الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدث في قطار آخن -37-

علي دريوسي

2016 / 2 / 11
الادب والفن


تعدو في طرقات مجهولة هرباً من أريج الكوكايين، تْجتَاحُكَ أفكار راسخة في عمق روحك، تستغرب كيف لا تطفو مثل هذه الأفكار في بحر رأسك، وأنت أمام مكتبك مساءً أو صباحاً عندما تحتسي قهوتك!؟
تْجتَاحُكَ الأفكارُ من جديدٍ، تحاول أن تحكم قبضتك عليها كمن يحكم قبضته على ماء! تحاول أن تحرر نفسك من تصنيفاتها، أنواعها، أحجامها وتواتر ظهورها...
تسأل نفسكَ بعفويةٍ زائفة: ما العمل؟ كيف أحبسها في صندوق عجائبي!؟ مَنْ سَيُسجِّلُها لي؟
يأتيك الجواب: لا أحد!
ستعاود الأفكار حينها الانْعِتاقَ مِنَ السَّجَّانِ، مِنَ رأْسُك، سَتَخُونّكَ الذَّاكرةُ قَصِيرةَ الأَمَدِ، وأنت تعلم أنّ سّعتها الشائعة لا تَتَعَدَّى7±2 من المفردات،
وإذْ أَنْصَحُكَ باِقْتِناء مُسَجِّلاً صغيراً، الشيء الذي تعلمته ذات يوم من بقرة مرّت بجانبي تزين جيدها بجرسٍ جميلٍ، فأنا لا أمزح، تُعَلِّقَهُ في الرَّقَبَةِ، يحررك من سلطان خواطرك وتصير الرَكَّاض الحَكَّاء!


معك كل الحق حين تقولين: إمّا أنْ يكون الجمال في اللُّبّ حيث أَصالَة البُذُور أو لا يكونْ! هذا النوع من الجمال هو الذي أدعوه راجياً أن يسقط في حديقتي.

هناك ثمارٌ تحمل بذورها على سطحها مثل عبّاد الشمس، فتراها مغرورةً، جميلةً من الخارج، سطحية، غير مستقلة، ثنائية البعد، تُبدِّل ألوانَها حسب مشيئة الطقس، مقاومتها للشدائد ضعيفة، يَسهلٍ فرطُها مع أول صدمة...

هناك ثمارٌ تحمل بذورها في العمق، كأنّها أم تحمل جنينها، مثل بذور ثمار "الخوخ والدراق وكذا التفاح"، فتراها متواضعةً، لا ترغب بالظهور، جميلة دون أن تدعك تلحظها، ثلاثية البعد، لها لونها الواضح، أصيلةً، أساسيةَ، استناديةً، عميقةً، مقاومتها للشدائد قوية....

وهو الحال أيضاً في عالم ظواهر المعرفة والعلم والثقافة والفن والتحرر والنضال، هو الحال أيضاً في عالم الأوطان والدول... منها ماهو سطحيٌ، ظاهريٌ، شكليٌ، استعراضيٌ، سرعان ما ينتهي مع أول صدمة، كما هي أوطان الشرق العاطفية وحكوماتها الفاسدة... ومنها ما هو متجذرٌ، أصيلٌ، عميقٌ، أساسيٌ، لاينهار مهما توالت وتواترت الصدمات... كما هي أوطان الغرب العقلانية وحكوماتها الليبرلية...
وحدها البذور الأصيلة، وحدها الأوطان الحرة تمثل مخزناً للطاقة الفكرية والغذاء الروحي، ومنها تبدأ حياة جيل جديد، حياتنا.

"الوطن الحقيقي لا يدمره سرطان الخلايا الإرهابية والعصابات".
"الوطن الحقيقي لا تفتته شركة إعلامية مثل قناة تلفزونية، يسمونها جزيرة أو عربية، كما هو الأمر في الشرق".


ألمانيا، لمن لا يعرف هذا البلد!...
عملاق بمؤسساته، بقدراته الإنسانية والجمالية والصناعية
بلد قادر حتى على استيعاب هجرة الشعب الصيني!


ألمانيا، لمن لا يعرفها...
إمرأة حبلى بعلمٍ وثقافة ومال،
توزع الحب بالعدل على من يعمل،
فرص العمل على من يرغب،
لكلٍ حسب كفاءته وسعيه!...
إمرأة قادرة حتى على توزيع ثرواتها الخاصة بالعدل.


ألمانيا، لمن يرغب أن يتعرف إلى هذه المرأة...
فقط في ألمانيا تسقط الحواجز،
ينتَفي العسكر، لونه ومعداته،
ومع هذا هناك رجال تأكل الصَّوّان إذا اقتضى الأمر دفاعاً عن الوطن.


ألمانيا، لمن يرغب أن يعرف عنها...
في ألمانيا من مئة من الحائزين على جائزة نوبل!
في ألمانيا يتبرع الرأسمالي بثروته لبناء جامعة حكومية أو متحف!...
في ألمانيا يتبرع الفنّان بجوائزه لمعالجة الأمراض ومساعدة الجمعيات المدنية.
في ألمانيا وعي إنساني-فلسفي!... لا يفهمه الغريب!...
لا يشعر به حتى من يعيش فيها منذ عشرين عام أو أكثر!
مثلاً وعي المواطن العادي بأهمية خلق فرص عمل للآخرين...
وعيه بأهمية التنمية المستدامة...
بحقوق الجيل الثالث...


ألمانيا، لمن يرغب أن يعرف عنها أكثر...
يستقبل الألماني الهاربين من بلدانهم بالهدايا، بألعاب الأطفال والمعجنات...
يقدم لهم العلاجات والإسعافات الأولية دون أثر للفوضى.
يدعو أطفالهم لحضور المبارايات في أهم ملاعب كرة القدم العالمية.


في ألمانيا نظام متفوق لإدارة الأزمات الصغيرة والكبيرة.
فيها أقوى نظام تأمين صحي في العالم.
ثقافة التعاضد الاجتماعي هي السائدة...
في ألمانيا نواظم ونورمات لكل شيء...
الطريق طويل، طويل جداً...
ريثما يتعلم الوافدون الجدد لغة البلد.
ريثما يفهم الغرباء حقوقهم وواجباتهم في مجتمع ألمانيا الصناعي المعقد...
ريثما تنضج قدرتهم على التأقلم مع المدنية والغربة.


لن أعود، سأخون وطني كما قال الماغوط، وأنصحكم بالهجرة يا أصدقائي! "الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن".


"بعد حوالي ثلاثة أسابيع من بدء دورة تعلم اللغة الألمانية في معهد إنترداف في مدينة لايبتزغ، زار السيد ماتياس مخرج أحد المسلسلات التلفزيونية الألمانية، تلاميذ اللغة في المعهد.
باستخدام الإشارة، المفردات البسيطة وبمساعدة تلك المعلمة الفاتنة السيدة لودفيج شرح للتلاميذ بهدوء، بأنه وفريق عمله يرغبون بإنتاج ثلاث لقطات تمثيلية، مدة اللقطة الأطول لا تتجاوز الدقائق الخمسة، أما تمثيل اللقطات فسوف يتم في أحد المقاهي المعروفة في المدينة ذات الطابع التاريخي.
هكذا أخبرهم بأنهم يبحثون عمَّن يرغب في العمل بصفة ضيف أو كومبارس في المقهى، للمساعدة على خلق المناخ الطبيعي متعدد الجنسيات للقطة المراد أدائها... يجلس التلاميذ إلى الطاولات، يتناولون كأساً من العصير والماء، يتحدثون مع بعضهم البعض، أو ينظرون وكأنّهم يصغون... شرط المخرج الوحيد، انحصر في رجائه الراغبين والراغبات بالمشاركة أن يحضروا معهم جاكيت رسمي بعض الشيء لضرورة اللقطة التمثيلية.
فرح بعض التلاميذ للعرض المقدم، سجلوا أسماءهم، اتفقوا على اللقاء والذهاب في صباح اليوم التالي إلى المقهى. لم يخطر على بالهم أن يسألوا عن الزمن الذي ينبغي عليهم قضاءه هناك... أو فيما إذا كانت المشاركة مدفوعة الأجر أما لا؟... كان همهم الوحيد هو المشاركة والاندماج مع الآخر وتعلم بعض المفردات اللغوية الجديدة.
وصلوا في اليوم التالي إلى نقطة اللقاء المتفق عليها. بدأ العمل في الساعة الثامنة... اجلسْ، انهضْ، حدقْ، ابتسمْ، اشربْ، صفقْ، قلْ شيئاً، كنْ طبيعياً...
حصلوا على استراحة الطعام في الساعة الثانية عشرة والنصف لمدة نصف ساعة... عادوا بعدها إلى العمل... أخيراً و بعد جهد كان المخرج راضياً عن تصوير اللقطات...
انتهى العمل في الرابعة والنصف ظهراً!.
طلب المخرج من المشاركين والمشاركات الانتظار قليلاً. كانوا حوالي خمسين شخصاً. تقدم أحد أعضاء فريق الإنتاج إليهم وبدأ بتوزيع الأجور على الطلاب بالأحرى تلاميذ اللغة. حصل كل منهم على أجره، مبلغ وقدره 150 مارك ألماني، بعد التوقيع على ورقة لتأكيد عملية الصرف.
ارتسمت ابتسامات الرضا ونظرات الشكر على وجوههم.
كان المبلغ المدفوع لكل منهم كافياً لشراء الطعام الجيد لتلميذ في معهد اللغة لمدة ثلاثة أسابيع على الأقل، في ذاك الوقت كان راتب التعيين الشهري المقطوع للمهندس في بعض بلدان الشرق أقل من مبلغ 150 مارك ألماني."


لن أعود إلى الوطن الذي أتيت منه حتى لو تمكنت من الهروب من ملاحقات نساء الكوكايين، سأخون وطني كما قال الماغوط وأبقى وفياً لنكهة الكوكايين! يوماً ما ظننتُ أنني فقط في وطني الضيق سأثمر وسيكون بوسعي تحقيق ذاتي... فيما بعد اكتشفتُ أن فكرتي أكذوبتي كانت أسذج من السذاجة... سأخون وطناً لا تخجل فيه الزَعَامَات السَقِيمَات، لا تستقيل لعله تتوقف هناك بَرَاكِينَ الأَحْزَانِ النَّازِفَاتِ...

الانتماء اللامشروط للوطن يعني الحرية الشخصية، حرية العلم والتعليم، نشر سياسة الثقافة والقراءة، تأمين فرص العمل، تأمين الضمان الصحي، زيادة الأجور لتتناسب مع الأسعار، تحسين أداء المؤسسات، تعيين الإنسان المناسب في المكان المناسب، احترام البيئة وحق الجوار، إغلاق السجون السياسية واحترام اتفاقيات الدول عالمياً... نعم، هذا بعض ما يعنيه الانتماء اللامشروط لوطن...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم الممر مميز ليه وعمل طفرة في صناعة السينما؟.. المؤرخ ال


.. بكاء الشاعر جمال بخيت وهو يروي حكاية ملهمة تجمع بين العسكرية




.. شوف الناقدة الفنية ماجدة موريس قالت إيه عن فيلم حكايات الغري


.. الشاعر محمد العسيري: -عدى النهار- كانت أكتر أغنية منتشرة بعد




.. تفاصيل هتعرفها لأول مرة عن أغنية -أنا على الربابة بغني- مع ا