الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رصد اهتزازت الشعور وانثلامات الوجدان في الإبداعية الأدبية

سعاد جبر

2005 / 11 / 12
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


دراسة تطبيقية في نص" ترتيلة الرحيل " للكاتب صبري يوسف

تعد الأعمال الأدبية نتاجا حياً للفكر والإحساس ونتاجا لما يحس به الأديب من صدام بينه وبين الواقع ، ومن هنا ينبغي أن نميز بين الواقع كما هو قائم في العالم الموضوعي ، وبين الواقع كما يرتئيه الأديب ، لأنه واقع يسمو على الواقع الراهن ، انه واقع لا يخضع للزمان ، فلقد يكون الواقع الذي يحياه الأديب واقعا حدث في الماضي ، ولكنه ينبض بالحياة كأقوى ما يكون النبض في عقل ووجدان الأديب ، ولاشك أن الأديب ليس مجرد اله تصوير أو شريط تسجيل لالتقاط الواقع ثم سرده كما هو ، بل يعد الأساس في تلقي الواقع لديه هو ما يمكن أن نعبر عنه بهزة الشعور أو انثلام الوجدان ونزف جراحها على السطور ، وحتى بالنسبة لحالة الفرح التي تهز مشاعر الفنان أو الأديب فإنها تكون في الواقع رد فعل لحزن سابق أو لانثلام وجداني قديم ، ومعنى هذا أن ما يختزنه الأديب أو الفنان من أحزان ومن انثلام للمشاعر يشكل الركيزة التي ينبني عليها ما قد يحس به من هزة فرح ونشوة سرور في المواقف التي يستشعر فيها الفرح أو السرور، فالأصل في الإبداع الأدبي هو الحزن وليس الفرح. وهذا ما يفسر شيوع الحزن عند الأدباء لأنه مصدر الطاقة الإبداعية في لغة التسامي والرفض والأستلهامات ، و لذلك فأن النجاح الذي قد يهز مشاعر الأديب / الفنان إنما يكون قوياً ومؤثراً في حالات تصاعد تقدير ابداعيته من قبل الأخرين بعد مرارات المرات التي لاقى فيها الهوان واللامبالاة . وهناك شواهد على ارتباط الإبداعية بمؤثرات لغة الحزن ومعطياته إذ يقول احمد رامي :ـ يسرني جدا أن اقرأ شعري فيبكي من يسمعني ، إن ألذ شئ عندي أن ابكي احب البكاء دائما ، ومساحات الحياة تمتلئ بشواهد سيكولوجية تؤكد اختلاط لغة الفرح مع تداعيات لغة الحزن في مشاعر متماهية واحدة ، واختلاط الحزن في لغة هستريا الفرح وتواليك ، ولكن كلا المشهدين يؤكدان أن الفرح يرتمي في نهاية الأمر في أحضان الحزن ولغته التعبيرية والأسقاطية ، فالبكاء والضحك وجهان لعملة واحدة فهما صنوان لايفترقان ، فهناك ثمة تداخلا بين البكاء والضحك ، وفي نهاية المطاف يسكن الحزن في لغة الإسقاطات في كليهما على قمة استلهامات الأشراقات من خلال نوافذه السابرة في أعماق الحياة ؛ حيث تنسكب من ماهيته النازفة المقهورة سيمفونيات روائع المبدعين .
ونص ترتيلة الرحيل إبداعية أدبية تختلط فيها مشاعر الفرح ـ المتراقصة مع هالات الفراشات الماسية في النص المنبعثة من مشاعر الطفولة وانطلاقاتها الضاحكة وتساؤلاتها العميقة في الوجدان ـ مع مرارات الغربة واحتراق الروح على أزقتها المظلمة في عزف الحان الأشتياق للأم في الأنا والوطن ، ويشكل ذلك المقطع الرومانسي في تركيبة النص ـ في بعد الفكرة ـ الخيط المغناطيسي الذي يجذب كافة مقاطع النص تجاهها ، بحيث تشكل تماوجات الفراشات في الطبيعة وتراقصاتها مركزية النص التي تنبعث منها اهتزاز المشاعر وانثلام الوجدان في الألم والأحتراحات بشكل دائري يدور حول مركز النص في انبعاثات اشراقاته الإبداعية ، في ماهية حزينة فيها من التلوع وحرقة الأشتياق نحو الأمومة الحانية التي تشكل نقطة مركز الحياة واستشعار معاني الفرح والجمال والطبيعة في عين حقيقتها من البهاء والنضرة .
ويبلغ النص في تدفقات الأنا اللاشعورية واسقاطاتها ومسارات فراشات الطبيعة ومشاعر الأمومة ونبضاتها في الحياة ، كل ذلك يبلغ حد الأشتعال نحو الفناء المطلق ورحلة السفر البعيد حيث تغيب ماهيات الذوات وتبقى حرقة تحنان التذكار . ويعبر عنها النص في استفهامات حائرة :
" أتساءل: هل نحنُ الّذين عبرنا البحار وعبرنا الجسور وعبرنا بوّابات الشِّعر والنصِّ والقصِّ والسَّردِ والعشقِ، عرفنا لماذا تحومُ الفراشات حول الضَّوءِ إلى حدّ الاشتعال؟! "
وتنساب في النص احساسات مرهفة نحو الأم ـ في الأنا والوطن ـ المختلطة بعذابات الغربة ، مما يزيد حرفة الألم ومساحات استشعار المرارة في الأعماق والوجود ، وتصل في أعلى تصاعداتها عند لحظة فتح السماوات أبوابها لروح الأمومة المعطاءة وفي أعماقها كل التحنان للابن الذي غاب مع استرة الغربة ولم يعد حتى عند لحظة اقتراب رحلة الفناء الأخير ، فتصعد إلى سماءها الخالدة وهي مترعة النبض بالشوق إليه والتلهف لرؤياه . وهذه مساحة تعبيرية مؤثرة للغاية ، واتسمت بجماليات تراكيبها في التعبير وامتلاكها فنيات بارعة في عكس تلك المؤثرات الحزينة في إضاءات خافته مؤلمة ؛ تتجرع الألم والحسرة ؛ وتشتعل فيها نار الغربة وعذاباتها .
ويرتسم في النص هالات رقيقة للغة التصوير الفني للفراشات ، التي تجتاح مساحات الطفولة في لغة الذكريات الجميلة ، وتنساب منها نحو أحضان الأمومة التي تشكل ماهية الوجود وبهجة الحياة ، وتتوالى اشراقاتها على لغة الصداقة وتماهيات الورود في تجاذبات الفراشات ، وتتشكل منها المفارقات المرة بين جماليات الطبيعة الخالدة في لغة الأم في الجسد والوجود وتماهيات مرارة الغربة واحتراق الروح في الأشتياق ، وتتناثر اسقاطاتها في استفهامات ضبابية عاشقة للفرح في آتون أحزان مشتعلة :
" تعالي أيّتها الفراشة التائهة في عوالم الحلم، في عوالم البحث عن الفرح الآفلِ، لماذا لا تبقى أفراحنا ساطعةً فوق خيوطِ الشَّمس؟! "
وتتعالى إبداعية الأديب في متتاليات لغة مونولج حارة في النص ، تتماوج معها انكسارات مشاعر الاشتياق واحتراقات الروح ، لتبلغ حالة الخلاص وماهية المنتج الأبداعي الذي يعكس فيوضاته على الورق في رسالته الإبداعية

" لا يستطيعُ أن ينتشلني من اِندِلاقِ هذه البراكين سوى قلمي؟ أهلاً بكَ يا قلمي، تعالَ كي أزرعَ رحيقكَ بين عشبةِ القلبِ وشهقةِ الرُّوحِ كي أرسمَ فوقَ بيادرِ غربتي ترتيلةً من لونِ المحبّة، من لونِ فراشةٍ موشومة فوق بسمةِ أمٍّ متعانقة مع هلالاتِ الرُّوحِ، مع صعودِ بخورِ القلمِ! "
وهنا تبرز حلة هروب السارد نحو ميادين الفرح المنبعثة من أتون عذابات تعصف باللاشعور والجسد والوجود في عين السارد ، في لغة التذكار وهستريا فرح تعبر عن زخم معاناة يحترق في أعماقه الواعية واللاواعية ، تشفر في لغة الاغتراب ، وهالات أحزان مستعرة ملتهبة في الأعماق مع اعراس الفراشات على السطور .
ولايسعني في نهاية رحلة التجليات مع الحروف البهية إلا أن أزجي تحايا التقدير الزنبقية لمبدعنا الألق : صبري يوسف على ما امتعنا به من حروف ربيعية مورقة ودام إبداعه فراشات انيقة متفردة في الحرف والروح على اثير الحبر الخالد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هي الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بالتوحد؟ • فرانس 24


.. مدير مكتب الجزيرة في غزة وائل الدحدوح: هناك تعمد باستهدافي و




.. الشرطة الفرنسية تدخل جامعة -سيانس بو- بباريس لفض اعتصام مؤيد


.. موت أسيرين فلسطينيين اثنين في سجون إسرائيل أحدهما طبيب بارز




.. رغم نفي إسرائيل.. خبير أسلحة يبت رأيه بنوع الذخيرة المستخدمة