الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوزير المثير للجدل

عبدالله المدني

2005 / 11 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


الخطوة التي أقدم عليها رئيس الحكومة الهندية مانموهان سينغ مؤخرا بسحب حقيبة الشئون الخارجية من الوزير المخضرم و أحد رموز حزب المؤتمر الحاكم ناتوار سينغ (74 عاما) و إسنادها مؤقتا لنفسه، لها أكثر من دلالة.

فعن طريقها أثبتت الهند مرة أخرى أنها دولة المؤسسات و الأعراف الديمقراطية الراسخة التي لا تجامل رموزها وتخضعهم للمحاسبة و المساءلة القانونية مهما علا شانهم متى ما حامت حولهم شبهات الفساد، وذلك خلافا للعديد من دول العالم الثالث التي لا يزال بعض مسئوليها المتهمين بنفس تهمة الوزير الهندي في مناصبهم الرسمية و كأن شيئا لم يكن.

ومن ناحية أخرى أثبتت الحكومة بخطوتها تلك حرصها على منع الوزير المذكور من استغلال موقعه الوظيفي المرموق في التأثير على عمل لجنة قانونية مستقلة أنشأت خصيصا للبحث في التهم الموجهة إليه من قبل اللجنة الدولية الخاصة بالتحقيق في انتهاكات برنامج النفط مقابل الغذاء في العراق برئاسة الأمريكي بول فولكر، و التي أورد تقريرها الأخير اسم ناتوار سينغ ضمن من حصلوا من النظام العراقي البائد على كوبونات نفطية بملايين البراميل. هذه الكوبونات التي يقال أن الوزير باعها عن طريق ابنه جاغات و "شركة حمدان" الهندية لشركة سويسرية واستلم ثمنها على دفعات من خلال حساب في أحد المصارف الأردنية، خاصة بعدما تبين أن جاغات قد تردد أكثر من مرة في عامي 2001 و 2002 على العراق و الأردن.

إلى ذلك فان قرار إقالة الوزير مع إبقائه داخل الحكومة بدون حقيبة وزارية هدف إلى منعه من التحدث باسم الهند و تمثيلها في المحافل الدولية إلى أن تنجلي الحقيقة كاملة، حتى إذا ما ثبتت براءته كان من السهل عودته إلى قيادة الدبلوماسية الهندية مجددا.



من جانبه نفى الوزير الاتهامات الموجهة إليه جملة و تفصيلا واصفا إياها بالكاذبة والمغرضة، وهذا بطبيعة الحال من حقه، بل كان أمرا متوقعا. ولو انه اكتفى بردة الفعل هذه و اردفها بالاستقالة كما فعل زملاء له في الماضي في مناسبات مشابهة أو وضع نفسه تحت تصرف لجنة التحقيق الهندية المستقلة للبت في مصيره، لما أثار جدلا واسعا لم ينته بعد في الشارع الهندي المنغمس أصلا في الجدل حول شخصيته و فكره و آرائه و أدائه. و لأنه لم يفعل ذلك و استمات من أجل البقاء في منصبه مستغلا موقعه الحزبي وتاريخه الدبلوماسي الطويل. ولأنه مضي يتهم الأمريكيين بمحاولة تشويه سمعته لأنه عارض الحصار على العراق ثم عارض الحرب عليه و عارض إرسال قوات هندية إليه، متسائلا عن مصداقية قرار إسناد رئاسة اللجنة إلى فولكر الرئيس السابق لبنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي وليس إلى شخصية مستقلة من بلد محايد. فانه أساء إلى نفسه وتاريخه و جعل الكثيرون يشككون في احتمال براءته.

أما أنصاره فزادوا الطين بلة بلجوئهم إلى نظرية المؤامرة لتبرير ما حدث له قائلين انه انتقام أمريكي بأثر رجعي، في إشارة إلى تاريخ الرجل الطويل كأحد المقربين من رئيسة الحكومة الهندية الراحلة انديرا غاندي و احد منفذي سياساتها الخارجية، ولا سيما سياستي عدم الانحياز و التحالف مع الروس ضد الغرب في حقبة الحرب الباردة. بل ذهب بعضهم في معرض دفع التهم عنه إلى القول أن جاغات ربما تصرف من تلقاء نفسه و من دون علم أبيه و بالتالي لا يجب أن يؤخذ الثاني بخطيئة الأول، مضيفين بأنه إذا كان من حق الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان أن يبقى في منصبه رغم ضلوع ابنه كوجو في صفقات ومنافع نفطية مماثلة، فلماذا لا يحق لناتوار سينغ أن يبقى وزيرا لخارجية الهند؟

حزب المعارضة الرئيسي ممثلا ببهاراتيا جاناتا وجد بطبيعة الحال في الحدث فرصة ذهبية لإحراج حزب المؤتمر الحاكم والقول بأن ضلوع الحزب في الفساد و الرشاوي ليس جديدا، معيدا إلى الأذهان وقائع فضيحة "بوفور" التي اتهم فيها زعيم المؤتمر ورئيس الحكومة الأسبق راجيف غاندي بالكسب غير المشروع من وراء صفقة أسلحة مع السويد في الثمانينات.

وعلى هامش هذه التطورات و ما صاحبها من جدل كان من الطبيعي أن يعاد فتح الكثير من الملفات عن أداء الرجل الدبلوماسي و أفكاره السياسية و طبيعة علاقاته. فمنذ أن اختاره مانموهان سينغ في عام 2004 لقيادة الدبلوماسية الهندية بعيد عودة حزبهما العتيد إلى السلطة كان رأي الكثيرين، ومن ضمنهم رموز شابة داخل حزب المؤتمر نفسه، أنه شخصية تنتمي إلى حقبة الحرب الباردة و مفاهيمها السياسية المنقرضة و بالتالي لا تصلح لقيادة علاقات الهند الخارجية في عالم القطب الواحد ذي المعالم و السياسات والأهداف المختلفة. وهناك من ادعى انه لا يصلح في موقعه الجديد بسبب طبعه الحاد الذي قد يوقع البلاد في احراجات دبلوماسية مع الآخر ولا سيما مع حلفائها الجدد في واشنطون. هذا على الرغم من اتفاق الجميع على انه يتمتع بمؤهلاته علمية عالية (خريج كلية سانت ستيفن في دلهي و جامعتي كمبريدج و بكين) و يحمل فوق ظهره تجارب وخبرات غنية من انتسابه إلى الخارجية الهندية منذ 1953 و شغله لمناصب دبلوماسية متنوعة في بكين و نيويورك و لندن و باريس و إسلام آباد و لوساكا و وارسو و عمله كنائب في مجلسي البرلمان الهندي.

على أن الرجل نجح في مناسبات مختلفة في تبديد ما أشيع عنه محاولا تقديم نفسه في صورة جديدة تتناغم مع المستجدات العالمية و توجهات الهند الجديدة. وبدا ذلك جليا في حركته من اجل تعزيز علاقات بلاده مع الولايات المتحدة و إنجاح زيارة زعيمه سينغ إلى واشنطون في يوليو الماضي و التي تمخض عنها صفقة نووية مع الأمريكيين، و في عمله من اجل تمتين أواصر التعاون و الشراكة مع الصينيين، ودفع عملية السلام مع الباكستانيين إلى الأمام. غير انه قضى في أحايين أخرى، ولاسيما في الفترة الأخيرة، على صورته الجديدة تلك باتخاذه مواقف اقرب إلى السياسات التي تربى في كنفها في القرن الماضي. من ذلك دعمه لموقف إيران في مواجهة الأخيرة مع وكالة الطاقة الذرية و ذلك خلافا لموقف الهند الرسمي، ووصفه لصدام حسين بصديق الهند الوفي، و تهجمه على النظام العراقي الجديد بالقول انه لا يحظى بالمصداقية، ناهيك عن تشكيكه في عمل و مصداقية لجنة دولية منبثقة عن مجلس الأمن الذي تحاول الهند جاهدة أن تنال عضويته الدائمة. أضف إلى هذا ما تسبب فيه من إحراج لبلاده في يونيو من العام الماضي حينما تعمد عدم الاجتماع بمسئول دفاعي أمريكي رفيع كان وقتها في زيارة لنيودلهي لإجراء محادثات عسكرية، وذلك بحجة عدم تناسب موقع الأخير الوظيفي مع موقعه الرفيع.

والحال أن عودة ناتوار سينغ إلى الخارجية من عدمها باتت شأنا تقرره لجنة التحقيق القضائية المستقلة على ضؤ ما تتوصل إليها من نتائج، هذا إذا لم تحدث تطورات جديدة تطيح بالحكومة كلها. فتقرير فولكر يشير أيضا إلى حزب المؤتمر كأحد الجهات التي استفادت بطرق غير مشروعة من برنامج النفط مقابل الغذاء. وهذا ستستغله المعارضة حتما للإطاحة بالحكومة، بل قد توظفه أيضا القوى اليسارية الحليفة للحكومة من الخارج لجني مغانم و مناصب إضافية تحت التهديد بسحب دعمها البرلماني.

د. عبدالله المدني
*باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
تاريخ المادة: 13 نوفمبر 2005
البريد الالكتروني: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية بفرنسا.. ما مصير التحالف الرئاسي؟


.. بسبب عنف العصابات في بلادهم.. الهايتيون في ميامي الأمريكية ف




.. إدمان المخدرات.. لماذا تنتشر هذه الظاهرة بين الشباب، وكيف ال


.. أسباب غير متوقعة لفقدان الذاكرة والخرف والشيخوخة| #برنامج_ال




.. لإنقاذه من -الورطة-.. أسرة بايدن تحمل مستشاري الرئيس مسؤولية