الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خِصال دستويفسكي في قالب روائي هندي

عدنان حسين أحمد

2016 / 1 / 23
الادب والفن


ترنيمة بيرومبادافام . . . الرواية الأعلى توزيعًا في الهند

ما الذي يدفع كاتبًا هنديًا معروفًا مثل بيرومبادافام شري دهاران أن يبني رواية "مثل ترنيمة" على جانب مهم من حياة الروائي الروسي العظيم فيدور دستويفسكي؟ هل لأن دستويفسكي كاتب معروف في مختلف أرجاء العالم؟ أم لأن شخصياته معقدة وتحتاج دائمًا لمن يسبر غورها، ويحلل سلوكها النفسي وفقًا لقراءة منطقية للأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية لروسيا القيصرية آنذاك؟ أم لأنّ شخصية دستويفسكي نفسها هي الكنز المفقود الذي عثر عليه بيرومبادافام وأصرّ على أن يصنع منه "درّة" أعماله الأدبية التي عُرفت داخل حدود الهند وخارجها على حدٍ سواء؟
وعلى الرغم من أهمية الجانبين الأول والثاني إلاّ أن الجانب الثالث هو الأكثر إغراءً لأنه لا يحتاج إلاّ إلى ضربة معول واحدة كي نكتشف منجم هذه الشخصية المستديرة التي تجمع في طيّاتها العديد من الثنائيات كالخير والشر، والحب والكراهية، والشك والإيمان وما إلى ذلك من مفهومات فلسفية أرّقته على مدار عمره الذي لم يجتز الستين عامًا.
تحتاج أي قراءة نقدية فاحصة إلى معرفة الثيمة التي يدور عليها العمل الأدبي. ورواية "مثل ترنيمة" تتمحور حول جوانب متعددة من شخصية دستويفسكي العميقة والمضطربة حيث وعد هذا الكاتب المشهور ناشره ستيلوفسكي أن ينجز رواية "المقامر" بواقع 160 صفحة خلال بضعة أشهر ويسلمها له قبل 1 نوفمبر 1866. وإذا أخفق فإن حقوق مؤلفاته وكل ما سيكتب لاحقًا سوف تؤول إلى هذا الناشر الذي يُوصف دائمًا بالعلَقة التي تمتصّ دماء الكُتّاب. وحينما يهدده عامل الزمن يأخذ بنصيحة أولخين، صاحب مدرسة الكتابة الاختزالية، ويُعيّن آنا جريجوريفنا سنبتكين ككاتبة اختزال مقابل أن يدفع لها خمسين روبلاً في نهاية المطاف. وما إن يضع اللمسات الأخيرة على الرواية حتى يكتشف أن الناشر ستيلوفسكي قد اختفى في اليوم الأخير للموعد.
على الرغم من أنّ البناء المعماري الرصين لرواية "المُقامر" يقوم على الأحداث التي سردناها توًا لكنها لا تنطوي على المُهيمنات الفكرية التي تحتفي بها هذه الرواية المتألقة التي لا تغادر أذهان القرّاء بسهولة ذلك لأن نجاحها الفني لا يكمن في نموّ تلك الأحداث على الرغم من أهميتها وإنما في الشذرات الفكرية والفلسفية التي تتوهج على ألسن الشخصيات الرئيسة والمؤازرة. وكلنا يعرف بأن "المقامر" تأتي في تسلسل أهميتها بعد "الجريمة والعقاب" و "الأخوة كارامازوف" و "الأبله" وسواها من روائع دستويفسكي الأدبية لكن هذا لا يمنع "المقامر" من أن تكون تحفة فنية قائمة بذاتها خصوصًا إذا ما سلطنا الضوء على الجوانب الذهنية والعاطفية والروحية لشخصية دستويفسكي الروائية.
تُرى، ما مميزات شخصية دستويفسكي، وما هي خِصاله الرئيسة؟ تؤكد شقيقة آنا الصغرى بأن الناس يصفون دستويفسكي بـ "المصروع، والمِعوَز، والفاسق، والمجنون، والمقامر، والعجوز الذي تثقل كاهله الديون" ويضيف لها الآخرون بأنه "خليع، وزري، وخطّاء، ومُحطَّم وفظ في بعض الأحيان" وربما تنطبق عليه صفات سلبية أخرى لابد من أخذها بعين الاعتبار. ولكي نحيط القارئ علمًا بكل جوانب هذه الشخصية فلابد لنا أن نتوقف عند الجوانب الإيجابية التي لفتت انتباه آنا، وحرّضتها على العمل معه، وأحبته على الرغم من توتراته اللامُتوقعة، وانفعالاته المتواصلة، وفارق السن الكبير بينهما.
يَعتبِر دستويفسكي الكتابة ضربًا من التأمل أو نوعًا من الصلاة الصامتة التي يجب أن ينجزها لوحده في الظروف الاعتيادية. وبما أنه مُصاب بالصرع فلاغرابة أن يتوتر بين أوان وآخر لكنه سرعان ما يعتذر عن الأخطاء التي ارتكبها حينما يتخلّص من دوّامة الانفعال التي سقط فيها. بل أنه غالبًا ما يصف عقله في لحظات التوتر بالقارة المعتمة لكن هذا العقل سوف يُصبح مُنارًا بألف شمس متوهجة ما إن يتحرر من عتمته وارتباكه.
ينظر دستويفسكي إلى الصرع كنعمة هابطة من السماء ولا يجد حرجًا في تسميته بالمرض القدسي الذي لن يقايضه بأي شيئ آخر في العالم! وحينما تنتابه نوبة الصرع يشعر بانسجام سماوي غريب يتخلّق بينه وبين الكون. ويذهب أبعد من ذلك حينما يصف تلك اللحظات الغامضة بأنها إدراك لله جلّ في علاه.
لا يمكن وصف دستويفسكي بالكريم فقط فهو يمنح كل ما لديه من نقود لزوجة أخيه إميلي كي يدرأ عنها غائلة الجوع ولا يتردد لحظة واحدة في أن يبيع معطفه في منتصف الشتاء كي يوفر بعض النقود لباشا، ابن زوجته الأولى ماري ديمتريفيا من زواجها الأول. لا يجد القارئ أي صعوبة في معرفة حجم الحنان الذي يغمر به دستويفسكي الناس المحيطين به، ففي قلبه قوة سحرية تشدّ إليه القلوب الأخرى وعلى رأسها قلب آنا التي انجذبت إليه في لحظة جيشان روحي لا يُفسر. فهو أقرب إلى الروح السامية حينما يصفو مزاجه ولكنه يظل إنسانًا يجمع في طياته عنصري القدّيس والشيطان في آنٍ معا.
لا غروَ في أنّ دستويفسكي منتج عظيم للأفكار التي تعتمل في ذهنه المتوقد لكنها لا تجد طريقها إلى الورق ما لم يغمر قلبه ذلك النور الإبداعي العجيب الذي جعلَ منه مُحبًّا وعاشقًا كبيرًا دفع بآنا التي تصغره بـ 26 عامًا لأنه تُحبه وتقبل به زوجًا على الرغم من بعض تصرفاته المنفلتة التي لا تُطاق في كثير من الأحيان.
وبغية الوصول إلى ذروة الحدث في هذه الرواية لابد من الوقوف عند شخصية آنا التي أحبها دستويفسكي. فقد أرادت أن تدرس الطب لكن هذا الحلم سرعان ما تلاشى بوفاة أبيها فقررت دراسة الكتابة بالاختزال وقد وفّرت لها هذه المهنة لقاء دستويفسكي والتعرف إليه عن كثب على الرغم من أنها قد قرأت بعض رواياته فهو الكاتب المفضّل لأبيها فلاغرابة أن تعرف عنه الكثير من التفاصيل المهمة عن رواياته وحياته الشخصية. ونظرًا لفراستها القوية فإنها كانت تعرف أنه قد أحبّ بإخلاص بعض الشخصيات النسائية التي شكّلت مادة أساسية لرواياته.
تُعتبَر الجملة الهامسة التي خاطبت بها الإله التماسًا حقيقيًا للحب حينما قالت: "يا إلهي، خلِه يميل إليّ أرجوك على نحو مُحبب" وسوف يتحقق هذا الحب حينما ترد على سؤاله إن كانت ستحبه أم لا بعد أن توارى خلف قصة الفنان الكبير سنًا الذي يلتقي في المعرض فتاة في نصف عمره حيث تقول له بصرحة مذهلة: "أحبك، سأحبك طيلة الباقي من حياتي". لأنها تعتقد بأن الحب لا يبحث إلا عن الحب وليس عن الجمال أو الثراء المادي. وبسبب حبها لدستويفسكي فقد تخلت عن شابين أحباها كل بطريقته الخاصة لكنها فضلت دستويفسكي الذي تراه شابًا حينما يتكلم. لقد أحبت فيه إبداعه، وروحه السامية، وتسامحه، وقلبه المغمور بنور المحبة.
وحينما عاد دستويفسكي منكسرًا وهو يردد بأن الناشر ستيلوفسكي قد خدعه وتوارى عن الأنظار ذهبت معه على وجه السرعة إلى أحد المحامين من أقربائها الأبعدين الذي يحل أي ورطة قانونية فنصحها بتسليم الرواية إلى المحكمة. وبما أن المحكمة قد أغلقت أبوابها في تلك الساعة فقد نصحها أحد الموظفين بتسليم الرواية إلى مركز الشرطة وأخذ إيصال التسليم من الضابط الذي سألها عن صلتها بدستويفسكي؟ فردت في الحال: "إنه زوجي". عندها شعر دستويفسكي أنه في خضم لحظة قدسية مرهفة دفعته لأن يحتضنا ويقبّلها بعنف على قارعة الطريق وكأنه روحه الهائمة قد عثرت على صنوها المفقود منذ زمن طويل.
بقي أن نقول إن عميد الأدب المالايالمي هو قاص وروائي وكاتب سيناريو من مدينة كيرلا الهندية. وقد أصدر أكثر من ثلاثين كتابًا من بينها رواية "مثل ترنيمة" التي أحدث نقلة نوعية في الأدب الهندي كما أنها الرواية الأعلى توزيعًا في الهند وقد ترجمها إلى العربية ترجمة سلسة ومنسابة الشاعر والمترجم المصري محمد عيد إبراهيم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ظهور حمادة هلال بعد الوعكة الصحية في زفاف ابنة صديقة الشاعر


.. كل يوم - -ثقافة الاحترام مهمة جدا في المجتمع -..محمد شردي يش




.. انتظروا حلقة خاصة من #ON_Set عن فيلم عصابة الماكس ولقاءات حص


.. الموسيقار العراقي نصير شمة يتحدث عن تاريخ آلة العود




.. تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على آلة العود.. الموسيقا