الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين يقول الشّاعر كلمته

سيف الدّين بنزيد

2016 / 2 / 4
الادب والفن


حين يقول الشاعر كلمته
سيف الدّين بنزيد/ أكاديميّ تونسيّ

أيقن الشعراء منذ القديم منزلة الكلمة كقوّة مغيّرة قادرة أن "تفرضَ علينا طريقتها في الوجود" وتنقلَنا من الأوراق إلى الحياة. ولإيمانه الشديد بكون الكلمة وسيلة ناجعة في إصلاح الكون طلب الشاعر الانغليزي صاموئيل تيلر كولردج سنة 1800 من غودوين في رسالة أن يؤلّف كتابا حول سلطة الكلمات وحول التطوّرات التي سمحت للأحاسيس الإنسانيّة بمصاهرتها، ويبدو أثر هذه الرسالة جليّا في المنحى النقديّ الذي اتّبعه الباحث الكنديّ نورثروب فراي في كتابه الثاني حول علاقة الأدب بالكتاب المقدّس والذي يُعدّ تتمّة لما بدأه في مؤلّفه السابق الصادر سنة 1984 « Le Grand Code » وتتداركا لبعض نقائصه، لذلك ليس من وليد الصّدفة أن يحمل كتابه الجديد عنوان « LA PAROLE SOUVERAINE » / "سُلطان الكلمة " ويضمّ تصديرا مقتطفا من قول كولردج.
وإذا أردنا التمييز بين "الكلمة الشعريّة" و"الكلمة في استعمالها العام" وجدنا أنّ الناس العاديين يتفوّهون بكلام يتناقل أفكارا مشتركة تطمس الحقيقة الوجوديّة رغم أنّ الوجود هو "المعطى الأوّل للإنسان" ووجدنا في المقابل أنّ الشاعر لا يعرض آراء ولكنّه يعرض رؤيا فهو يخلق كلاما مميّزا الهدف منه تبليغ قدر من الحقيقة الإنسانيّة إلى الآخرين. ويعرّف عبد الصبور الشّعر بكونه صوتَ إنسان يتكلّم مستعينا بمختلف القيم الفنيّة لكي يكون أصفى وأنقى من صوت غيره من الناس. كما يميّز الشاعر المصريّ بين صنفين من الكلام كلامٍ فيه إيمان بإرادة الإنسانِ هو كلام الشاعر الحقيقيّ وكلامٍ أجوفَ أشبهَ بالهذيان، ونلمس هذا التمييز في قوله على سبيل المثال :"وأبو تمّام الجدّ حزينٌ لا يترنّمْ / قدْ قال لنا ما لمْ نفهمْ / والسّيفُ الصادقُ في الغمدِ طَوَيْناهُ / وقنعنا بالكُتْب المَرويّهْ".
ونفهم من هذا الكلام أنّ معاصري أبي تمّام قد أدركوا حكمته القائلة "السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتب" في حين أنّ الأمّة العربيّة منذ منتصف القرن العشرين اكتفت بكلام السياسيّين الأجوف وقنعت بالكتب المرويّة أي بالأحلام الزائفة.
وقد عاد عبد الصّبور وكذلك عبد الوهاب البياتي إلى رمز الحلاّج في بعض أعمالهما الإبداعيّة لإبراز علاقة الشاعر بالواقع ودحض نظريّة سارتر الرافضة للالتزام في الشّعر، وذلك لأنّ المتصوّف المثاليّ في تصوّر الحلاّج هو الشخص الجريء الذي يتفاعل مع مجتمعه لا الشّخصُ الذي ينغلق على نفسه. يقول البياتي في قصيدة (الشعر والثورة): "الشّعر أعذبه الكذوب/ قالوا/ وما صدقوا/ لأنّهم تنابلة وعُور/ كانوا حذاء للسلاطين الغزاة/ بلا قلوب./ يا شعر حطّم هذه الأوثان/ واقتحم الخطوب".
ونلمح من هذه الشطرات رفض البياتي لمقولة ابن رشيق "أعذب الشعر أكذبه" وإيمانَه أنّ الشّعر الحقّ هو الذي يُغيّر الواقع، لهذا نراه يتبرّأ من الشعراء الجوف، يقول في قصيدة (إلى رفائيل ألبرتي): "فليسقط شعراء ملوك العصر الحجريّ الببغاوات/ وليسقط شعراء الجنرالات"، كما يهجوهم في قصيدة (رؤيا في بحر البلطيق) قائلا: " في بهو مرايا السّلطان / يرتجف الشعراء الخصيان/ ترتجف الأصفار/ والكلمات المأجورة تحت نعال الثوّار".
ونظرا إلى كون كلمة الحقّ مؤلمة للبعض ومقلقة للبعض الآخر، فإنّها من الممكن أن تُعرّض قائلها إلى الاضطهاد، وهو ما حصل مع الحلاّج، فقد اتّخذ هذا المتصوّف من الكلمة السيف الذي سيقتله. وقد جاء في "حال الأولياء" للمقدسيّ أنّ الخضر قال للحلاّج حين مرّ به وهو مصلوب:" نحن كتمنا فسلمنا وأنتَ بُحتَ فمُتّ". ولعلّ أفضل ما يمكن أن نختم به هذا المقال هو عبارة للبياتي جاء فيها: "يموت الديكتاتور ويبقى الشاعر".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل