الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


‎ملاك .. امرأة الوجع الأخير

سليمان الهواري

2016 / 2 / 15
الادب والفن



الليلة الاولى تكون دائما موجعة في الغربة كما اول ليلة في الزنزانة ..
اهبط منها مدموما مدحورا .. هكذا كان وقع صوتها كما الله حين آذن باخراج الشيطان الى فاجعة اسمها الارض .. انت لا تفهم الكلام أو كأنك تحاول الا تفهم لان الصاعقة كبيرة و السكين يهوي على كبدك ..
لم تكن تحمل في شفاهك الا شوقا كبيرا للحظة خلوة تعيد معها رسم تفاصيل يوم من اللهاث وراء قصيدة .. انت سميتها حبيبتك او شيطانتك او الاهتك ، لا فرق .. ما يهم انها كانت روح الوقت و سر حرفك الذي سطرته عبر مسيرة عشق و اكثر، رسمتها على اوراقك، و على خدود السماء نقشت اسمها لعلها تصير شمسا ، ثم عبدتها كما تعبد الهة الاغريق ..
لم يكن هذا اليوم عاديا كما سائر ايام الله في علاقتكما .. فمنتصف النهار موعد تسلمك النسخة الاولى من ديوانك الذي كتبتها فيه حرفا حرفا و شهقة شهقة .. هي تعرف تفاصيلها منثورة فيه و طلاسم آهاتها تزين أنفاس القصيدة .. المجيب الآلي لمقر المطبعة وحده كان يرد على كل اتصال لتتأكد ان قصائدك لازال يبللها شك الخريف .. لم تهتم للأمر مادامت ملاك جانبك تشرب من عينيها فرحة البقاء .. كانت فرصة للتسكع على ضفة وادي ابي رقراق و يدك لا تغادر كف ملاك .. كلما زارتني الغربة اضغط على كف ملاك ، او اهرب لاغرق كطفل بين نهديها .. ملاك تعرف مملكة شياطيني من الف عام كما تتقن مواويل صلاتي في حضرة ملائكة الليل .. مقهى الوداية يعرف كيف يمتص تعبي .. كل سفن الصيد راسية في قلب النهر و كان السمك هجر حضن المخمورين بقصص الجنيات .. وحدها امواج المحيط تعانق بشراسة حيطان القصبة ..
للشاي نكهة اخرى في حضرة ملاك و قصبة الوداية تصير معزوفة لذة و انا السلطان ..
حيطان البيوت العتيقة وحدها تردد صدى الجوع لنستفيق بعد ساعات من الدهشة ..
لخصر ملاك الف قصة مع جولات شغبي ..
يجب ان نصل بسرعة الى اول مطعم تحبه ملاك فمشاكلها في الجهاز الهضمي لا ترحمها و هي التي تخشى من آلات الفحص الباطني ..
سيغشى علي من الجوع .. قالتها و هي تهرول الى مقود سيارتها التي كانت مركونة في مرآب قريب ..
فضاء المطعم جميل رغم انه مكتظ بالزبائن .. الكل منهمك في مهمة الغريزة و لا صوت يعلو صوت شوكات الموائد .. ملاك تفضل دائما الدجيجات المشويات على الفاخر .. و لأنها تحبها فانا احببتها ايضا .. حقيقة انا احببت كل ما تحب ملاك ، هكذا وجدتني .. فرق بسيط هو انها ممنوعة من المشروبات الغازية بينما انا كل السوائل تجد طريقها الى امعائي دون حساب .. الدجاج المشوي يصبح اجمل و هو يختلط بملف الاحتجاجات التي نسمع صرخاتها امام البرلمان .. كل شيء يبدو جميلا هنا و كأن المغرب لا يعرف سنة جفاف مطبق و لا رحمة في السماء تغيث فجاج هذه الارض المنهوكة ..
عدت مسرعا بعد ان حاسبت النادل لاجد ملاك منشغلة في الحديث مع شخص كان يجلس في الطاولة المجاورة لطاولتنا .. بادلته التحية عن بعد فأنا بطبيعتي أشمئز من الياقات النظيفة جدا و ربطات العنق المطرزة بحرير دود القز الرباطي .. ثم غادرنا الى السيارة و انا احرض ملاك على الاسراع فقد نجد المطبعة قد أقفلت و الوقت تجاوز العصر بكثير ..
شيء ما في ملاك كان متغيرا و هي ساهية لا ترد على كلامي .. حاولت مرارا ان المس يدها لكنها كانت كل مرة تبعدها عني بلباقة قبل ان اسمع درسا في الاخلاق العامة و نحن نقترب من حي المحيط ..
باب المطبعة كان مظلما و نحن ندلف الى المكتب الصغير الغارق في فوضى الكتب .. السي محمد بقي وحده هنا و قد انهى مساعداه عملهما اليومي ليغادرا المطبعة لعلهما يجدان مقعدين في الحافلة التي تنقلهما الى الضفة الاخرى من الرباط .. أحضر السي محمد كاسي قهوة و هو يحدثنا عن تفجير هذا المساء في قلب دمشق .. كل الاحاديث هنا تقودك الى الشرق .. توقف لحظة و مسكني من ذراعي .. مبروك عليك يا سيدي الديوان .. و هاهي نسخك لم يمسسها بشر قبلك و لا جان .. أخذت نسخة و دون تفكير استدرت عند ملاك .. الف مبروك يا ملاكي ديوانك .. نعم السي محمد انه ديوانها و هي التي كتبته عشقا في روحي قبل ان تصبح رسوما في كتاب ..
لم يكن هناك متسع وقت لاتصفح الديوان هنا فكل مساحات الليلة لنا لنشرب معا أنخاب هذا الحب الذي أشرق ديوان شعر .. ملاك مدت يدها متباطئة و كانها تلومني على كلامي و لم تعلق بكلمة .. ثم نهضت لنغادر المكان .. صمت يحبس الانفاس في الطريق الى السيارة ..
نحن الآن غرباء نجلس جوار بعضنا ..
تعاشرنا دهرا و كاننا لم نلتق ابدا ..
ملاك .. ملاك ..
حاولت ان اكسر هذا الموت الجاثم على الانفاس ، و هي تسوق بشكل مرتبك على غير عادتها ..
كيف جاك الديوان ملاك ديالي .. سألتها و انا احاول ان اضع يدي على يدها ..
كأن ملاك تستفيق من غيبوبة .. أدارت مقود السيارة بقوة ثم ضغطت على الفرامل لتتوقف الانفاس على قارعة الطريق البحري ..
لم تتفوه ملاك بكلمة واحدة واضحة لكنها أمسكت نسخة ديوانها بعصبية و راحت تمزقها بهستيرية غريبة .. عبثا حاولت ان أهدئها لكنها رمت بأشلاء القصائد في وجهي ..
اهبط منها مدموما مدحورا .. كلامها يسقط كالرصاص في عيوني ..
وجدتني خارج السيارة احمل محفظتي التي لم تفارقني طيلة يومي و حفنة دواوين في يدي ..
ملاك لازالت تصرخ ثم انطلقت بجنون ليختفي ليلها في ليل البحر، في ليل هذه المدينة ..
وحدي بقيت هنا أتأبط الصمت و دهشتي ..
ما جدوى الشعر و ملاك ليست هنا ؟؟
لا أعرف كم استغرقت واجما في مكاني ثم عبرت الطريق في اتجاه الموج ..
ألقيت محفظتي في الماء .. ثم رميت عاليا ما تبقى في يدي من ديوان ملاك لتبتلعه أمواج المحيط ..
من يدل رجلاي على الطريق ، و ملاك أخذت معها عيوني ..
الليلة الاولى تكون دائما موجعة في الغربة كما اول ليلة في الزنزانة ..
***الرباط 13/2/2016***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا