الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضحايا التطهير العرقي في العراق-5

جعفر المهاجر

2016 / 2 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


ضحايا التطهير العرقي في العراق-5
جعفر المهاجر.
جدل على صفيح ساخن إحدى مدارس الكوت:
في ليلة من ليالي كانون الثاني الشديدة البرودة وقبل نشوب الحرب العراقية الإيرانية بأشهر. حضرت ثلاث سيارات نقل كبيرة إلى منطقة الشرقية في الكوت بعد منتصف الليل، ونزلت منها قطعان من الأمن الصدامي الوحشية وهي متعطشة لأنتزاع الأطفال والنساء والشيوخ من بيوتهم التي بنوها بعرق جباههم.وبدأ فصل همجي آخر من سلسلة حملات التطهير العرقية والطائفية السوداء. وخلال ساعة من عمر الزمن تكدست تلك السيارات بالأرقام البشرية المنهكة المذعورة ، وتنقلت أحداق الأطفال المضطربة يمنة ويسرة عسى وكأنها تتساءل عن مصيرها في هذه المأدبة الصدامية الرهيبة .وكأنها تنتظر معجزة تنقذها مما هي فيه. تم سرقة مايمكن سرقته من قبل العصابات الصدامية . وتحركت تلك السيارات التي حشرت فيها الأجساد البشرية ولا يغطيها سوى ملابسها وأخذت تنهب الأرض نهبا ، وتشق سكون الليل البهيم بمحركاتها متجهة نحو الحدود الإيرانية العراقية. ولم يكد يلوح أول خيط للفجر حتى انتهى كل شيء وباتت تلك البيوت تصفر فيها الريح . وتم رمي تلك العوائل على بعد عدة كيلو مترات من الحدود وصاح بهم جلاوزة صدام أمشوا في هذا الطريق حتى تصلوا إلى (أعمامكم ) ومن يحاول الرجوع سيتم رميه بالرصاص. فمات العديد من كبار السن بين الوديان ، وأجهضت النساء الحوامل من شدة التعب ، وحين وصلوا إلى الأراضي الإيرانية بعد تلك المسيرة الدامية لم يكونوا أبدا موضع ترحيب من السلطات الإيرانية، وأطلقت عليهم إسم ( الضيوف الغير مرحب بهم ) ووضعتهم في مخيمات مهترئة على حافة الحدود تحت أقسى الظروف المناخية. وكانت تلك الحملة آخر الحملات الجماعية على حد علمي في محافظة واسط. اتجهتُ إلى المدرسة التي كنت أعمل فيها معلما في الصباح التالي، وموقعها في منطقة دور السلام وكان إسمها ( القدوة ) ثم تحولت بعد ذلك إلى إسم ( مدرسة القائد المؤسس ) تيمنا بإسم ميشيل عفلق. وأنا في طريقي إلى المدرسة تضرعت إلى الله أن ينتقم لأولئك المظلومين الذين كانوا أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وبعد ساعتين من الدوام انبرى أحد المعلمين الصداميين وأحتفظ بإسمه لنفسي بالحديث عن (بطولات بطل الإجرام صدام ،وأمجاد حزب البعث الفاشي الذي نظف الوطن من (الطابور الخامس) وشتت شمله والذي تجسد في عمليات التسفير إلى إيران. و(كانلابد من تطهير أرض العراق من رجس هؤلاء الإيرانيين وهذا ماأقدمت عليه قيادتنا الحكيمة بزعامة بطل العروبة والإسلام رئيسنا الغالي صدام) وكان ادعائه متماشيا مع ذلك ذلك الجو المشحون بالرعب الذي فاق كل الحدود. وسلسلة الإدعاءات الإفترائية الظالمة التي روجها الإعلام الصدامي عن تلك الشريحة .وكانت جريدة (بابل ) التي يترأس تحريرها إبن الطاغية المقبور عدي قد تصدرت تلك الافتراءات وكتب عدي ياسم مستعار سلسلة مقالات تتهم الأكراد الفيليين بأنهم (هنود) و(غجر) لوثوا تربة العراق وشتى الاتهامات التي لاأصل لها تأريخيا ولا جغرافيا وتتنافى مع الخلق القويم . وألف مدير الأمن العام الأمن الصدامي المدعو ( فاضل البراك ) كتابا أسماه (المدارس اليهودية والإيرانية في ألعراق) تزلفا للطاغية صدام لكن الأخير كافأه بإعدامه.
وحين انتهى ذلك الذنب الصدامي من كلامه الذي تفوه به أمام كل المعلمين وكنت أحدهم أنبرى له المعلم الكردي ( حاجي جميل يونس ) أبو( هيوه )وهو من أهالي أربيل حيث كان مبعدا سياسيا من قبل السلطات ال البعثية إلى محافظة واسط .فألقمه حجرا وقال له بالحرف الواحد وبحدة مشحونة بالغضب (أن هؤلاء الأبرياء المساكين ليسوا طابورا خامسا كما تدعي . إنهم عراقيون أصلاء ويثبت التأريخ ذلك وربما هم أكثر عراقة منك ومن أمثالك رغم أنفك وأنت لست أكثر وطنية منهم بعد أن ضحوا كثيرا من أجل العراق وخدم أبناءهم جنودا في الجيش العراقي. وعليك أن تقف عند حدك، وتعرف حجمك وسيعود هؤلاء المظلومون يوما ما مرفوعي الرؤوس إلى وطنهم مهما طالت مأساتهم).
وهنا إصفر وجه مدير ألمدرسة وظهرت عليه علامات الاضطراب. وطالب بوقف هذا الجدال الساخن الذي يجب أن لايطرح في مؤسسة تربوية . والدولة هي أب للجميع وتعرف ماذا تعمل.) وخيم سكون مطبق على غرفة المعلمين بعد أن تجمع عدد من تلاميذ المدرسة أمام الغرفة وطالبهم أحد المعلمين بعدم الوقوف والانتشار في باحة المدرسة. ثم طلب المدير أن يتعهد كل منهما بعدم فتح هذه المواضيع مستقبلا. ويذهبا إلى البيت ولا يعودا إلا في اليوم الثاني. وإن تكرر ذلك فسيخبر السلطات الأمنية فورا. ولا يمكنني أن أنسى شجاعتك تلك ياأبا هيوه . ولا أدري هل أنت مازلت حيا ترزق؟ وإذا كنت كذلك أتمنى أن تقرأ رسالتي وترسل لي عنوانك بعد أن غادرت مدينة الكوت في نفس الليلة بعد أن أوشى بك ذلك الصدامي الجبان إلى الجهات الأمنية.
لقد بقي من لم يتم تسفيره من تلك العوائل تحت مطرقة الخوف والرعب الشديدين. حيث أخذ النظام يضيق الخناق عليها إقتصاديا وثقافيا واجتماعيا. ويحرمها من أبسط حقوقها المدنية وفق خطة مبرمجة ومنتظمة تقودها المخابرات الصدامية بالتعاون مع اللجنة الأولمبية العراقية التي كان يترأسها المقبورعدي الإبن الأكبر لصدام .وبين آن وآخر تُقتحم دور تلك العوائل من قبل أشخاص دون سابق إنذار بحجة التفتيش عن الأسلحة. ويتم جلبها إلى مديرية الأمن في الليل طبعا لأن البعثيين يحبذون إرتكاب جرائمهم دائما حين يخيم سكون الليل على المدن. ويخضع الآباء والأمهات لاستجوابات طويلة تتخللها أسئلة استفزازية مثل هل لديك أقارب هُجٍروا إلى إيران ؟ وكم عدد أولادك ؟ وما هي أسماءهم ؟ وفي أية مرحلة دراسية يدرسون ؟ وما اسم عشيرتك ؟وما هو اسمك الرباعي والخماسي والسداسي ؟والكثير من الأسئلة الأخرى. لقد كانت بحق وحقيق عملية موت بطيئ لهذه الشريحة المظلومة.
على أثر تلك الحملة التهجيرية الظالمة ترأس مسؤول حزب البعث في الكوت ومعه محافظها اجتماعا لكوادر الحزب وجلسا على كرسييهما متباهيان ومتفاخران بتلك العمليات الظالمة والوحشية حيث قال مسؤول الحزب ( أن طرد هؤلاء الإيرانيين الذين باتوا يشكلون مصدر خطر على شعبنا وأمتنا العربية هو جزء من نضال حزبنا ضد القوى الشعوبية العميلة. وهو انتصار كبير تسجله مسيرتنا النضالية الرائدة والمتميزة على طريق الوحدة العربية التي يقودها قائد الأمة وأملها الوحيد الرئيس القائد صدام حسين حفظه الله ورعاه). وقد نشرت جريدة الثورة الناطقة باسم حزب البعث هذه الأقوال بعناوين بارزة في صفحتها الأولى، ورفع رئيس تحريرها (صلاح المختار) باسم منتسبي الجريدة برقية ولاء مطلق إلى (القائد الضرورة) صدام حسين ذكر فيها (أن الجهاز الحزبي سيبقى عيونا ساهرة لحماية الوطن من العملاء الشعوبيين وهم رهن إشارة سيادته،ومستعدون للقيام بأية مهمة تسند إليهم من قبل القيادة الحكيمة وعلى رأسها البطل الهمام والقائد التأريخي الشجاع صدام) .
ومن المفارقات الغريبة في دولة البعث إني إلتقيت يوما بأحد المصريين الذين أخذوا يتوافدون على العراق في تلك الأيام وكان مستبشرا وهو في غاية السعادة فقلت له ماالذي يسعدك أيها الكدع؟ كيف لاتريدني أن أفرح وقد أصبحت عراقيا قلت له كيف ؟ فقال لقد منحتني الدولة العراقية الجنسية فسألته هل وجدت صعوبة في الحصول عليها ؟ فأجابني على الفور كيف أجد صعوبة ورئيسنا صدام حسين حفظه الله ورعاه.!!!)
لقد أصبح الحصول على وظيفة لأي مواطن في ظل تلك الأجواء المكفهرة أمرا مستحيلا بعد أن بدأت نذر الحرب تلوح في الأفق. واشتد الخناق على الشعب العراقي من قبل النظام، وبدأ يدق طبول الحرب. ووقعت الحرب في ضحى الثاني والعشرين من أيلول عام 1980 بتشجيع واضح من سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية بدخول عشر فرق إيرانية في عمق الأراضي الإيرانية وتم قصف المطارات الإيرانية على الطريقة الصهيونية في الخامس من حزيران عام 1967م وبتأييد عربي شامل حيث فتحت السعودية والكويت وبقية مشايخات الخليج خزائنها لصدام لتحويل الشعبين العراقي والإيراني إلى وقود لتلك الحرب. وأخذ المسؤولون العرب ونخبهم من دعاة القومية يتقاطرون على بطل القادسية ويتحفونه بقصائد جعلت منه نصف إله، وعدت بعشرات الآلاف، وكان الشعب العراقي يدفع الثمن من دماء أبنائه يوميا بالآلاف وعلى مدى ثمان سنوات . فتدهورت العملة العراقية. وأنهارت مقدرات العراق الإقتصادية الضخمة، وتزايد عدد الفقراء والعاطلين على العمل ، وتدهورت العملية التربوية وتراكمت الديون الثقيلة التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات، وتكائر الأيتام والأرامل في مجمل مساحة العراق، وحدثت مآس كثيرة تقشعر لهولها الأبدان ولايمكن حصرها . ولا أريد أن أتوسع وأذكر تفاصيل تلك الحرب بعد أن ذكرت كل شيء عنها في كتابي ( حرب وسجن ورحيل.)
إنني إذ أدون هذه الحقائق التي شاهدتها بعيني ولم أكتب حرفا واحدا غير حقيقي سوى الدفاع عن المظلومين من أية قومية أو دين كانوا. بعد أن تحول كل من تهجر من وطنه كالنبتة الطيبة التي اقتلعت من جذورها بصوره تعسفية وتم رميها في بيئة غير بيئتها وتربه غير تربتها . إنها تمثل صفحة سوداء في تأريخ العراق المعاصر. ولا أبالغ إذا قلت أن الكثير من العوائل العربية التي جاورتهم لعشرات السنين. واختلطت بهم وعلى رأسهم كتاب مرموقون ، وأساتذة جامعات ، وتجار قد حزنوا كثيرا على المأساة التي جرت على هذه الشريحة الطيبة من الشعب العراقي دون أن ترتكب أي ذنب بحق الآخرين. وظلم الإنسان لأخيه الإنسان في أي مكان أو زمان هو اعتداء سافر على الحقوق الإنسانية التي أقرتها الشرائع السماوية ولوائح حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة. ولم يطرق سمعي ولا قرأت في كتاب أن دولة ما قامت بهذا العمل العنصري وانتزعت مواطنيها من جذورهم بهذه الصورة الوحشية الهمجية. وتم رميهم على حدود دولة أخرى إلا ذلك النظام الصدامي الذي استباح كل القيم، وداس على كل المقدسات، وأهان الكرامة الإنسانية، وملأ العراق بالسجون والمقابر الجماعية باسم الوحدة والحرية والإشتراكية التي اتخذها كشعارات مهلهله بائسة ليخفي عنصريته المقيتة ، ووجهه الطائفي القبيح خلفها فكانت الوحدة تمزيقا لوحدة الأمة العربية والحرية سجونا تحت الأرض. وفوقها يزج فيها آلاف الأحرار والشرفاء. فتحول الوطن إلى سجن كبير تكتم فيه الأنفاس، ويعج بالمقابر الجماعية طولا وعرضا . أما الإشتراكية فأصبحت أموال الشعب العراقي رهينة بيد الحاكم يهبها لمن يشاء في كل مؤتمر أو مربد شعري أو مهرجان بابلي يهرول إليه الأعراب ليملأوا جيوبهم بالمال الحرام على حساب الطبقة المظلومة من العراقين وفي مقدمتهم الكورد القيليين .- يتبع.
جعفر المهاجر.
9/2/2016م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرات في لندن تطالب بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة


.. كاميرا سكاي نيوز عربية تكشف حجم الدمار في بلدة كفرشوبا جنوب




.. نتنياهو أمام قرار مصيري.. اجتياح رفح أو التطبيع مع السعودية


.. الحوثيون يهددون أميركا: أصبحنا قوة إقليمية!! | #التاسعة




.. روسيا تستشرس وزيلينسكي يستغيث.. الباتريوت مفقودة في واشنطن!!