحديد آليات اشتغال الخطاب السلطوي. وسنبدأ بتحديد المفهوم الكلاسي للسلطة الذي يتمثل في كونها مجموع المؤسسات والأجهزة التي تمكن من إخضاع المواطنين داخل دولة معينة ، ثم ننتقل للقول إن هذا المفهوم هو المهيمن على البنية الفكرية لعامة الناس، ويرجع السبب في انتشاره وترسيخه إلى احتكارالفكر السياسي لمفهوم السلطـة، ولقد قام هذا الاحتكار بدور خطير في تكريس السلطة بمفهومها المتجسد في رأس الهرم . ولقد ظل مفهوم الكلاسي للسلطة مهيمنا حتى قامت بعض الفلسفات المعاصرة كفلسفة نيتشه وبعض الاتجاهات السوسيولوجية والسيميولوجية التي نجدها لدى رولان بارط (R-Barthes) وبيار بورديو(Pierre-Bourdieu) وليوتار(Lieutard) لتنتزع من الفكر السياسي احتكاره لمفهوم السلطة فقد تبين أن السلطة لا تظهر في الدولة والقانون والسيطرة فحسب، وإنما تظهر في الأسرة والمجتمع والمعمل والمهرجانات بل تظهر أيضا في اللغة والمعرفة والجنس ، ولقد انتقد بارط المفهوم الكلاسي للسلطة بقوله: »تتحدث البراءة الحديثة عن السلطة كما لو أنها مفردة ، فهناك من بيده السلطة ثم هناك من لا يملكونها، لطالما آمنا بأن السلطة موضوع سياسي صرف ، ثم أصبحنا نعتقد أنها موضوع إيديولوجي كذلك ، تتسلل خلسة حيث لا عهد لنا بها لأول وهلة داخل المؤسسات وفي التدريس ، ولكننا بقينا نعتقد أنها واحدة وحيدة « (4) .
وقد اهتم بارط بالتأكيد على تعدد مجالات السلطة ومظاهرها معبرا عن ذلك بقوله : »وماذا لو كانت السلطة متعددة مثل الشياطين ؟ إنها يمكن أن تقول عن نفسها : اسمي كثرة كثيرة في كل مكان وفي جميع الجهات ، جهة الرؤساء والأجهزة بكبيرها وصغيرها ، وصوب الجماعات المقهورة أو القاهرة ، هناك في كل مكان أصوات مشروعة تعطي لنفسها الصلاحية لتسمع خطاب كل سلطة ، وأعني خطاب الغطرسة ، ها نحن نرى أن السلطة حاضرة في أكثر الآليات التي تتحكم في التبادل الاجتماعي رهافة في الدولة وعند الطبقات والجماعات ولكن أيضا في أشكال الموضة والآراء الشائعة والمهرجانات والألعاب والمحافل الرياضية والأخبار والعلاقات الأسروية والخاصة بل حتى عند الحركات التحريرية التي تسعى إلى معارضتها « . ( 5)
ويرى بارط أن دور المثقفين لا يكمن في التصدي للسلطة في أشكالها المتعددة . لأن هذا التصدي يعتبر في نظره معركة صعبة ترجع صعوبتها إلى الخاصية الزئبقية التي تتميز بها السلطة ثم إلى تعددية أشكالها ، يقول : »إن كانت السلطة متعددة في الفضاء الاجتماعي فهي بالمقابل ممتدة في الزمان التاريخي وعندما نبعدها وندفعها هنا سرعان ما تظهر هنالك ، وهي لاتزول البثة ، قم ضدها بثورة بغية القضاء عليها . وسرعان ما تنبعث وتنبت في حالة جديدة . ومرد هذه المكابدة والظهور في كل مكان هو أن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه وليس بالتاريخ السياسي وحده « ( 6 ) .
وقد أدرك بارط أن الشيء الذي تتجسد فيه السلطة منذ الأزل هو اللغة أو بتعبير أدق : اللسان، فقد ارتأينا أن نستعير من بارط رؤيته لسلطة اللغة المتمثلة في قوله : »اللغة سلطة تشريعية، اللسان قانونها ، إننا لا نلحظ السلطة التي ينطوي عليها اللسان لأننا ننسى أن كل لسان تصنيف وأن كل تصنيف ينطوي على نوع من القهر ويعني في ذات الوقت التوزيع والإرغام، هذا ما أوضحه جاكبسون بقوله إن كل لهجة تتعين أكثر ما تتعين ليس بما تخول قوله بل بما ترغم على قوله « (7).يعني أنها ترغمك على الالتزام بقواعد وصيغ معينة وتسلبك حرية اختيار قواعد وصيغ اخرى
»بيد أن اللسان من حيث هو إنجاز كل لغة ليس بالرجعي ولا بالتقدمي ، إنه بكل بساطة فاشي، ذلك لأن الفاشية ليست هي الحيلولة دون الكلام وإنما هي الإرغام عليه، إن اللغة ما إن ننطق بها حتى وإن ظلت مجرد همهمة فهي تصبح في خدمة سلطة بعينها « (8)
ويكشف لنا روبول عن الكيفيات التي توظف بها السلطة اللغة من أجل تمرير الإديولوجيا وذلك باعتبار اللغة هي الميدان المفضل والمتميز للإديولوجيا حيث تمارس وظيفتها الخاصة (9) « ويرى روبول أيضا أنه: »بواسطة اللغة توفر الإديولوجيا على السلطة اللجوء إلى العنف التي تعلقه اللغة ، وتختزله إلى حالة تهديد بعيدة كآخر دليل وارد بشكل مضمر. وبواسطة اللغة أيضا تجعل الإيديولوجييا العنف مشروعا حين تلجأ إليه السلطة مظهرة إياه كحق وكضرورة وسبب فيه مصلحة الدولة ، وكعلة وبإيجاز محاولة إخفاء طابعه كعنف« (10).
ويميز روبول بين وظيفة الدعاية و وظيفة الخطاب الإيديولوجي قائلا : »ووظيفة الدعاية هي تسويغ هذا الفعل أو ذاك من أفعال السلطة، في حين أن وظيفة الخطاب الإيديولوجي هي إضفاء المشروعية على وجود السلطة، لهذا نؤول الدعاية إلى مجموعة من الإرساليات في حين يشكل الخطاب الإيديولوجي بسورة ما، نظاما أو مجموعة قواعد .... ليست اللغة هي التي تمتلك طابعا إيديولوجيا بل الاستعمال الذي تستعمل به « (11) .
أما بالنسبة لتأثير الإيديولوجيا ودورها في تحديد اختياراتنا الكلامية فيقول روبول : »إن إيديولوجيا معينة تحدد لا فقط طريقتنا في الحديث بل كذلك معنى كلامنا، إن ألفاظا مثل حرية وفاشية وديمقراطية وليبيرالية تمتلك دلالات مختلفة حسب إيديولوجيا أولائك اللذين يستعملونها، ومن ناحية أخرى فإن الإيديولوجيا لاتضفي على كلامنا معنى فقط بل تمنحه سلطة هي سلطة الإقناع والإستقطاب أو التنديد أو الرفض «(12)
ويرى الناقد آلان غولد شليغر أن الخطاب السلطوي يشتغل وفق آليتين هما:
1- صيغة الأمر التي تشير إلى وضع سلطوي مباشر، ذلك أن استعمالها يؤسس علاقة اجتماعية بين المتكلمين يصدر الأول الأوامر، وينصاع لها الثاني، ولاتغير الصيغة المهذبة أو الأدوات الأسلوبية من موقع الاثنين، فالأول يمتلك السلطة، وينسحق الثاني ككائن مفكر، إن الرابطة الاجتماعية للرسالة يؤسسها شكل نحوي يمضي في اتجاه واحد ولايقبل التبادل اللغوي، ومن ثم لاعلاقة للرسالة نفسها بالموضوع ، كما أن الجواب الوحيد المقبول هو الفعل المطلوب . (13)
2- السكوت هو أساس السلطة : يرى شليغر أن المتلقي إذا حصل على علامة ناقصة أو محددة ، أو غير قابلة للتأويل ، فإنه لا يقوى على المناقشة . هكذا كلما تقلصت الرسالة الدلالية، إلا وزادت قوتها وقدرتها على الإقناع، إن السلطة مؤسسة على السكوت، لا على الحوار، كما أن كل نظام سلطوي مؤسس على بنيات اجتماعية وسياسية ذات معنى واحد، أي أنها تتحدر من الأعلى إلى الأسفل ولا تسمح بأية حركة في الاتجاه المعاكس ( 14) .
ويتميز الخطاب الإيديولوجي السلطوي حسب شليغر بكونه خطابا نهائيا وشاملا ، ويكشف بذلك عن طبيعته ذات المرجع الذاتي، إنه مكان تردد فيه المبادىء القائمة وتمجد، وتنطلق كل كلمة سياسية، من أي خطاب يمكنها من ممارسة حقها في الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، كما يعتمد نجاحه على معطيات وأحداث خارجية – سواء أكان الحدث تحركا سياسيا أوعسكريا، وضعا اقتصاديا أو اجتماعيا – ولايعتمد على قيمتها الأخلاقية. إن هذه الحاجة إلى الاستبداد تفسر التنحية الفورية التي تمس جميع الأمور والأشخاص الذين لا يدخلون في القالب الذي وضعته .... (15)
وحين يحلل شليغر العلاقة بين السلطة والإيديولوجيا نجده يركز على الجانب الإرغامي الذي تستند إليه السلطة في الدفاع عن إيديولوجيتها وينظر إلى أولئك الذين يمتلكون السلطة بأنهم يرون أن : »حظوتهم وسلطتهم مرتبطتان ارتباطا وثيقا بالحفاظ على البنيات الاجتماعية والسياسية القائمة، ولهذا كان من مصلحتهم على المدى القريب والبعيد الدفاع عن الإيديولوجيا وحمايتها « (16). فالسلطة السياسية تحل مشاكلها وتعيد إنتاج نفسها بالدفاع عن إيديولوجيتها، ولكي نفهم كيف يتحقق ذلك لابد من الاقتناع بأن للسلطة خطابا، وأن للخطاب سلطة، وأن الخطاب السياسي له سلطة أقوى بكثير من السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة الإعلامية.

الهوامش:
1- درس السيميولوجيا ص 11
2- م ن ص11
3- م ن ص12
4- م ن ص12
5- م ن ص13
6- langage et ideologie page15
7-Ibid page 15
8-Ibi page 16
9-Ibid page16
10- مقال نحو سيمياء الخطاب السلطوي مجلة بيت الحكمة ص135 136
11- م ن ص 136
12- م ن ص 137 138
13- م ن ص 137
المراجع :
بارط رولان :درس السيميولوجيا ترجمة عبد السلام بنعبد العاليدار توبقال للنشر الطبعة الثانية 1986
شليغر آلان غولد :مقال نحو سيمياء الخطاب السلطوي ترجمة مصطفى كمال مجلة بيت الحكمة العدد 5 السنة الثانية ابريل 1987
Reboul langage et ideologie PUF Paris1980








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي