الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدث في قطار آخن -35-

علي دريوسي

2016 / 1 / 27
الادب والفن


نعم لقد جاء دوري لأخبركم شيئاً عن هذا البلد المحمود الذي يسكنني!

في ألمانيا جنَّات النَّعيم، في ألمانيا يوجد كل شيء، في ألمانيا قد يخسر الإنسان كل شيء، في ألمانيا يخسر مثلاً السيد وزير الدفاع "تسو غوتينبيرغ" ورغم شعبيته العظيمة كل شيء، لأنه ارتكب "بلاغيات" مقصودة أثناء كتابة أطروحة الدكتوراه، الشيء الذي تم إثباته، يخسر عمله كوزير، درجته العلمية كدكتور في القانون، بالإضافة إلى تغريمه مادياً ناهيك عن الفضيحة الأخلاقية.

في ألمانيا يجب أن يكون المرء دائماً على أهبة الاستعداد لاستقبال هطول المطر، كما هو الحال منذ أيام ثلاث.

قلائِلٌ هم في الشَرْقِ من يُتْقِنُون فَنَّ النَّحْت من صَخْر!
في ألمانيا يُتْقِنُ الإنسان هذا الفَنّ، يرضعه من حليب أمه.

ألمانيا هي جزيرة الكنز التي نحلم في الوصول إليها بإرادةٍ من حديد.


-----
وإذْ يقتربُ موعد سفرك بالطائرة للمرة الأولى، تبدأ بالبحث عن أكبر حقيبة سفر في السوق الشعبية، وإذا كنتَ من المحظوظين ستجد مثيلتها في منزلِ أحد الأقرباء ممن تزوجوا حديثاً. تبدأ طقوس تجهيز وضبضبة الحقيبة، تكتب على ورقة كل ماتحتاجه: مناشف بيضاء، غيارات داخلية بيضاء، جوارب بيضاء، بيجامة نوم أديداس، بلوز وقمصان بيضاء، بنطلونات جينز، طقم، ربطات عنق وبضعة أحذية... فجأة تستيقظ الذاكرة وكأنكَ في رحلة إلى معسكر طلائع القيامة، لذا تحاول أيضاً أن تجد للملعقة والشوكة والسكين والصحن والكأس مكاناً آمناً في الحقيبة السوداء...

تكتب على الورقة نفسها أيضاً كل النصائح المقدمة منهم، كي تأخذها بعين الاعتبار، وأنتَ لا تملك إلّا أن تصدق وصاياهم!
يقولونَ لكَ: اشتر ذهباً، ستربح عند بيعه في الغربة!
يقولون لكَ: الأسعار كاوية، نار حمراء، خذ معك زعتر، مكدوس، مربى، زيتون، زيت، ملوخية وبقلاوة... ولا تنسَ علب المتة والقهوة والدخان...
يقولون لكَ: ليس هناك في بلاد الغربة من يجيد حلاقة الشعر! الأجور غالية، عليك أن تذهب إلى الحلاق قبل رحيلك، ولا تنسَ أن تشتري كل لوازم حلاقة الذقن!
يقولون لكَ: في الغربة تتدفق ينابيع الحنين، عليك أن تأخذ معك أشرطة كاسيت للغناء العربي، وكذا الكثير من صور العائلة!
يقولون لكَ: هناك برد وثلج، هناك ترتدي الناس معاطفَ فرو وجاكتات من الجلد، الأسعار عالية، اشتر معطفاً ولا تنسَ جاكيت الجلد والبُوط المقاوم للبرد والصدمات!

وأنتَ الذي لا حَوْلَ لك ولا قُوَّة... قد تصدقهم! خاصة وصية الجاكيت والبُوط... فهي تبدو منطقية! لعلك تحسب ما تبقى لك من نقود، تذهب حالاً إلى المُهَرِّب غنّام، رجل مخابرات، تسأله عن أسعار ما ترغب في شرائه! يتم الاتفاق سريعاً، على أن تأتي في اليوم التالي لإحضار ما طلبته، ينتابك الإحساس بأن سعر القطعة أعلى بكثير من تصوراتك البريئة، لكنك لن تساوم، ولن تجادل طويلاً، فأنت لا تعلم شيئاً عن سعر الملابس المصنوعة من الجلد المصري الأصلي، ثم أنّ المُهَرِّب هو ابن الضيعة، ولن يغشك كما يغش الغرباء!

فجأةً تصير الحقيبة كما في شهرها التاسع، حينئذ تنشغل بأفكارٍ بسيطة:
ما الوزن المسموح اصطحابه معك من المطار؟
كم حقيبة تستطيع أن تأخذ معك؟
هل تعرف أنت أو عائلتك شخصاً ما في المطار؟
هل تعرف إحدى المضيفات؟ أو طاقم الطائرة؟
ويأتي من يقول سريعاً: العاملون في شركات الطيران الشرقية أولاد حلال، إنهم يغضون النظر عن الوزن الزائد، ثم تسافر...

بعد عدة أيام على وصولك إلى البلد الهدف، وفي يوم عطلة نهاية الأسبوع، يقولون لكَ مثلاً: لقد وصل أحدهم لتّوه قادماً من الشرق، سيكون لطفاً منك أن تساعده.

وأنتَ الذي لم تسمع باسمه، ولم تره سابقاً، تذهب إلى محطة قطار ألمانية، لتجد كوازيمودو العربي قارع أجراس القيامة بانتظارك، بطل رواية أحدب ألمانيا، لتجد شاباً قد تجاوز منتصف عمره، قصير القامة، قبيح المنظر، أحدب الظهر، خفيف الوزن، قروياً بسيط الملامح، لتجد شاباً هرماً يحلم أن يختاروه ذات يوم ليكون المهرج المُحَبَّب في سفارتهم، تجده وبجانبه ثلاث حقائب، حقيبة يد في داخلها ما يعادل 15 كغ، حقيبة متوسطة فيها ما يعادل 35 كغ، وحقيبة عرس سوداء، برميلية ضخمة، فيها أكثر من 70 كغ، فيها كل المؤونة السنوية.

تتساءل في سرك: كيف سمحوا له!

تحيّيه وتتعارفان، فيقدم نفسه إليك: أنا "فلان الفلاني"...
ويضيف معاتباً: ألم تسمع بي، باسمي سابقاً؟
يسحبُ من جيبه دفتر هواتف، يفتحه باعتزاز، ويخبرك أنّ لديه أرقام الكثير من الشخصيات المهمة في الدوائر الشرقية والعاملين في الجامعات!

دون مقدمات، ترفعُ حقيبة العرس والمؤونة عالياً، تضعها على كتفك وجزءٍ من رأسك، تسير بها باتجاه السكن الطلابي، محاولاً تنظيم أفكارك عن الطعام ومكان النوم وما شابه... وهو، السيد الفلاني، يتبعك، حاملاً ما تبقى وفمه المفتوح يتحدث عن الرحلة وآلام المخاض في الوطن.

فجأة يتوقف عن السير، يرمي حقيبتيه جانباً، يقرفص على رصيف الشارع، يُخرج علبة تبغه البلدي، يدرج سيجارته بأصابع يديه الصغيرتين الطليقتين، يُبلّل ورقتها بريقه، يقطع أطرافها بأسنانه الصفراء الصغيرة، ثم يصرخ بلغته الخبيثة، كمن لَسْعه عَقْرَب:

أهذه هي الجنة التي وعدونا بها؟
أين هي الجنة؟ لا أرى شيئاً...
أهذه هي ألمانيا التي أخبرونا عنها؟
أين هي ألمانيا؟ لا أرى شيئاً...
أهؤلاء هن النساء الشقراوات اللواتي وصفوهنّ لنا؟
أين هن النساء الشقراوات؟ لا أرى أحداً منهن...
أين هن الصبايا عاهرات الشوارع؟ لا أراهن...
أين هو المال المُكدَّس في الطرقات الذي بشرونا به؟
لا أرى مالاً في الطريق... لا على الرصيف الأيمن ولا على الأيسر!
أين هم الألمان، طلاب الجامعة، الذين ينبغي أن ينتظرونني على أحر من الجمر، في محطة القطار، ساعة وصولي؟
لم يأتِ لاستقبالي أحد...
أين هي السفارة؟
أشعر أني كالكلب التائه!

وأنتَ مازلت تنتظره حاملاً حقيبته السوداء، صليب عرسه الثقيل، فوق ظهرك، تضحك معه وتضحك عليه حتى الدمع، تهز رأسك في أسى، وتعلم حينئذ فقط، أنّكَ لم تعثر قرب محطة القطار إلّا على بهلوانٍ مُسْبَق الصنع، في هيئة قط خبيث، في هيئة دروليري قميئة الشكل، تتعربش على حِيطان كاتدرائية نوتردام في باريس، لِتتَدَلَّى منها باِلشَّرِّ والطَّمَع.
-----


نعم لقد جاء دوري لأخبركم شيئاً عن هذا البلد الذي أسكنه!
مع مرور الزمن تضيع قناعاتي الخفيفة بقصص حب الأوطان التي لا تنتهي غالباً بالزواج أو تلك التي تنتهي أحياناً بالزواج والاضطراب، العلاقات العاطفية الوطنية في الشرق مقنّعة! مع مرور الزمن يتعمّق إيماني بالنواحي والنتائج الإيجابية للزواج التقليدي مع أوطانٍ لم تعرفها من قبل!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال


.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية




.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري


.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد




.. تفاصيل هتعرفها لأول مرة عن أغنية -أنا على الربابة بغني- مع ا