الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلغاريا بين الأمس واليوم

سميح مسعود

2016 / 2 / 1
الادب والفن



تقترن بلغاريا في ذاكرتي بعاصمتها صوفيا ، التي أستذكرها دوماً مجللة بشبكة لوحات مرئية جميلة متكاملة ، تزدهي بتفاصيل تكوينات تتمطى تحت أطراف السفح الشمالي لجبل فيتوشا ، تزيدها جمالاً غلائل سهول تحيط بها بنبض أزلي ، يمكن للعين أن تحمل منها قطوفاً من المناظر الجميلة التي حفرتها الطبيعة منذ آلاف السنين، يظل اللسان يروي عنها أجمل الكلام على مدى أيام طويلة .

ويمكن توضيح فرادتها من خلال موقعها الجغرافي المتميز،الذي يجسد منظومة علاقات متشابكة مع جهات متعددة ، تظهر فيها صوفيا قريبة من أوروبا الغربية واسيا معا ، وقد استمدت من موقعها تشكيلة مضامين تاريخية مليئة بمشتقات أحداث كثيرة ، منها خضوعها مع كامل بلغاريا للحكم العثماني طيلة خمسمائة سنة، وتقطع خيوطها مع أوروبا خلال تلك الفترة الطويلة ، المحملة بدلالات مثيرة نابعة من أعماق السنين.

تعرفت على صوفيا مبكراً ، في بداية ستينيات القرن الماضي، زرتها مرات كثيرة أثناء دراستي الجامعية في يوغوسلافيا المتاخمة لبلغاريا ، والتقيت خلال زياراتي بعدد من الطلبة تعرفت منهم على خفايا مدينتهم ، وتمكنت من تحقيق هذا التواصل لإلمامي باللغة البلغارية ، المشابهة للغة الصربية ، اللغة التي كنت أتلقى بها دروسي في جامعة بلغراد .

كانت بلغاريا في ذلك الزمن ضمن منظومة الدول الإشتراكية ، تزهو بنهضة صناعية وزراعية بمحركات إنمائية فاعلة ، تعرفت في زياراتي المتعاقبة على مكنون اقتصادها بوعي وادراك ،ومع الأيام تلمست أيضاً خفايا معالمها التراثية والفنية والثقافية، وتعرفت على ملامح أول حضارة أوروبية ظهرت في ملتقى الطرق بين أوروبا وأسيا ، وما تركه الأقدمون في تلك البلاد من تراث عبر أيام حكمهم الطويلة والمتعاقبة على امتداد القرون الماضية .

زرت صوفيا مؤخرا، زيارتي الجديدة لها ساعدت على إحياء صياغات ذكريات كثيرة ما زالت متشبثة بمعاقل الذاكرة ، ساعدتني على الدخول في سراديب صوفيا وتلافيفها من جديد ، وبإحساس جميل وجدتني أتجه إلى أعلى جبل فيتوشا ، استمتعت بأركانه التشكيلية التي أبدعتها الطبيعة بعناية لونية فائقة ، وفي لحظة قفز إلى ذهني شريط صور أشبه ما يكون بالمرئي، تستطيع العين أن تجمع منه لوحات كثيرة متعاقية بملامح وأبعاد دلالات كثيرة ، في بنى شخصية وعامة من زمن مضى ، ممتزجة بشطحات خيال وأصداء نصوص غائبة.

أعدت تشكيل الصور العامة من جديد بلمسات سريعة بموضوعاتها وأشكالها وشخوصها ، وقارنتها بصوفيا المعاصرة في الزمن المعيش، لم أجد أثراً للمكان القديم ... لم أعثر عليه ، تذكرت وقتئذ قصة الأديب الخالد مكسيم غوركي، قصة كانوفالوف ، الذي عاش عمره يبحث عن شئ يتوق إليه ولم يعثر عليه ، وتذكرت صوفيا القديمة كظاهرة مكانية ونازعني شوق كبير لمقاربتها من جديد .

والمسألة هنا ليست في ضياع مكونات المكان من النواحي البشرية والجغرافية والعمرانية ، بل في ضياع أرضية البنية الفوقية القديمة ... مجموع القيم والمفاهيم والتطورات المتعلقة بالوجود التي ترسخت في ذهن الناس ، من خلال مجموع العلاقات والروابط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي حددتها في الماضي طبيعة ملكية وسائل الإنتاج وتوزيع الثروة في زمن النظام الاشتراكي السابق.

وحتى أكون في غاية الإنصاف وجدت المكان القديم قد تعرض للدمارجراء التحول للنظام الجديد، أمام غزوات التغيير وسوء الإدارة وفساد عمليات الخصصة التي فرغت البلاد من المصانع والمزارع ، وأحلت محلها مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية ، ومطاعم السوشي اليابانية، وفروع الفنادق والبنوك الغربية ، وفروع شركات ومحلات تجارية ، تعمل على نشر ثقافة المجتمعات الإستهلاكية الرأسمالية ، التي تحفز المواطنين على عملية شراء السلع والإستفادة من الخدمات بكميات كبيرة، وتشجعهم على الإقراض والإنفاق بما يزيدعن دخولهم ، ومن ثم الدخول في دوامة تسديد الديون، والتعرض لكوارث الأزمات الطاحنة التي تعصف بالمجتمعات الغربية .

وبينما كنت أجمع أفكاري حول هذه المتغيرات التي استجدت في المجتمع البلغاري ، التقيت بالمصادفة بثلاثة أشخاص من سكان صوفيا في فندق " بلقان " وجدت نفسي محاطاً بهم في بهو الفندق ، تجاذبت معهم أطراف الحديث، وسمعت منهم معلومات كثيرة عن الحياة في بلدهم ، وعن أهل الحكم فيها في الزمن الراهن ، أفادوني بدلالات كثيرة دامغة عن تفشي الفساد، وعن الاقتصاد الذي يفتقر إلى كل المكونات الأساسية الفاعلة لتحقيق التنمية ، بعد أن تراجعت الزراعة والصناعة ، وتعاظمت معوقات التنمية بأغلال متراكبة .

وبعد أن جَيرت الخصصة أهم المصانع والشركات لصالح قلة من المستثمرين بابخس الأسعار ، تكاد أن تكون بأسعار رمزية في أغلب الأحيان لا تتناسب مع قيمتها الحقيقية ، فقد تم بيع مصنع الصلب " كريموكوفسي" الذي اعتبره البلغار في الماضي مفخرة لهم مقابل دولار واحد، وتم بيع 75 في المئة من اسهم شركة الخطوط الجوية الوطنية البلغارية " بلقان " إلى تجمع مالي إسرائيلي ( زئيفي ) مقابل 150 ألف دولار ، بحجة أنها مفلسة ، رغم تملكها عشرات الطائرات العاملة وعشرات المكاتب في عدد من الدول ، و تم بيع أكبر بنك بلغاري " بول بانك " إلى مجموعة بنكية إيطالية ، مقابل ربح البنك خلال سنتين فقط .

أكدوا لي بقناعة تامة بأن الخصصة قد نُفذت للتخلص من المؤسسات الصناعية والزراعية والمنشآت السياحية والخدمات العامة ، ولاحظت من كلام المتحدثين شدة تأثير تلك التجربة على أحاسيسهم، لأنها برأيهم تمت بهدف تخريب متعمد للاقتصاد البلغاري، باسلوب "همجي" غير مدروس ، أدى إلى كوارث إقتصادية ومالية وانسانية مؤثرة ، ساهمت في استفحال الفساد الإداري والمالي ، وظهور قوى ضاغطة تعمل من أجل مكاسبها الشخصية من الصفقات المشبوهة ، إضافة إلى تنامي معدلات البطالة والفقر وانخفاض قيمة معاشات المتقاعدين ، وتراجع مستوى الخدمات الصحية التي كان يوفرها النظام الإشتراكي السابق للمواطنين .

كما تراجع بفعل الخصخصة الإنتاج الزراعي والصناعي ، وتراجع التصدير كثيرا بعد أن فاق حجمه في عام التحول 1989حجم اجمالي صادرات تركيا واليونان معاً ، واشتدت وطأة الاستيراد من الخارج ، وبين أحد المتحدثين أن بلغاريا التي كانت في مقدمة الدول الاوروبية المصدرة للمنتجات الزراعية ، أخذت تستورد في الوقت الراهن نسبة عالية من احتياجاتها الغذائية من الأسواق الخارجية ، من الدول المجاورة وحتى من الصين .

طال الحديث عن الخصصة وتشعبت أطرافه في بهو فندق بلقان ، وأكد المتحدثون على أن تخريب المؤسسات البلغارية قد تم متعمداً ، للقضاء على كل أثر يُذكر بإنجازات النظام الإشتراكي السابق ، وتساءلوا في هذا السياق، كيف يمكن أن تتراكم الديون على مصانع وشركات ناجحة ، وتصبح عاجزة عن إصلاح مرافقها وألاتها مع أنها كانت تعمل على مدى سنين طويلة بأفضل ما يكون ، كان إنتاجها يتوسع بين الحين والحين ، وتزيد صادراتها ومداخيلها بوتائر مقبولة عاما بعد عام ، وكانت تشكل قاعدة أساسية للإقتصاد البلغاري.

وبينما كنت أسجل بعض ما أسمعه على أوراقي ، بين لي أحد المتحدثين ، بأن النظام الجديد تعمد الغاء كل أثر للنظام الاشتراكي السابق ، وأعطى مثالاً في هذا الشأن يتصل بضريح القائد التاريخي للشعب البلغاري جورجي ديميتروف ، فقد حُنط جثمانه عند وفاته في عام 1949، وحُفظ في ضريح كبير ُشيد في وسط صوفيا ، صمم على نمط ضريح لينين ، وبقي طيلة فترة الحكم السا بق كمزار لكل المؤمنين بفكره ونضاله ، وحال مجيء الحكام الجدد سرعان ما دفنوا جثمانه في مقبرة عامة ، وفجروا ضريحه بنفس الطريقة الوحشية التي فجر فيها طالبان ثماثيل بوذا في أفغانستان !.

حدثوني عن أزمة بلدهم ونفوسهم مليئة بالحزن ، وجدتهم يتحدثون بجرأة بالغة عن أفكار تشدهم لىنظامهم القديم ، أكدوا في أحاديثهم على صعوبة تنكرهم لجذررهم الفكرية ، كلامهم فاتحة حديث أوسع عن تجارب فشل في دول أخرى كثيرة ، يمكن بها استيحاء الدروس والعبر عن أهمية الفكر الإشتراكي القادرعلى التطوير في ظل الظروف المتغيرة الراهنة التي يمر بها العالم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس