الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلة أخرى

محمد الأحمد

2016 / 2 / 5
الادب والفن


ليـــــــــــــلةٌ أخـــــــــــــــــرى
محمد الأحمد
في مطلعِ الليلة الدهماء، وقفتُ انتظارا لاكثرِ من ثلثيّ الساعة يائساً من جدوى الانتظار، حائراً، ولا ادري ماذا سأفعل تحت مظلة الحافلة التي بدت مهجورة، حيث لم يبق فيها اليوم مقعداً استطيع الجلوس عليه، وباتت تحيط بها الأوساخ المتراكمة من جراء الإهمال، فمنذ زمن طويل لم تطلها أيادي عمال البلدية، وقد تهيأ لي إنها ستشكل بعد قليل مرتعاً ليلياً للكلاب السائبة، وسأكون ساعتها ضيفا للسخرية، والهزء.. كنت قد خرجتُ من داري لا ألوي على قرار استقر عليه، من بعد ان اخذني الضيق والملل، بقيت ماشيا حتى نهاية الزقاق، وانعطفت مرارا، ومرارا، متشجعاً، خاطياً نحو المسافة التي كنت ادمنها يوميا الى دائرتي، ولكن الحال تغير الى اكثر سوء، وصارت المدينة التي اعرفها، وكأنها مدينة اقل شأناً من التي عرفتها ايام ذاك. بقي نصف ساعة على سريان حظر التجوال، حيث سيعشش الخوف فوق مكامن الفضاء، فكلما خلت الاماكن من البشر، حضرت إليها المخاوف والظنون. لكن البشر هم السبب الرئيسي لتلك المخاوف، قلت لنفسي:- عليّ ان اعود، فماعاد في العمر متسع لكل تلك المخاوف غير المحسوبة، وكأني كنت اقول لنفسي محاولا خداعها: بان المفلس في القافلة امين، فليس هناك من يترصدني صيدا ثميناً من بعد أن اجتزت سنوات عمري متعبا، حزينا، بائسا، وقد رسمت خارطة التجاعيد مساراتها المتقاطعة الغامقة على اديمي. بدا المكان من حولي شبه موحش، تتطاير فيه الاكياس الورقية والنايلون، وتعبث تيارات الهواء في علب الصفيح الصدئة، وتقلبها لتحدث صفيرا مرعبا لمن لا يعرف مصدره. جالت عيني على حروف مكتوبة كشعارات سياسية، واخرى توعدات، واخرى شتائم. بعضها لم يكتمل وبعضها تراكبت مع غيرها، وقد اعطت معانٍ جعلتني ارسم ابتسامة عريضة لم استطع الا ان اعيد النظر بها، كاني لا اريد نسيانها، أو احاول ان انسى ما حدث في البيت، وقد خرجت تاركا بيتي لابني وزوجه، عساني ان اخفف من وحشة الذات بوحشة الامكنة.. كان هذا المكان شبه البعيد والمنعزل يقع عند المنعطف الكائن في نهاية الزقاق، فبقيتُ مفتعلا انتظار تلك الحافلة من اجل أن تمرّ وتقلني حيث لا ادري، كذلك حقيقة الأمر أني لا أريد سوى أن أبقى عالقاً في المكان الذي اخترته بوعي، وسبق إصرار، كأن جلّ غايتي أن اشبع فضولي المؤرق، وارقب ذلك البيت المطل على الشارع الذي وقفت انظر إليه من بعد إلى الشباك متشوقاً لمعرفة ماذا وراءه؟، فمنذ تقاعدي لم أعرف بالذي حدث بعد كل ذلك الانقطاع، وكل تلك الحوادث والتغيرات. اذ أشرقت في ذهني صورة تلك المرأة البالغة الجمال، والتي كأنها نزلت، ودخلت إليه، لمحتها تنزل من سيارة الأجرة، تلك المرأة.. تلفتت يميناً، وشمالاً خاشية أن لا يراها أحد، ولم تكن متخفية بملابس تجعلها غير معروفة.. فلم تكن ترتدي وشاحا، أو تغطي كتفيها الناعمين بيشارب، أو منديل ما. كنت اراها بجمال ستهبني به سعادتي، وخاصة أنا رجل قارب القطار أن يتركهُ وحيدا في محطة مجهولة، غامضة المصير.. كانت امرأة جذبتني من البعيد، و لن تمرّ في حياتي مثلها. كان شعوراً غامضاً يلفني، يجعلني أسير تلك القامة الملفوفة بالسحر، وبقيت مدارياً الخجل الذي سورني مترددا، وعازما في الوقت نفسه على تحدي كل ما لم أتوقعه، ففي بالي بقيت معزوفة (روميو و جوليت) تدور في فضاء رأسي، متطايرة في حلم يقظة. كان النغم متتابعاً يطوف الخيال، كأنه يعزلني بتلك الحلقات الوردية المتصلة، المتتابعة بألوان قوس قزح بهيج. ولكن ذكريات البيت تطاردني، زوجة ابني جعلت بيتنا جحيما لا يطاق، تروم الطلاق، وما عرفت سببا مقنعا يبرر طلبها، كل مرة كان يتصاعد شجارهما الى حدًّ بغيض. يجعلني اهرب من كل ذلك التوترالعصابي حيث هذه الخلوة. رحت أحدق جيدا في النافذة التي غطتها شجرة سدر مسنة تجاوز عمرها الخمسين عاما، دققت النظر إلى قلفها، وهو يكشف من تحته لحاء غير نظر. تنبهت الى رجل كان يتقدم نحو مظلة الحافلة. فتشجعت مدققا النظر إلى بشرته، يبدو في الخمسين من عمره، ارتدى بنطلونا عليه بقع أصباغ جدران، فأيقنت انه عائدا من عمله إلى بيته، جاء لينتظر معي الحافلة التي لم اكن اصدق إنها تجيء بالمرة.. لم انتبه إلى السيجارة غير المشتعلة في فمه، إلا عندما طلب مني بأدب جم أن أشعلها له، واعتذرت، موضحا له أني بقيت تاركاً للتدخين منذ فترة طويلة.. كان شاحبا مدمرا بوافر مطر حزن متدفق من أعماقه.. قال انه لا يدخن في اليوم الواحد اكثر من سيجارة واحدة.. أثارني ذلك، وحفزني إلى سؤاله:- كيف؟ أحاول أن لا ادعه ينتبه إلى أني ارمي النظر على الشباك البعيد، والذي غطت الشجرة الوارفة جانبا واسعا من جهته الأخرى. بقي مستمرا في الكلام دون أن يرفع نظره إلي:-
- وهذه أول سيجارة سأدخنها؟..
أوشكت أن أتهكم معه القول، لكني انتظرت أن يكمل ما قاله، فوجدته منتظراً كيفية وقع كلامه عليّ، وينظر صوب المكان الذي كنت ارقبه. وراح يزفر أنفاسه بضجر محولاً نظره إلى الجهة التي تقدم منها الحافلة.. بدا الشارع طويلا فارغا، والبيوت في نهاية الشارع متراصة بأشجارها.. جعلت الضوء في الشارع شحيحاً. كأني تسلقت الشجرة بناظري مركزا نحو شباكها متابعا ومضة ضوء (نيون) لم يضأ من أول ولهة، لكنه في اللحظة التي اعتقدته فيها غافلا عني فاجأني انه اكتشف ما كنت أصوب إليه نظري..
فقال يسألني بصبر نافذ: يبدو لي أن الحافلة لن تجيء أبدا في مثل هذه الساعة؟
قلت إن رجلا كان هنا أكد لي بأن الحافلة آتية بعد قليل.. وستقل عمال المصنع الذي في بداية الشارع.. إلى مناطق سكناهم، فضحك بمكر؛ فعرفت بان كذبتي غير نافذة، ولا ادري كيف اخترعت قصة الرجل الذي قال بأن الحافلة..آتية..
فقال مؤكدا زعمي:- فعلا إن البيوت اغلبها معامل أهلية..!..
جعلني انظر الى عمق الشارع البعيد باغيا التأكد.. فقلت مع نفسي: - حتى الحلم بالمراة قد تفند!.
عندها أردفت، متسائلا: هل أنت تعمل في هذه المنطقة؟..
- مع أحد المقاولين في بيت عند تلك الناصية وانام هنا عند هذه الزاوية!
بقيت حائرا. بماذا ابتدء سؤاله؟ ورحتُ استعيد ما حدث لي بالضبط، ولم يتبدل من قراري بعدم العودة الى بيتي شيئا.. في تلك الاثناء مرقت من أمامنا سيارة كانت سريعة جدا لوح احد منها بيده معلنا إشارة فعل بذيء، فعلق الرجل قائلا: (أما سارقا لها أو يكون لا يعرف السياقة بصورة جيدة.. يبحث بين فخذيه عن الكوابح).. بقي يضحك حتى مرّ رجلان آخرآن كانا يتكلمان بصوت خفيض، بينما الرجل الأول يتوكأ على عصى تبدي انه أعمى، ومعه رجل صغير الجسم، ناتئ العظام، بقيّ يكمل حديثه مع صاحبه: (بأنها حزمت أمرها مع صديق لها يعمل في سلك الشرطة، فرتبت معه خطتها الجهنمية.. عندما يكون الضحية في سريرها، يكون ملزما بالجرم المشهود.. ولاجل ان تنقذ سمعتها تدعي امام القاضي، على الشرطة انهم بدون أي حق قانوني، دخلوا عليها البيت، وان الرجل الذي معها هو زوجها الشرعي، ذلك يضع الشرطة في حرج، فيطالبون بورقة تثبت صحة ذلك الادعاء، ويكون ذلك الطلب عن طريق التبليغ الرسمي، فيضطر الضحية لتوكيد الادعاء بدون ورقة، وفي اليوم التالي يقدمون ذلك المستند.. يتفقون مع (السيد) الذي يدوّن عقد النكاح، مقابل مبلغا من المال.. ليؤكد بان الزواج قد كان شرعيا تاما، وتاريخ تسجيله قبل موعد (الكبسة).. وبتلك الورقة يكون الضحية تحت السكين، تحت طائلة القانون، وقد فرضت نفسها زوج لها حقوقا عنده يجب أن تنالها. بقيت مصغيا لما قال الثاني معقبا بانفعال:
- ربما جرى معه أكثر..
فأجابه الأول بعجالة:
- أريد إنقاذه من تلك البراثن الغامضة.. كونه شخصا ممتازا عرفته في جبهة الحرب.. تصور لقد حملني جريحا من جزيرة (بوبيان).. حتى وصل بي إلى مدينة (الناصرية).. لم يتركنِ لحظة واحدة..
انتبهت الى الرجل الذي كان بجانبي، قد اختفى.. بحثت عنه، ولم استدلل الى مكانه، ولكني بقيت استمع الى ما كان يقوله الرجلان:
- فهمت..
واصل الثاني:
- أظنك تدرك كم يهمني أمره؟..
- أعدك باني سأدرس القضية بإمعان.. وحتما سوف أجد لك مخرجا!
وقفا قليلا متلفتين احداهما يتفلت حول الآخر، وهمس احداهما بصوت واضح، بعد ان القيا السلام علي:
- من فضلك هل تمرّ الحافلة من هنا؟..
تلكأت في الإجابة لكن الرجل الذي كان بجانبي خرج اليهما قائلا مع ابتسامة:
- لا تتعبا نفسيكما معه هو الآخر ضيفنا لهذه الليلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع