الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- نسيان - .. 4

محمود العكري

2016 / 2 / 13
سيرة ذاتية


إن البداية لا نهاية لها كما لقن لنا في درس المدرسة الغبي، فكل بداية هي حياة لبدايات أخرى قادمة لا محال، ولكي تعبر واحدة عليك بالقفز نحو الأخرى، وهكذا تكون أمام محطات يجب عليك فيها أن تنسى لتحيا، أن تنسى لتستمر.
غير أن النسيان يوجد دوما في قفص الاتهام، فهو متهم كغياب! بحيث تصبح تعاسة الإنسان نتيجة مباشرة لعجزه عن النسيان، فيتحول إلى كائن يعيش دوما تحت وطأة الماضي والذاكرة، ملتفتا إلى الوراء، غافلا عما في اللحظة والحاضر من إمكانيات السعادة، وهذا ما جعلني حبيس فكرة أنني في الحقيقة لا أحيا، لا أعيش، بل فقط أتذكر الماضي الذي أكون فيه للأبد وأحاول نسيانه.
في لحظات الصمت رفقة الطبيعة، كنت أجلس متأملا منظر الجمال الممتد في المكان الأخضر، وكان يعيش في سؤال يمزقني كلما مرقت عينان ذلك العنكبوت السعيد، فكنت أسأله: " أيها العنكبوت لماذا لا تخبرني عن سعادتك وتكتفي فقط بصنع خيوطك البراقة على نغمة السعادة؟ " فيجيبني العنكبوت قائلا " إنني أنسى في كل مرة ما كنت أنوي قوله "، لأنه في الوقت الذي يستعد فيه العنكبوت للإجابة يكون قد نسي الجواب فيسكت، وهذا ما كان يثير دهشتي الغريبة.
لم لا أكون مثل العنكبوت، أنسى دوما الماضي وأعيش فقط رفقة الآن في هناء وسعادة !
يحكى في العامية المصرية أنه كان هناك حشاش بطل مشهور في جميع النكت المصرية أدمن الحشيش ومثل أمام نفس القاضي عدة مرات ومن قبيل محاولة التوجه الى ضميره أو ما تبقى من ضمير، سأله القاضي: أنت بتشرب حشيش ليه؟ أجابه البطل: لكي أنسى.. فقال له القاضي تنسى ماذا؟ فأجاب: والله العظيم ما أنا فاكر.
كما يحكى عن إنسان كان يعيش في أمريكا وقد فقد المعنى وكان مليونيرا حصل على كل شيء السيارة والمنزل والجاه والمرأة الجميلة والرفاهية.. لكن ضمن كل هذه المنظومة المادية الكبيرة لم يجد معنى على الإطلاق، فقرر أن يبحث عن المعنى في العقائد والديانات إلى غير ذلك من الأمور، فسمع عن جماعة كريشنا فذهب إليهم وقال لهم إني أبحث عن المعنى أين الحقيقة، فقالوا له " لا إن سؤالك في غاية الصعوبة وعليك أن تذهب إلى الهند، فذهب ومكث عدة أيام في شوارع الهند إلى أن قالوا له عن أحد المتصوفين.. فذهب إليه وجلس عند قدميه وطرح عليه السؤال ـ أين المعنى؟ ـ وما هي الحقيقة؟ فأجابه: سؤالك يا بني في غاية الصعوبة، معلمي الأكبر وحده من يملك الجواب عليه، فقال له أين معلمك؟ أجابه: في كهف كبير وسط جبال الهملايا.. فتسلق الجبل لأنه كان جادا في بحثه عن المعنى والحقيقة، إلى أن وصل إلى الكهف وبالفعل وجد هذا الرجل الذي تبدو عليه علامات التقوى والورع جالسا يتأمل فجلس عند قدميه عدة أيام إلى أن نطق.. قال له: ماذا تريد يا بني؟ فأجاب: الحقيقة يا سيدي ! حتى أجد المعنى.. فقال له: تتلخص الحقيقة في كلمتين، نيرفانا ومانترا.. فقال له كيف أكتبهما، فأملى عليه، فقال له وما معناهما؟ أجاب: نسيت.
في الحكايتين هناك عنصر أساسي يجمع بينهما، وهو للأسف عنصر جوهري، ففي جميع الحالات ما نسي ليس تفصيلات أو شيء من هذا القبيل إنما هو أمر جوهري ويمكنني القول أن هذا الشيء الجوهري يستند إليه العالم بأسره، لذا يكون النسيان هو انتفاءنا من عالم الوجود، ليعود التذكر هو أصل وجودنا، وهكذا تستمر اللعبة إلى اللانهاية.
لكن النسيان ليس سهل المنال، قد يأخذ منك كل ما تملك من قوة دون أن تحصل عليه في نهاية المطاف، لكنه فعلا محمود الأضرار، النسيان حل من لا حل له، وهكذا أخرج للعالم رفقة صرخة جديدة تقول: أيتها البشرية، أيها الناس، إسمعوا ما أقول: انسوا تعيشوا، أريد أن أنسى، من منكم يعلم معنى النسيان؟ لا أحد، إني أسير نحوه فاتبعوني.
تمت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وملف حجب تطبيق -تيك توك-.. تناقضات وتضارب في الق


.. إدارة جامعة كولومبيا الأمريكية تهمل الطلاب المعتصمين فيها قب




.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م