الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعر الرّومنطيقيّ آدميّ شقيّ

محرز راشدي

2016 / 2 / 8
الادب والفن


في هذا الإطار سيقع إفراغ النّبوّة من الشّحنة المثاليّة تماشيا مع تحوّل المقام، إذ أنّ الانتقال نزولا من السّماء إلى الأرض سيوازيه تغيّر في هيئة الشّاعر- النّبي وصورته، وتبدّل في المعاني الشّعريّة وكيفيّات بنائها. بل سيقع بعث سرديّة السّقوط من جديد فنكون إزاء سقوط النبي prohète) du Tombe (، فصلب النّبي) prophète du Crucifixion ( وبالتّالي سبي أو نفي الكاتب الرّومنطيقي (Exil de l’auteur romantique). بما يعني أنّ النّبوّة تجربة دراميّة منغرسة في هموم المجتمعات البشريّةّ، ناهضة بدور في ذلك وهذا هو العمق الإنساني للنّبوة بوصفه وجودا متقوّضا أو قابلا للتّقويض وعالما ساقطا في الانحطاط. ومن ثمّ تنكشف منزلة الإنسان المهتزّة والمسربلة بالنّقصان والمركوزة في تناقضات المعيش اليومي، ويمكن اعتبار «الشّاعر الحقيقي هو الكائن الّذي يلوح مختارا من الأعلى، من طينة فوق- طبيعيّة [...] و مقدّر له بالتّألق و العذاب هنا في الأدنى» . وفي هذا المنحى، نعتقد أنّ سقوط الشّاعر- النّبي هو محاكاة خلاّقة لطراز السّقوط كما تبنّته الأساطير النّشكونيّة عندما أعلنت حركة الإنسان الهابطة عن هبوط في المنزلة، وحملت على الشّعور بالاجتثاث والاقتلاع أو الوجود المنبتّ، وكأنّ عنصر التّراب الّذي منه استوى الإنسان قد انقلب طاقة جاذبة إلى الأسفل، ومفتاحا للشّقاء. وبعبارة أخرى « الحركة المتّجهة إلى أسفل هي الحركة التّراجيديّة، فعجلة الحظّ تسقط من البراءة إلى الخطيئة ومن الخطيئة إلى الكارثة» .
و لكن يمكن أن نتأوّل شقاوة الشّاعر- النّبيّ في السّياقات الكبرى- سياق الحداثة الغربيّة سليلة العقل الحديث الّذي انقلب على العالم القديم المسيحي، وسياق الواقع العربي الموصوف بالوقوع تحت نير الاستعمار والجهل والانحطاط وغياب الرّؤية- بوصفها سدّا لشغور روحي خلّفه انهيار الكون المسيحي الرّوحي، وقيادةً لمجتمعات عشّش فيها الجهل ولم تدر طريقها إلى الحرّية والخلاص. فشقاء الأنبياء- في جانب منه- نتيجة طبيعيّة للتّضحية من أجل الآخرين، لا سيّما أنّ النّبوة- أيّة نبوّة- دائما ما تعبّر عن أزمة معيّنةّ، وتكون تجربة على المحكّ، فـ« في العتمة يولد "المنقذ" الّذي يتميّز عنّا ببصيرة ثاقبة، تكشف الطّريق إلى المستقبل، وتهدي التّائهين إلى الأمام، وإلى الأعلى» .
والشّاعر الحريّ بالإقناع هو المنشبك بهموم شعبه، والمنهمّ بقضايا عصره الحارقة، لأنّه- قبل كلّ شيء- كائن تاريخيّ، مورّط في الاجتماع البشري، وفي الشّروط الموضوعيّة لذلك الاجتماع، وحينئذ ستفهم كلّ حركة هروبيّة صادرة عنه على أنّها ضرب من الانفصام في الشّخصية الّذي يعمّق الهوّة بين المثقّف (الشّاعر) ودائرته الثّقافية. ولقد اعتبر هيدغير أنّ الانهمام (souci le) له خصيصة التّكليف الذّاتي ، بمعنى أنّ الشّاعر المنهمّ بطبقات المشاكل المجتمعيّة قد كان كذلك عملا بما يحتّم الضّمير والواجب، ولم يكن بضاعة في سوق العرض والطّلب. وهذا يقودنا إلى الحديث عن أعمال أدبيّة تحاكي الواقع، بل عن منجزات شعريّة قد ضحّت بجماليّتها لصالح الالتزام بقضايا اجتماعيّة وسياسيّة بأن يقع إنتاج القصيدة المتعدّية الّتي تحوّل المراجع الواقعيّة إلى مراجع شعريّة. ولنا في "الخمائل" أمثلة تدعّم هذا الرّأي منها قول الشاعر: (الكامل)
وَاهْجَرْ أَحَادِيثَ السِّيَاسَةِ وَالأُلَى ҉-;---;-- يَتَعَلَّقُونَ بِحَبْــــــلِ كُلِّ سِيَـــــــاسِ
إِنِّي نَبَذْتُ ثِمَارَهَا مُذْ ذُقْتُـــــــهاَ ҉-;---;-- وَوَجَدْتُ طَعْمَ الغَدْرِ فِي أَضْرَاسِي
وَغَسَلْتُ مِنْهَا رَاحَتِي فَغَسَلْتُـــهَا ҉-;---;-- مِنْ سَاِئرِ الأَوْضَارِ وَالأَدْنَـــــاسِ
إذ يتورّط الشّاعر في الحدث السّياسيّ، وتصير السّياسة معنى شعريّا من معاني القصيدة المتعدّدة، فتتّجة العلامة الشّعرية إلى البيان والشّفافيّة وتصبح حاملا لوظيفة إبلاغيّة لا إيحائيّة. ناهيك أنّ هذه الأبيات الّتي اقتطعنا فيها نبرة توجيهيّة وظيفتها تعليميّة محضة، ما يجعل شحنة الانفعال والعاطفة تتراجع نتيجة تواتر الأفعال والإحالات بما هي غوص في تفاصيل المعاش؛ فنجد أنفسنا أمام قصيدة تتقدّم فيها المنفعة على المتعة والإخبار على الإنشاء، ومن ثمّ التّعدية على اللّزوم.
ومن الأمثلة الأخرى الدّالّة على انهمام الشّاعر بتناقضات المجتمع قوله: (المتقارب)
كُلُوا وَاشْرَبُوا أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ ҉-;---;-- وَإِنْ مَلَأَ السِّكَكَ الجَائِعُــونْ
وَلَا تَلْبَسُوا الخِزَّ إِلَّا جَدِيدًا ҉-;---;-- وَإِنْ لَبِسَ الخِرَقَ البَائِسُــونْ
وَحُوطُوا قُصُورَكُمْ بِالرِّجَالِ ҉-;---;-- وَحُوطُوا رِجَالَكُمْ بِالحُصُونْ
هذا الشّاهد- وقد اصطفيناه من قصيدة تنتظمها فكرة التّناقض الصّارخ في المجتمع- دليل على الطّابع الاجتماعي للنّبوّة، وهو حال كلّ الأنبياء الّذين انتصروا للمساكين والمحرومين، وعنوانهم الأبرز المسيح. وقد لاحظنا حضورا متخفّيا لـ« مثل الغنيّ الغبيّ» في قصيدة "كلوا واشربوا" الّتي اهتدينا من خلالها إلى صلة النّبوّة بتحقيق مبدإ العدالة، يضيق المقام عن تفصيل القول فيه. فالتّجربة الرّومنطيقيّة إذن لم تنصرف كلّيا إلى المثاليّة، وبالرّغم من غلبة الانفجار الغنائي والانثيال العاطفي عليها فلا يمكن اعتبارها تجربة مرضيّة أو بكائيّة على الإطلاق، فهي، فعلا، كثيرا ما تعالت على سيرورة التّاريخ ونظرت إلى الواقع نظرة مثاليّة، ولكن يحدث أن تخترق التّاريخ وتتلوّن بأشياء الواقع، و« بذلك تتجذّر الكتابة الرّومنطيقيّة في مرجعها الحيّ، فتستجيب الذّات الكاتبة إلى المأساة الاجتماعيّة» . وهذا ما أدّى فنّيا- كما رأينا- إلى تحوّل من دالّ شعري بالكاد تتحقّق فيه الدّرجة صفر من الإحالة إلى آخر منهك بالمرجعيّة الحيّة. فتضمر- تباعا- الطّاقة التّخييليّة في القصيدة، بتقلّص مساحة الكثافة الجماليّة، كما ترتكس نغميّة القصيدة إلى حدّ كبير، ويقترب الخطاب الشّعري من الخطاب النّفعي خصائص ووظائف ولو نسبيّا.
وفي هذا السّياق- طبعا- كفّ إنتاج صفات الكمال المتناسبة مع ملكة توق الشّاعر الرّومنطيقي إلى تحقيق الاكتمال. بل بدلا من الإنسان الكامل سوف نتصدّى لآخر ناقص، وعوضا عن النّبوّة الخالصة سوف يقع تمثيل النّبوّة الهجينة الملطّخة بسموم العالم البشري الماثل في الفساد من أصله، وهذا الأمر سيعبّر عنه معجم الشّقاء بصفة خاصّة، وتحتضنه رؤية قاتمة سوداويّة بصورة أعمّ، نظرا إلى قصر نفس الشّاعر الرّومنطيقي، وعدم قدرته على خوض الصّراع إلى منتهاه، والذّهاب بإرادة التّغيير إلى الإنجاز والممارسة.
ولذا، في حين يفترض أن ينتشل الشّاعر رفاقه من الشّقاء، سرعان ما تفتضح هشاشته، ويتبدّى صاحب وعي شقي؛ يقول علي محمود طه: ( المديد)
لاَ تَفْزَعِي يَا أرْضُ: لَا تَفْرَقِي
مِنْ شَبَحٍ تَحْتَ الدُّجَى عَابـــِرِ
مَـــــــــا هُوَ إِلَّا آدَمِـــيٌّ شَقِي
سَمُّوهُ بَيْنَ النَّاسِ بِالشَّاعِـــــرِ
يبدو أنّ حساسيّة الشّاعر المفرطة، و ركوبه حركة قصَويّة، متّجهة و مجنّحة، هي السّبب الّذي يجعله نبيّا حظوظ الإخفاق منه أوفر من النّجاح في أوّل منازلة للواقع. فهو في الأصل من سكنى المدن الفاضلة والأبراج العاجيّة الّتي تتناقض مع الموجود كلّ التّناقض. هذا الإخفاق سيقع تمثيله بصورة الطّائر مهيض الجناح: ( الكمال)
جَنَّحْتَنِي كَيْمَا أَطِيرَ فَلَمْ أَطِرْ ҉-;---;-- هَيْهَاتَ إِنَّكَ قَدْ طَوَيْتَ جَنَاحِي
فالشّاعر- النّبيّ أضحى حاملا لإعاقة أبديّة، هي محمل الطّين والتّراب، فورة الرّغبوي فيه، واستنزاف الرّوحاني. ومن ثمّة،عُلّق الأمل، وأُجّل الرّجاء، وتعمّق الانفصال عن الوحدة الأولى، وانطفأت شمعة النّبيّ ليدخل هو ذاته السّديم وانعدام المعنى. ولكن يمكن لانعدام المعنى أن يحفّز على قول الشّعر بحثا عنه، وجعل القارئ يرتق ما تفتّق، وينظم ما انفرط من المعاني المضمرة أو الممحوّة الّتي مثلها مثل نبوّة شاءت التّأسيس للمثال فأسّست للمستحيل قولا وإنجازا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة


.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات




.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي