الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشباب والدولة: الفيل والعميان

محمد السعدنى

2016 / 2 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


فى كتابه "المقابسات" ذكر أبو حيان التوحيدى تحت عنوان "حكاية الفيل والعميان" أن نفراً من العميان انطلقوا إلى فيل، وأخذ كل واحد منهم يتحسسه بيده، فأخبر الذي مس القدم أن خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهة بأصل الشجرة وجذع النخلة، وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته شبيهة بالهضبة العالية والربوة المرتفعة، وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط عريض يمكن طيه ونشره. ذلك أن كل واحد منهم قد وصف بعض ما أدرك، وتمسك كل منهم برأيه وراحوا يتجادلون، ويقسم كل منهم أن ماصوره هو الحقيقة وماعداه كذب واجتراح.
فإذا أعملنا الفكر فيما صدر عن هؤلاء النفر، فلن تجد أحداً منهم محقاً تماماً ولامخطئاً بالكلية. إذ الحقيقة أن كل منهم كان محقاً فيما وصف غير كاذب، وهو أيضاً غير محيط بالحقيقة إلا فيما لمسه وأدركه منها. إنها إشكاليات الإدراك والصورة الذهنية المسبقة عن الحقيقة وتهيؤاتها لا واقعها وماهيتها، وأحسب أنها كانت مشكلتنا فى تاريخ الثقافة والفكر والعلم والأدب والسياسة، ولاتزال هى نفسها مشكلتنا حتى يومنا هذا. المقابسات واحد من ذخائر الفكر فى مكتبتنا العربية، أنتجه واحد من أبرز أعلام الفكر العربى، أبو حيان التوحيدى، كما أنتج من أمهات الكتب: "الإمتاع والمؤانسة" فى العصر العباسى بما اعتراه من اضطرابات سياسية واجتماعية كادت تعصف بالوجود العربى فى دولة الخلافة.
قصة "الفيل والعميان" قصة موحية، ولها مدلولها إذا ما أسقطناها على الأحاديث المتواترة فى محيطنا السياسى العام وإعلامنا بجهله ونزقه وقصور رؤياه، فمنذ أن تداخل رئيس الجمهورية مع برنامج عمرو أديب بشأن مشكلة الألتراس وتعليقه الجرئ الشجاع عن عدم قدرة الدولة على فهم الشباب والحوار معهم، وتحول الأمر إلى سامر منصوب يضرب فيه المتخصصون والمؤهلون بسهامهم التى تصيب مرة وتخيب مرات خصوصاً عندما تداخل فى الأمر كثيرون ممن يتصدرون الواجهات وربما كانت حاجتهم أكبر ليستكملوا تعليمهم قبل التصدى لمثل هذه الأمور الحساسة، ولأنهم كانوا فى معظم مايطرحونه على الرأى العام كما الدبة التى قتلت صاحبها من حيث أرادت حمايته والزود عنه. وبعيداً عن موقف القانون ومحاذيره والموائمة السياسية ومقتضياتها فى طرح الرئيس، الذى أحسب انه جاء مضطراً إليه لضعف أداء أجهزته ووزرائه، وعدم كفاءة كثيرين ممن حوله، فإن شجاعة الرئيس وواقعية طرحه قد أعطت إنطباعاً لدى العامة قبل الخاصة بأن جهاز الدولة المترهل وإعلامها المتعجل وكثيرين من المتنطعين فى محيطنا العام هم أشبه مايكونوا بالعميان فى قصة صاحبنا، إذ جاءت معالجاتهم للأمر مبتسرة قاصرة غير قادرة على الإلمام بحدود الحقائق فى أزمة الشباب مع الدولة، ولا كيف ينبغى الحوار معهم وتجسير الفجوة بين أفكارهم وأشواقهم وطموحاتهم ورؤية الدولة والتزاماتها التى تحاصرها مشكلات الداخل والخارج وكأنها فى حرب وجود لا حرب ضد الإرهاب والتخلف والظلام وحدهم. فراح كل منهم يوصف الأمر جزئياً كما لمسه سواء من قدم الفيل أو ظهره أوأذنه وانبساط خلقته، وتناسوا أن للشباب خصوصية لايعى أبعادها إلا من تعامل طويلاً معهم، ومن عاش وسطهم وتقلب فى نفس مراحلهم، أو كان طرفاً فى حوار وتفاعل وأخذ ورد مع الدولة حينما كان فى مثل أعمارهم وطموحاتهم، وفى نفس خندق المعارضة لتوجهات الدولة فى مراحل عمرية مماثلة. إذ لايعرف الشوق إلا من يكابده.
الشباب ياسادة يشعر باغتراب عن وطنه وأنه مستبعد ومهمش وغير مرحب به، وسواء كان لدى البعض منهم حق فيما يدعونه أو يرونه أو حتى يتوهمونه إلا أنه ما أصعب شعور الغربة داخل وطن تحبه وتتماهى معه وتضحى من أجله، وكما قال صاحبنا أبوحيان التوحيدى فى "الإمتاع والمؤانسة": "أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه"، فكيف أوصلنا الشباب إلى أن تكون وجوههم نحو الحائط ؟ ببساطة لأن الدولة أوكلت أمورهم لمن هم ليسوا منهم أو على شاكلتهم أو لمن لايتفهمون مشاعرهم وأفكارهم ومنطلقاتهم.
الشباب يرفض الوصاية والسلطة الأبوية، والدولة تعاملهم ليل نهار بارتياب وعدم ثقة، وتضعهم تحت الوصاية ولا يجدون من يسمعهم ويتفاعل معهم، وإذا وجدوا من هو مؤهل لذلك يكون من خارج إطار الدولة وله أجندته التى يوظفها لاستغلال الشباب والإنحراف بآمالهم وطموحهم وربما دفعهم للإصطدام مع الدولة. وعندما يقترح الرئيس بمسئولية ووطنية إجراء حوار معهم، تصيغه النخبة المتنفذة حول الرئيس على أنه لابد من احتواء الشباب، أى ببساطة يفرغون مبادرة الرئيس من محتواها، وعندما يغضب الشباب تعاملهم الدولة بعناد ينزع للقهر والسجن والاستبعاد. ذلك أن بعض المسئولين لايستطيع التفرقة بين غضب الشباب الوطنى المنتمى وإحباطه وبين قلة من عديمى الأدب والإنتماء من مزدوجى الولاءات أو المغيبين والعدميين الذين لا أمل فيهم ولا رجاء.
نعم الشباب فيل تضخمت قضيته كما ترهل حجمه وتراكمت مشاكله، وهو يحتاج لمن يفك شفرة خلقته ويعرف خصائصه ويسبر حقيقته ويتكلم نفس مفردات لغته، ومن ثم يستطيع التعامل معه وكسبه لصالح مستقبل وطنه، لا أن يدفعه للبطش والإغتراب والتهور والإنكفاء، وهذا عين مايفعله كثير من مسئولينا ووزرائنا.
أذكر أن جيلى كان أكثر نزقاً وثورية وعناد، ولم تقابلنا الدولة بالتجاهل أو القهر، بل دخلت معنا فى حوار موضوعى وعقلانى، جاء سيد مرعى رئيس مجلس الشعب إلى الإسكندرية، كان ينزل فى "البوريفاج" أوفده الرئيس السادات للحوار مع قيادات طلاب جامعة الإسكندرية، مهد لها قبله الوزير محمد حامد محمود وأمين الإتحاد الإشتراكى الوزير عيسى شاهين فى لقاءات متعددة فى مجموعات صغيرة فى فندق سان استيفانوا القديم، ثم التقانا الرئيس السادات، واستجاب لكثير من مطالبنا، وسمح لنا نحن المشاغبين كما كانت تصنفنا أمن الدولة وقتها لحضور دورات معهد ناصر الإشتراكى، وحاورنا عن قرب وباستمرار الوزراء مفيد شهاب وكمال رفعت وعبد المحسن أبو النور وعبد الأحد جمال الدين وحسين كامل بهاء الدين والدكتور أحمد مرسى أمين مساعد الشباب باللجنة المركزية، وكانوا من الثقافة والدربة السياسية ما استطاعوا معه لإحتواء غضبنا وتقليل الفجوة بيننا وبين الدولة. إن كثيرين من قيادات هذه المرحلة مازالوا موجودون كقيادات جامعية أو كتاب ومثقفين وسياسيين، وتعرف أجهزة الدولة التى تصر على استبعادهم من المشهد العام أنهم القادرون على الحوار مع الشباب والوصول بهم إلى رؤية تجمعهم مع الدولة وقضاياها وأن تحولهم بهذا الحوار المفقود من قنبلة موقوتة إلى قوة دفع حول رئيس طموح ودولة تسعى للنهوض والتقدم. هذا وإلا نظل فى ثنائية الشباب والدولة: الفيل والعميان كما وصفها أبوحيان التوحيدى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته في جباليا ورفح بينما ينسحب من


.. نتنياهو: القضاء على حماس ضروري لصعود حكم فلسطيني بديل




.. الفلسطينيون يحيون ذكرى النكبة بمسيرات حاشدة في المدن الفلسطي


.. شبكات | بالفيديو.. تكتيكات القسام الجديدة في العمليات المركب




.. شبكات | جزائري يحتجز جاره لـ 28 عاما في زريبة أغنام ويثير صد