الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إستشراق أسعد بيك

صبحي حديدي

2005 / 11 / 15
الادب والفن


لعلّ وقائع أذربيجان السياسية الراهنة تذكّر، أوّل ما تذكّر، بالعلاقة العتيقة الفاسدة بين النفط والسياسة الدولية، والذهب الأسود الذي يريق الدم القاني، والكيل بعشرة مكاييل بدل المكيالين. إنها، أيضاً، تعيد إلى الأذهان جملة حكايات مثيرة في علاقة ملحمية من نوع ما، تربط البشر بالمكان النفطي ذاته، على نحو أجاد الروائي الراحل عبد الرحمن منيف مسح سطوحه قبل التوغّل العميق في أغواره. هذا ما ردّني، وأنا أتابع المهازل الإنتخابية في أذربيجان المعاصرة، إلى ذاكرة أخرى للبلد ذاته تعود إلى العقود الأولى من القرن الماضي، وإلى شخصية آزرية عجيبة ما تزال غامضة حتى يومنا هذا: أسعد بيك، أو قربان سعيد، أو ليف نسيمبوم في الأصل والحقيقة...
بادىء ذي بدء، ولكي أربط أولى القرائن بين الماضي والحاضر، لهذا الرجل كتاب مثير (ورائد في موضوعه، كما ينبغي القول) بعنوان "الدم والنفط في الشرق"، وقّعه باسمه المستعار الأوّل أسعد بيك وصدر بالألمانية سنة 1930 ثمّ أعيدت طباعته سنة 1997. الرجل كان يهودياً، ولكنه أفلح طويلاً في إخفاء ديانته ليس في أذربيجان أو روسيا أو جمهوريات الإتحاد السوفييتي(التي فرّ منها لأنه كان يبغض البلاشفة) فحسب، بل في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية! هناك، كما في النمسا النازية أيضاً، ذاع صيته كواحد من أفضل كتّاب العصر المناهضين للشيوعية ودعاة وحماة الأفكار اليمينية، وكانت وزارة الدعاوة النازية تدرج مؤلفاته في لائحة "الكتب الممتازة للأدمغة الألمانية"، كما كان قاب قوسين أو أدنى من كتابة السيرة الرسمية للزعيم الإيطالي الفاشي بنيتو موسوليني لولا انكشاف ديانته.
ولد ليف نسيمبوم سنة 1905 في باكو، عاصمة أذربيجان، لأسرة من الأغنياء الجدد المشتغلين بصناعة النفط. وبعد ثورة أكتوبر مباشرة، سنة 1918، فرّت أسرته إلى إسطنبول ثمّ إلى باريس، وبرلين، حيث أكمل الفتى دراسته الجامعية بالاسم المستعار أسعد بيك نسيمبوم، وأعلن أنه مسلم الديانة، كما زعم أنه من أقرباء أمير بخارى. ولقد بدأ ينشر سلسلة مقالات أدبية وسياسية واقتصادية سرعان ما أكسبته صفة "الخبير في شؤون الشرق"، قبل أن ينضمّ إلى "الرابطة الألمانية ـ الروسية ضدّ البلشفية "، والتي ستفرّخ الكثير من القيادات النازية فيما بعد، وإلى "الحزب الملكي الألماني"، فضلاً عن صلاته الوثيقة بحركة "روسيا الفتاة" الفاشية. وفي سنة 1933 سافر إلى نيويورك لفترة وجيزة، ثمّ عاد ليقيم في فيينا حتى سنة 1938 حين انكشف أمر ديانته اليهودية، ففرّ إلى بوسيتانو في إيطاليا، حيث توفي سنة 1942.
حياة مثيرة كما يلوح، لكنّ الجانب الأكثر إثارة فيها أنّ قيمة نسيمبوم على الصعيد الآزري المحليّ لا تنهض على أيّ من هذه الأسفار والأسرار والأسماء المستعارة، بل تكاد تقتصر على تفصيل واحد وحيد: أنّ الرجل، باسمه المستعار قربان سعيد، هو مؤلف رواية "علي ونينو"، 1937، التي تروي حكاية الغرام المستحيل بين الفتى الأذربيجاني المسلم الشيعي علي والفتاة الجورجية المسيحية نينو، وتعتبر أشهر قصّة حبّ في أذربيجان. (نشرت دار الحصاد السورية ترجمة لهذه الرواية قبل سنتين، لكنّ المترجمة أميمة البهلول عجزت عن ردّ الرواية إلى نسيمبوم، فاعتبرت أنّ كاتبها الحقيقي لا يزال مجهولاً). المدهش أنّ الكثير من الآزريين لا يصدّقون حتى اليوم أنّ المؤلف كان يهودياً، ولهذا لم يكن غريباً أن تنقلب تلك القصة الغرامية إلى ملحمة وطنية تعبّر عن طموح أذربيجان للإستقلال عن السوفييت!
وفي ما يخصّ كتلة أدبيات الإستشراق على صعيد كوني، تتمثّل خطورة نسيمبوم في أنه هيمن فعلياً على التفكير الرسمي، فضلاً عن الكثير من أنساق التفكير الشعبي ـ الشعبوي، في ألمانيا وإيطاليا والنمسا خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. والمرء يدرك أثر مؤلفاته حين يتذكّر أنه لم يكتب في النفط الدامي والغرام الرومانسي فحسب، بل كتب سيرة النبيّ محمّد، كما روى حكايات عن الشرق لم تكن أمينة لأيّ شرق آخر سوى ذاك المتخيََّل الذي يتشهاه القارىء الغربي. ليس هذا في ما يخصّ السحر والجان والمحظيات والقيان وتنميطات ألف ليلة وليلة المكرورة ذاتها فحسب، بل أيضاً وأوّلاً الممالك والإمارات المصمَّمة على نحو يزيّف احتمال وجود أية سياسة إسلامية، فضلاً عن تسليم تصاريف الدار والأقدار إلى الدراويش والمتصوّفة والمشايخ أصحاب الطريقة.
وفي كتابه "المستشرق"، الذي صدر أوائل العام عن "راندوم هاوس" في 464 صفحة ولعلّه السيرة الأكمل لحياة وأفعال نسيمبوم، يساجل الكاتب الأمريكي الشاب توم رايس بأنّ المستشرقين اليهود كانوا أرأف حالاً بالمسلمين من الستشرقين المسيحيين، لأنهم لم يقاربوا الشرق من منطلقات المحاصصة والغزو والهيمنة والإمبريالية. من جانبي لا أتردد في القول إنّ أشدّ تعريفات إدوارد سعيد إشفاقاً على المستشرق بوصفه مؤسسة خارج التاريخ والجغرافيا، وفي وظيفته كأداة لتصنيع معرفة إنشائية زائفة عن الشرق، إنما تنطبق تماماً على مسار نسيمبوم.
ألا يكفيه محاصصةً أنّه كان تارة أسعد بيك، وطوراً قربان سعيد، وطيلة الوقت نسيمبوم؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان محمد الجراح يرد على منتقديه بسبب اتجاهه للغناء بعد دو


.. بأغنية -بلوك-.. دخول مفرح للفنان محمد الجراح في فقرة صباح ال




.. الفنان محمد الجراح: قمت بالكثير من الأدوار القوية لكنها لم ت


.. نقيب المهن التمثيلية يكشف حقيقة شائعة وفاة الفنان حمدى حافظ




.. باراك أوباما يمسك بيد جو بايدن ويقوده خارج المسرح