الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نبي المفقرين : القصيدة التي لا تموت

هيثم حمدي

2016 / 1 / 23
الادب والفن


…نبي المفقرين : القصيدة التي لا تموت


في الموعد مع المعنى/مع الحياة/مع الوطن...تأخر الأنبياء أو لم يأتوا أو علهم لم يوجدوا أصلا لحضور موعدا كهذا... لكن الأرض الحبلى بنا لا تحتمل الفراغ،ولابد لهاأن تنجب،مادامت ولادة،لذلك لم تتردد سماء القصيدة في أن ترسل أنبياء ملؤوا الحياة إحتجاجا لأجلها وغرسوا حدائقها ورودا،وإتفقوا في توحيدها(الحياة)،وإختلفوا في تقسيم المعنى والكلمات،إنهم الشعراء ،أنبياء الفقراء الحالمون بوطن يتسع لهم ..إنهم الشعراء في كل أودية الحب يهيمون ،يغنون لكل ثورات الشعوب "أغنية النصر والأمل" ،ولنا الشرف في أن تستضيف ذاكرتنا هذه المرة واحدا منهم،لطالما أعتبر بمثابة النبي المجهول في هذا الوطن إنه الشاعر بلقاسم اليعقوبي
من هو بلقاسم اليعقوبي ؟ ولمن كتب القصيدة ؟ *
بين وهج الصحراء وشموخ النخيل ولد المبدع بلقاسم اليعقوبي بمدينة "دوز " من ولاية توزر بالجنوب التونسي ،في عائلة فقيرة وكان أبوه يعمل بأحد حقول واحات التمور وإستقر بقابس أين عمل ومارس حياته النقابية والسياسية
ومن رحم هذه البيئة القاسية ،أشهر الشاعر قلمه سلاحا في وجه نظام طبقي همش أبناء وطنه وأهداهم المنفى ،ذلك المنفى الذي جسدته صحراء رجيم معتوق أين نفيت عقول الفكر اليساري الناشطة صلب الإتحاد العام لطلبة تونس وجند المناضلين قسريا في مكان تسكنه رائحة الوحدة والغربة ،وتحدث اليعقوبي عن ذلك في قصيدتة الشهيرة التي أرخت لتلك الفترة:
ذوق المنفى،المنفى ذوق يامسافر شور الجندية
ومقايل في رجيم معتوق بإسم المدرج والكلية ."
وأفاض شاعرنا حبره لأجل الجموع من المهمشين والمفقرين في كل أنحاء العالم ،لذلك لم يتردد النظام في أن يهمش أمثال بلقاسم اليعقوبي ويرمي بهم في زنزانة النسيان لأنه أتقن دور "التشويش على السلطة" على حد تعبير جون بودريار،وهذا مانتبينه فعليا حين نقرأ قصائده النادرة أونستمع إلى فرقة الفن الملتزم البحث الموسيقي وهي تغنيها،تلك الفرقة التي إشتهرت في الثمانينات بفضل أشعار اليعقوبي مثل "خوذ البسيسه والتمر يامضنوني"،وإستطاع هذا الشاعر أن يصبح ثورة شعرية وقيمية زعزعت كل السواكن والثوابت ولم يستطع لا السجن ولا الموت إخمادها،وبقيت أشعاره تردد في ساحات الجامعة والبلاد وتغنى بكثرة كلما خيم ظلام الرجعية على الوطن
إنه نبي المفقرين وصوتهم الذي يكتم كل يوم،وهو إنتصار لرواية "البؤساء" التي ترتسم شخوصها في ملامح وجوهنا ،وبلقاسم هو الجنوب الحالم و المهمش في آن مثلما يعلنها قائلا "إنتبهوا قادم والجنوب في زندي،ومجمع المفاتيح"،ذلك الجنوب الذي يسرق فسفاطه وتمره يوميا ،لذلك يحمل شاعرنا مفاتيح الثورة التي ستنصر المستضعفين وترد لهم كرامتهم وتعيد للأرض فسفاطها وتمرها وزيتونها المسلوب منها فيصرخ في وجه صناع العبودية والإستغلال الطبقي في قصيدته"نصوص حول الإنتاج والمنتوجية "
دم الحضاير ياغسيل بلادي
وياصوتها منين الظلال تنادي
وكتابها منين صحف تريح
مهزوم من سيب عليك جيوشه
وذليل في حلف الغزاة مليح
إنه الذهاب إلي عمق المعاناة وكشفها وتبنيها هكذا يوغل "نبي المفقرين" في الإنتصار إلى طبقته بسلطة الكلمة التي وقعها أقوى من وقع الثورة؛فبلقاسم يفتخر بإنتمائه إلى وسط إجتماعي مفقر حمل همومه وأحلامه معه إلى ساحات الجامعة والنضال ليخوض بها القصيدة/الثورة ، وإعتبر الشاعر أن شعر فعل ثوري يدفع نحو الصراع والتغيير فتحدث عن إنتصار شمس العقول على ظلام الرجعية داخل الجامعة،منارة العقل والإبداع وقد كان يؤرخ شعريا للصراعات التي خاضها اليسار ضد النظام العميل و طلبة "الإتجاه الإسلامي" إذ يقول في أروع قصائده
يا شمس خلي النور يسطع ضيه
وعدي الضحايا بالجامعة التونسيه
عدي الجرحى وللبوب والمتراك قولى مرحا
أعطيهم وسام القمع خلي الفرحه تعم اليمين وتفرح الرجعيه
هذا مناضل ...جاه البوب وطرحه
متهوم بالنقاش في الكليه
حتى أعلنت أشعاره في كل تفاصيلها أنه شاعر "أحمر" إنحاز علنا إنحيازا طبقيا كغيره من الشعراء العظماء في العالم (بابلو نيرودا،فريدريكو قارثيا لوركا،أحمد فؤاد نجم،مختار اللغماني،مظفر النواب...)فلم يكن من أدباء البلاط في زمن الحج إلى بيت "السلطة" وقد عبر عن وفائه لطبقته فعلا وقولا
أحنا الصيام الطبقي يمنعنا
شرب العمالة وإحتساء الذل
نبي المفقرين: الإنتماء السياسي والتجديد الشعري *
مثلما أشرت في السابق ،فإن بلقاسم اليعقوبي هو شاعر "أحمر " بالمعنى الإديولوجي أي أنه نشط داخل حلقات اليسار التونسي في الجامعة ،وقد عبر عن إنتمائه إلى الخط الوطني الديمقراطي صراحة فقال
وطني ديمقراطي ...أتوسد ذراعك
لو كان هذا شورك... حفر قبورك
هكه إرتضى الدستور... يهدم صورك
وهذا البعد السياسي كان حاضرا بقوة في كل كتاباته في أكثر من مناسبة و هوما أعلن به عن إنتمائه الطبقي ،إنتماء عبر عنه الرفيق الشهيد شكري بلعيد في إحدي قصائده قائلا
أيها الإنتماء الذي تشكل فينا
لك هذا النشيد /الإحتفال لك هذا الزمان /الإنتقال لك البداية
لك النهاية
وهذا مايسكن جوارحه ويحرك أفكاره حتى يصير الشعر تمهيد ل "ملحمة طبقية" يتحول فيها الشاعر إلى "محرض طبقي" يدفع نحو الصراع وخلق التغيير الإجتماعي والسياسي الذي ينبأ بولادة "ثورة الجياع" ،وهذا ما أعطى خصوصية لأشعاره ،ميزته عن كل شعراء "الفصحى" و"العامية" الذين حج أغلبهم إلى بلاط السلطة في زمن مصادرة العقول ،فنبي المفقرين " إنتمي لعمق اليسار التونسي (الخط الوطني الديمقراطي) وتبنى قصيدة "الإلتزام" باللهجة العامية مثل الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم .
أما شعريا فقد أعلن الشاعر الوطني الديمقراطي ثورة فنية في بنية القصيدة "العامية"،وتبنى الشعر كفعل تغيير يدفع نحو التحرر من كل القيود ،فزاوج بين العامية والفصحى وتمرد على موازين الشعر الشعبي ولم يلتزم بها وأعتبر
أن اللهجة العامية أعمق من أن تختزل في الحديث عن القوافل والحنين والمدح...وأتجه بها نحو ساحات الإلتزام بالقضايا العادلة للشعوب فالعالم أرحب -كما يعبر مختار اللغماني- ،لذلك كان بلقاسم اليعقوبي يرفض تسميته ب"شاعر شعبي " وهذا ما تطرق له الهادي فريجه في دراسة لشعر "نبي المفقرين" إذ يقول : يعتبر حضور بلقاسم اليعقوبي في المدونة الشعرية التونسية ،حضوراًمختلفا عن بقية التجارب ،فبلقاسم تمرد على السائد شكلا ومضمونا ولم يلتزم بموازين الشعر الشعبي المعروفة ،فأشعار اليعقوبي كانت صرخة ضد السائد وضد الظلم والإستعمار القديم والجديد ولم يكن يقبل تسميته بشاعر شعبي لأن الشعر الشعبي كان عنوانا للعكاضيات ولقافلة تسير،معتبرا أن العامية ليست عاقرا وبإمكانها حمل آمال الشعوب نحو عالم أنبل وأجمل مبديا إعجابه بتجربة أحمد فؤاد نجم" ولكن رغم هذا الزخم الشعري الفياض والحضور السياسي المتميز في كتابات شاعرنا "الأحمر" إلا أنه لا توجد دراسات وكتب حول أشعاره ،فقد همش وأرادوا رميه في جب النسيان لكنه كان أكبر من النسيان وظل شامخا في سماء الشعر النضالي ولم نتحصل في بحثنا عن قصائده بشكل دقيق على كتب أو دراسات خاصة به،ماعدا بعض المقالات اليتيمة
والشهادات الشفويه ممن عايشوه وكتاب "الأيام فراقه" للهادي فريجه الذي جمع فيه كل قصائده تقريبا: جيفارا،خوذ البسيسه والتمر يامضنوني،بصمات في ملف الخيانه،برقيه من دورة جوان إلى رجيم معتوق،.. كلمسة وفاء لما قدمه هذا الشاعر المناضل للشعر والبلاد،وقد كتب في تجربة اليعقوبي كذلك المفكر الرفيق سنان العزابي الذي غيبه الموت عنا لكنه بقي بوصلة للفكر الوطني الديمقراطي،و كان هو وثلة من المهتمين بأشعار "نبي المفقرين" خصوصا والثقافة عموما يحييون ذكرى وفاته،تلك الوفاة الغامضة التي طرقت باب زنزانته فجأة بالسجن المدني بصفاقس يوم 24 أفريل 2001
ولكن نظام المخلوع بن علي حرم أحباء بلقاسم اليعقوبي من إحياء ذكراه بشكل جماهيري يعبر عن قيمته الفنية وحجمه النضالي
في الختام،لايمكن أن نختم مالا يختم ،فتجربة الشاعر الوطني الديمقراطي تستحق دراسة أعمق من المقالات والكتب،نظرا لما تفردت به هذه التجربة من خصائص في التجديد الشعري وفي بعدها السياسي كذلك

**************************
*هيثم حمدي شاعر وطالب في اللغة والاداب والحضارة العربية*








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي


.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال




.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما


.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم




.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا