الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حسون الامريكي و- ُقبلة - الزوراء ...

عارف معروف

2016 / 2 / 6
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


حسون الامريكي و" ُقبلة " الزوراء ...

كان ( حسون الامريكي) من الشخصيات الطريفة الممّيزة التي عرفتها بغداد وتندر بسلوكها البغادة . واعتقد انه بقيّ ملفتا للنظر ومثيرا للتعليقات والاهتمام ، في الشوارع التي كانت القلب من بغداد ، واعني ، الرشيد والسعدون ، حتى منتصف السبعينات من القرن الماضي . حينما تلاشى مع ما تلاشى من بقايا بغداد ، الصغيرة ، المتطلعة ، المسرورة بالأقل من القليل من العطايا . بغداد ، الفتّية الناهضة من رماد القرون ،ولكن ، لتكبر بسرعة ، وتشيخ بل وتهرم وهي تستقبل سنوات كآبة ثقيلة وألم مقيم .
وقد شهدتهُ، في صباي ، رجلا فارعا ، يرتدي قميصا مبرقشا بصور زهور استوائية، كبيره، ذات الوان فاقعة . وبنطلونا خاكيا قصيرا .مصطحبا كلبه على طريقة الاوروبيين . كان بشوشا ومسالما وهو يرّد ، بفرح ، على تحايا المهتمين وربما تعليقاتهم ، المشجعة او الساخرة ، بابتسامة يحاول ان يعطيها مظهرا امريكيا وببضعة كلمات انكليزية مما يعرفه( good morning ) ،(hello boys)...،. كان مصدرا لبعض البهجة بالنسبة للكثيرين من المارة . ولم يكن احد ليحمله على محمل الجد، كما لم يكن ، هو الاخر، يفعل ، فيما اظن . وكان ذلك حسبه . فكل ما كان يبحث عنه ، هو تمّيزعن السوّية بما يلفت النظر اليه ويجعله محل اهتمام ولو عابر .
من المؤكد ان ( حسون ) كان يعمل لحسابه الخاص، هو . لرغباته الطفولية ، هو . ووفقا لإدراكه الشخصي المتواضع لعلاقة الاصالة بالمعاصرة او الحداثة ، التي رأى انه سيعُبرُ الى ضفتها ويتمكن منها بتقمص (الامريكي ) ، في قميصه المبرقش ذاك ، او بنطاله الكتاني القصير ،او كلبه الذي يرافقه ، او قبعته الكاو بوي مثلما رآها ( حسون ) في افلام السينما . وأين يمكن لحسون ان يكون قد عرف الامريكي سوى عالم المجلة ، او الاعلان ، اوالسينما ؟!
لكن ( الامريكي ) امسى واقعا مغايرا، صلبا ومتحكما ، في يوميات بغداد حين اقتحمها بدباباته ، وصار المُقرّرْ لمعظم شؤونها ، علنا وعلى رؤوس الاشهاد سنوات ، ومواربة ومن خلف استار ، اخرى . ولم يعد ، ممتعا لبغداد ، ان ترى (حسون الامريكي ) لو ُبعث الى الحياة ، ثانية . ذلك انه لن يعود كما كان ، لأنها نفسها ، ما عادت كما كانت....
ثمة محاولات ، زائفة ، لبعث ، ( حساسين) او (حسونات) ، هنا او هناك ، لا لإمتاع المّارة واثارة تعليقاتهم الساخرة ومشاعر بهجتهم المتطايرة في كلمات . ولا ارضاءا لنزق وتمرد هذا الحسون او ذاك ، وانما لأغراض ، احترافية ، بعيدة الغور... فحيث اقتضت الامور تسليط الضوء على البقعة الخطأ . وحيث أُريدَ تركيز النظر في اكثر أركان مسرح الاحداث سطحية وبعدا عن التأثير . وكلما كانت الغاية الاشغال بمعارك وهمية . بُلبلت انظارُ الناس بحسّون، جديد ، مختلف ، يصعد الى المسرح ، بقميصه المبرقش الغريب واللافت للنظر وُسلطّتْ عليه اشّد اضواء الاعلام سطوعا وانبرت للدفاع عن (عدالة ) قضيته اكثر الاقلام ضحالة ....
والمشكلة ليست في هذا كله ، فقد اصبح في حكم المعلوم ، من الامريكان واتباعهم ، بالضرورة ، لكن المشكلة المؤسفة ، اشد الاسف ، في اصوات الادعياء من البكم ، واقلام الجهلة من حملة الاقلام الاميين ....
قبل سنوات ، ظهر في بغداد ( شباب الأيمو ) . وعلا ، على فجاءة ، حديث ( الأيمو ) ، اللذين ظهر ، بعضهم ، هنا وهناك، على نحو مقصود ، لذوي الغايات ، وعفوّي ، بالنسبة لبضعة مراهقين ومراهقات، ساروا مع الصيحة وفق مبدأ المسايرة والاتبّاع . ثم تصاعد الامر الى مقهى للمثليين، تستطلعه قناة " الحرّة عراق " ، ثم ، حملة لأنصاف المثليين وشرعنة حقوقهم العادلة( وكأن الاسوياء قد نالوا حرياتهم وحصلّوا حقوقهم ولم يبق من مظالم الاّ مظلمة المثليين !!) ، حملةٌ دارت كزوبعة في فنجان ، في اوساط ( ثقافية ) و (اعلامية و (تنظيمات مجتمع مدني ) ، مرتبطة ، كلها ، شديد الارتباط ، بمانحين دوليين . وانتهى ، هذا ال) Check up) ، هذا الاختبار المستفز ، الى ما كان متوقعا، فرقعة في الهواء الى جانب مقتل ضحية او بضعة ضحايا . ربما قتلهم َمنْ اخرجهم ، ليستكمل الغرض ويبلغ المرام فقد ُمررَ ما كان مطلوبا في ظل استار دخان مفرقعة ( الأ يمو ).
اليوم، في ظل تهديدات عديدة ، تطرق بشدّة ، ابواب العراق والعراقيين ، بعضها حقيقي وملموس، كالإفلاس الناجم عن فساد مروّع وتبديد احمق وادارة جاهلة . والتقسيم وما بلغه التخطيط له والاعداد لفرضه من مراحل متقدمة .الى عودة قوات الاحتلال ، والترويج لإعادة الامور الى ( نصابها الصحيح ) في ظل حرابها المشرعة وتدخلها الفظ ( كتب احد رؤساء الصحف السابقين، على صفحته ، امس ، وفيما يشبه الاستفتاء : أيهما تفضل بقاء هذه الحكومة المنتخبة " الوطنية " ، أم عودة الأمريكان وتشكيل حكومة من شخصيات مستقلة شريفة نزيهة وكفوءة ...؟؟)،وانتهاءا بتهديدات انهيار سد الموصل ، عن حالة مزمنة كمنتْ في رحمه او بفعل فاعل....الخ، ناهيك عما لا نعلمه من خفايا قد تُطبخ في العتمة ، تُوجّه الاضواءُ الى زاوية اخرى من مسرح الحدث، وتستثار العقول الضعيفة وتستهوى المدارك الرثة و وتستنهض الاقلام الفارغة : عاشقان يتعانقان ويتبادلان القبل في الهواء الطلق ، وفي مكان عام ، هو حديقة الزوراء، فما المشكلة ياناس ؟ وما هي مصيبة هذا المجتمع الاحمق ، وهذا الدين الظالم ؟ وتدور عجلة " ناشطي " الثقافة الفيسبوكية : " لايريدون الحب والزهور ، بل يريدون الحرب والدماء " و " قبلة حديقة الزوراء تثير اللطامين وقادة العصابات " و " الله ! هذه هي الحرية والكرامة الانسانية ..." بل " شاب وشابة يحبان بعضهما ، يثيران هلعا واستنفارا امنيا " وهكذا ، مثلما يحصل في كل مرة ، نشهد خلط اوراق حقيقي :الحب والكرامة والحرية يتركزان في ممارسة فردية شاذة وتجاهل تام لكل المعاناة والمظالم والمطالب الشعبية والوطنية المريرة، مع مقدار هائل من الشتائم والكراهية والجلد الموّجه نحو الذات والهوية وتكوينهما التاريخي وحالتهما الراهنة !
لا احد معنيّ بتفحص الصورة وقراءتها مليا . صورةٌ مصنعّةٌ لهذا الغرض. ليس فيها من العفوية والبراءة اي نصيب ، وممارسة استفزازية في الوقت الخطأ والمكان الخطأ . صورةٌ لا أغالي ، كثيرا ، اذا قلت انها مرسومةٌ ومعّدةٌ بعناية وربما مدفوعة الأجر لمخاطبة وعي سطحي ساذج ، أدمن التذمر والتشكي والشتيمة لكل ما هو (هنا )، والتبجيل والاحترام والافتتان بكل ما هو ...(هناك) . وعيٌ ضحلٌ لا يتوقف طويلا ولا يسأل مليا عّما اذا كانت هذه الممارسة مقبولة في مكان عام في اليابان مثلا وهي بلد لايمكن مقارنته حتى مع امريكا لا في المنجز العلمي او التنظيم الاجتماعي ولا العمق الحضاري؟
رَكبَتْ الى جانبي ، ذات مرة ، من اواخرالتسعينات ، في طائرة أقلعتْ من دبي الى عمّان ، مرورا ، بدمشق، سيدة صينية . عرفتُ من خلال حديثها ، وكانت تتكلم الانكليزية وبعض العربية، انها معاونة الملحق الثقافي لجمهورية الصين في دمشق . تحدثنا عن الاديان والعادات والتقاليد، ولما اخبرتني انها امٌ لثلاثة شابات وان دينها هو تعظيم وعبادة الاسلاف سألتها فيما هو متاح لبناتها الشابات من الحريات مما هو متاح لمثيلاتهن في الغرب، وفق تعاليم دينها وتقاليد مجتمعها وعاداته، وفيما اذا كنّ يقررن امورهنّ بمحض ارادتهن وبحرّية ، فأجابت بالنفي وشرحتْ لي ما جعلني لا اجد اي فارق بينها وبين اية ام عراقية في علاقتها ببناتها....
زبدة القول هنا ، ان امرالقيم والممارسات الاجتماعية والثقافية ، لا يرتبط بالدين والجماعات الدينية فقط ، ولا يتوقف عليها ، وانما تنتجه وتعممه وتجذّره البنى التاريخيه ومحتواها الاقتصادي والاجتماعي ، وانها تتغير بتغير هذه البنى وتتحدث بتحديثها ، كما انها لا تفرض من الخارج بمحض ارادة هذا الحاكم او تلك الجهة او بنشاط اعلامي او صراخ ثقافي ، وبين ليلة وضحاها ، انما هي نتاج اجتماعي تاريخي يمكن تغييره فقط بتغيير ، حقيقي ، يمس القاعدة الاجتماعية التي تصدر عنها ، بدرجة اساسية ، كل القيم ومنظومات الاخلاق،بما في ذلك الدينية ، التي نحسبها نهائية وسرمدية ، وهي غير ذلك ، اذ اننا نلمس ، بوضوح ، فروقا مهمة بل وجوهرية ،بين ثقافات قومية يوحّدها الاسلام . فشتان بين قيم وتقاليد المجتمع اليمني اوالخليجي او السعودي وبين قيم وتقاليد وممارسات مثيله التركي او الايراني او الماليزي ، او حتى شقيقه المصري ناهيك عن السوري او التونسي ، فحتى العروبة والاسلام هنا ، تكتسب محتوى وصيغ مغايرة ومتمايزة بتمايز المجتمعات ومستوى تطورها التاريخي ، وحرّي بنا ، اذن ، ان نحارب و ، باستماته ، من اجل استقلالية سياسية حقيقية تمكننا من اتخاذ قرارنا وحفظ وحدة بلداننا . وسيطرة وطنية على الثروات تجعلنا قادرين على التصرف بها وفق متطلبات البناء الاقتصادي الفاعل والمستدام ، آنذاك سنمسك بحريتنا الحقيقية ونشيد بنائنا القيمي على نحو من الاخذ والعطاء والتلاقح الانساني المنتج والثر بدلا من ان نجد في قميص " حسون الامريكي " المبرقش ، بديلا ثقافيا ، او الدفاع عن حقوق المثليين كفاحا ، او التصفيق لقبلة " عشاق " الزوراء تحديا وانجازا !









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران