الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


!!.. عليه العوض

ياسر العدل

2005 / 11 / 15
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


فى مواسم جرد الذمم، احترق مخزن كبير بفعل فاعل، فتغامز الجيران وقالوا (عليه العوض، المال السايب يعلم السرقة!!)، وفى مشاكسة شابها بعض الغزل، أكلَت نفيسه ذراع زوجها، ففرحَت طليقته الثانية وقالت (عليه العوض، حقى يا ناس لا يضيع أبدا!!)، وفى عملية جراحية مدفوعة الأجر، فقأ طبيبُ عين شاب، فولولت أم المريض وقالت (عليه العوض، المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين!!)، وفى سباق على الإسفلت لالتقاط أجرة الركاب، حطّم سائقُ ميكروباص سيارةً تقودها امرأة، وحين فشل فى مواصلة السباق سَبّ نفسَه، فقالت صاحبتها (عليه العوض، زبالة شوارع!!)، وفى يوم موعود حملتُ بطيختين وعود قصب ودخلت بهما على زوجتى، ولما اكتشفَت أننى مرهق تماما, مصمصت شفتيها وقالت (عليه العوض، بطيخ وقصب!!)، وانتشر فى حياتنا لحنُ ثقافى مميّز (عليه العوض ومنّه العوض!!).
يختلف الناس فى بلادنا حول تقييم كثير من مشروعاتنا القومية، مثل أبى طرطور فى تعدين الفوسفات، وتوشكى فى استزراع الأراضى, وشرق تفريعة قناة السويس فى المناطق الصناعية، واختلاف الرأى حول جدوى هذه المشاريع يرجع لعجز المعلومات المتاحة لدى العامة ولدى الخاصة على السواء، ويرجع لسيادة ثقافة عقلية بين أفراد المجتمع، ثقافة لا تملك أدوات قياس الضرر، جهلا وتخلفا، وان ملكتها لا تحسن استخدام تقنياتها، إهمالا وتواكلا، وبالتالى فهى ثقافة لا تعرف العَوض ولا تستدل على صاحب العَوض، تقبل تصنيف المقصرين إلى طبقتين، طبقة فوقية يعجز القانون عن ملاحقتها بالعقوبة، تحميها قدراتها المادية وعلاقاتها الاجتماعية، وطبقة دونية يجز القانون رقبتها عند كل هفوة، وتقع ضحية دائمة لضعفها وهوانها على الناس.
ثقافتنا الشعبية السارية تقبل إرجاء حساب المقصّرين إلى أيام قادمة, أيام قد تطول ويفلت فيها المقصر من أى عقاب، ثقافتنا تكرّس للإهمال فى الكشف عن الجريمة, خوفا من بطش صاحب أى قرار، وتزكى مداراة تقصير أى مسئول، تحسبا من سريان الفضيحة على الجميع.
فى دولة تعتمد على نظام معلومات ضعيف، يكرس لبقاء نظرية ترى أن التعامل بالأرقام والبيانات أمور تعتمد على القدرات الشخصية لصاحب القرار، نظام لا يكترث بإتباع مناهج علمية صارمة فى جمع البيانات وتحليلها، نظام تآكلت أدواته بعوامل التعرية الحضارية ويعتمد على آليات متخلفة يديرها أفراد غير مدربين، يخضعون لضغوط ثقافية واجتماعية واقتصادية متخلفة تحول بينهم وبين الاستخدام الأمثل لما يتاح لهم من أدوات العصر، فى مثل هذه الدولة ومثل ذلك النظام، تخضع عملية جمع البيانات وتصنيفها إلى معايير شخصية، وتتحول صناعة المعلومات إلى صناعة مزاجية، وتتخذ القرارات المصيرية بناء على تحقيق مصالح ذاتية تمتزج بمحاولات بشرية سافرة لتصفية الحسابات مع الآخرين استئثارا بكل سلطة.
فى دولة تسودها ثقافة تأجيل حساب المقصرين والمفسدين، يصبح من السهل تحريك الرأى العام بأساليب إعلامية متواضعة، تخفى الأمنيات الشخصية لصانع القرار، وتصف أعمالا عادية بأنها إنجازات عظيمة، وتدعى فى المنطقى من الأمور أن خلفه كثيرا من المعجزات، وتحيل أجهزة الدعاية، صانعة الرأى العام، كل أسباب القصور والتخلف إلى عوامل يصنعها الأعداء والآخرون، بفعل مثل هذه الثقافة وبسلطة مثل هذه الدولة، يختلط الحابل بالنابل ويعرض للرأى العام قناعات صوت الهوى وأصحاب المصالح الشخصية، ويخفت صوت العلم وأصحاب الحكمة، وينحدر الجميع نحو قاع من فقر العقل وبلادة الروح.
أموال بالملايين تنفق على المشاريع القومية، وتحسب جدواها الاقتصادية بأدوات تختلف باختلاف كل فريق من المهتمين بمصير الشعب على ارض الوطن، فريق من يملكون سلطة القرار الذاتى وتنقصهم الموضوعية, وفريق من يملكون موضوعية العلم وتنقصهم المعلومات، والواقع أن أموال المشاريع القومية تقتص من لحم مجتمع يعيش نصف أهله تحت خط الفقر، ويتساءل فيه أصحاب المصائب من عامة الناس، عن حقيقة ما يحدث، ما طريق العوض عن أموالنا المنهوبة وحقوقنا المهدرة؟ هل نمد أيادينا للإعانات الخارجية من خبز وسلاح مقابل الحرية والكرامة؟ أم نرشد الإنفاق الحكومى على حاجات شعبنا المحاصر بالتجهيل الإعلامى؟ أم نحرّك قوانين المحاسبة الموضوعية للمقصّرين؟ أم أن المطلوب خليط من أساليب تنقذنا من الهوان؟.
شعبنا فى مصر هو صاحب الحق الأصيل فى العوض عما نلاقيه فى حياتنا من نصب الدوران فى حلقات الفقر والجهل والمرض، وعلى قياداتنا بحث طرق تعويض خسائرنا الحضارية، أن نتجاوز عصر أهل الثقة، الذين يطبخون القرارات فاسدة، وندخل عصر أهل الخبرة، الذين يقدرون على استنفار قدرة الجميع على النهوض بهذا الوطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية بفرنسا.. ما مصير التحالف الرئاسي؟


.. بسبب عنف العصابات في بلادهم.. الهايتيون في ميامي الأمريكية ف




.. إدمان المخدرات.. لماذا تنتشر هذه الظاهرة بين الشباب، وكيف ال


.. أسباب غير متوقعة لفقدان الذاكرة والخرف والشيخوخة| #برنامج_ال




.. لإنقاذه من -الورطة-.. أسرة بايدن تحمل مستشاري الرئيس مسؤولية