الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعر صاحب الهويّات الجوفاء

محرز راشدي

2016 / 2 / 19
الادب والفن


إنّ النّظريّة الرّومنطيقيّة- في العمق- ثورة تؤسّس للقطيعة والانقطاع فيما هي تتأسّس. فهي تمرّد على «إمبرياليّة العقل والدّولة، وكليانيّة الكوجيتو والنّظام» ، وثورة على« إمبرياليّة فلسفة الحسّ المشترك» . هذا بالاضافة إلى كونها تجاوزت براديغم الذّات المفكّرة العاقلة الّتي حسمت كينونتها في الكوجيتو الدّيكارتي لتنطلق من كوجيتو فارغ ( vide Cogito un ) دشّنته الفلسفة الكانطيّة . بما يعني أنّه ثمّة نوافذ جديدة نستطيع من خلالها أن نلقي نظرة على العالم وأشيائه، ونعبر من الكائن إلى الممكن، ألا وهي الخيال الخلّاق والحلم والرّؤيا. هذا الإلماع يجسّر لنا الحديث عن هويّة الشّاعر الرّومنطيقي، ناهيك أنّه ملاك مقدّس يبحث في خضمّ من العواطف والانفعالات والرّؤى عن إمكانيّة مالا يمكن. وهو ليس رائيا فحسب، بل نبيّ وقع اصطفاؤه، والاصطفاء مثقل بمعاني الاجتثاث ((Arrachement والخروج عن الأصل والتّحوّل في المسار والتّكليف من أجل تبليغ رسالة إلى جماهير بشريّة لها خبرة ثقافيّة معادلة للـ"أنا الأعلى" الرّدعي.
وإذ يقع انتداب الشّاعر- النّبي رسولا إلى الأرض فلغاية بسط مشروع جديد وحمل الآخرين على الاقتناع به والاعتقاد فيه. وفي هذه الحال من تمايز المناظير وتغاير الرّؤى سيكون الصّدع والشّرخ. وهو ما كان ليتجشّم صعوبة المهمّة الرّسولية لو لم تجتمع فيه مجموعة من القدرات والملكات الخارقة عزّت على طالبها، يمكن اعتبارها العناصر التّكوينيّة لهويّته.
إذ أنّه عبقريّة لا يستوعبها زمان ولا يحوطها فضاء، أصوله ضاربة في زمن سحيق هو زمن البدايات، تتغذّى من غيث هتون حبلت به غيمة الآتي البعيد. فالعبقريّ تكسّرت عنده المواقيت والتّخوم فانحلّ الآني في ماء الأزلي وتهشّم الظّرفي في غير المظروف. وحضوره في العالم علامة حضور المقدّس من أجل تشييع المدنّس ومبارحته. لأنّه "كليم" ينفذ إلى العالم بالكلمة فتشفّ القيمة ويلمع المعنى وتكون الحقيقة. فهو- كائنا بين الجماهير التّائهة- ليس علامة ما هو موجود الآن وهنا، بل "معادل موضوعي" لقيم مثلى تحجّبت، ومعان روحيّة سامية ارتفعت عن العالم المنظور. ومزيّته أنّه ينفخ في رماد الكون روح النّداء؛ نداء يمزّق السّكينة الخادعة، ويقضّ مضاجع القاعدين عن طلب الحقيقة المطلقة.
وبما أنّه حالم بالتّغيير، بما يجب أن يكون وتبيئة المستحيل، متمرّد على ما هو موجود، فسيلوح- في نظر الآخرين- "الأنا الكريه" ويسلخ من هيكل الجماعة خارجًا، بل خارج ذاته أصلًا في منفى أزلي، فيفقد توازنه ويبتلعه الاغتراب. ومأتى اغتراب الشّاعر- النّبي اختلافه عن الإنسان العادي ماهية ومعرفة ووظيفة.
فهو الكشّاف والمخترع والخلاّق والرّائد في صلة بالمجهول، يقول أدونيس:« تقاس عظمة المبدع اليوم، بمدى قدرته على معايشة أو احتضان المجهول- ذلك اللاّنهائي في الإنسان والكون، وفي مدى تأصّله في الكشف الّذي يقود إلى مزيد من الكشف» بينما الإنسان العادي يأبى التّغيير ويخشاه إلّا أن يكون بمقدار، ولا يحتمل عناء طرح السّؤال، بل يدين بدين الجماعة، مدمنا التهام الجاهز والمعلوم تحقيقا لطمأنينة ملغّمة.
ويتوق الشّاعر إلى عالم نقيّ، متطهّر من أصنام الأسلاف، عالم فطري شفّاف هاجرته ثخونة العادة والتّقليد، يطفق الإنسان في خلقه خلقًا مستمرًّا لا حدّ له. وينضاف إلى ما سجّلنا، أنّ مصادر المعرفة متناقضة، إذ يخضع الإنسان العادي لضغوط الوعي اليومي السّاذج، ولمقرّرات الثّقافة من تجربة وتلقين وتعليم ويكتفي بالعقل ومسالكه الضّيقة مرشدا إلى المعرفة، بينما يعوّل الشّاعر النّبي على بيداغوجيا ذاتيّة كيانيّة كشفيّة الأساس فيها عين القلب والأذن الباطنة والحلم والرّؤيا والخيال، والانشقاق عن سلطان العقل وركوب معراج النّفس الّذي يطوى سماوات الحقيقة سماءً سماءً. فنكون إذّاك في حضرة نمطين من المعرفة مفترقين: معرفة أولى مجرهيّة مشتّتة تشوبها شوائب النّقص والزّلل. ومعرفة شعريّة نسيبة للحقيقة في خلوصها ووحدتها الشّاملة ونفاستها التقت فيها المتباعدات، وائتلفت المتنافرات، وتوحّدت المتفرّقات في وحدة أوليّة نهائيّة لا يلامسها لبس ولا يرقى إليها شكّ.
هذا التّعارض الّذي تبينّا مستوياته سيستحيل مواجهة بين مشروعيْن ضديديْن: مشروع متمأسس يدافع عن مكانته ومشروع في طور الولادة والتّبلور يبحث له عن موطإ قدم. ومن هذا الصّراع سينشأ اِستلاب النّبوّة وتتناسل معاني الغربة والتّهميش والإقصاء. إذ ألحّت الأقاويل الشّعريّة في السّياق الرّومنطيقي على أنّ واقع الشّاعر- النّبي- في مقارعة الأنساق المكرّسة- هو الوهن والانكسار، فلكلّ نسق حرّاسه الّذين يئدون أيّة ولادة شاذّة عن القاعدة. ومن ثمّة، سيتبدّى الشّاعر نبيّا بلا أتباع و صوتا شريدا لا صدى له في دائرة الغوغاء.
بل هو نبيّ أعزل، مطارد، بلا مأوى، وصاحب نبوّة مستلبة، منسحبة إلى العراء بلا اسم ولا عنوان. والمحنة هي مآل الشّاعر الرّومنطيقي وشعره، إذ تتواتر معاني الخيبة والهزيمة إنباء بانكسار مسار التّنزيل، وإيذانا بصمت النّشيد وانفجار النّشيج. وسيكون الخطاب الشّعري- حينئذ- حاضنة كبرى لهشاشة التّجربة النّبويّة استنادا إلى معاجم لغويّة تدور على معاني النّفي والسّبي والتّهميش والإقصاء والغربة. ونعتقد أنّ الاغتراب أو الاستلاب- بوصفه تعبيرة عن رحلة في الزّمن وغربة نفسيّة وجوديّة وإحساسا بالإقامة الزّائفة- هو النّواة الدّلاليّة الّتي منها تتوالد بقيّة المعاني المحفّزة على تخريج الشّاعر نبيّا جريحا حاملا لهويّات جوفاء ) vides Identités). ذلك أنّ الاغتراب- كما تبيّن الممارسة الشّعرية- صنو للعبقريّة الّتي احتفت بها الجماليّة الرّومنطيقيّة، خاصّة أنّ الشّاعر العبقريّ إنسان سابق عصره، قادم من المستقبل، مهموم بما يجب أن يكون، مشرّع لذاته، وصاحب مشروع مضادّ للذّاكرة ومنسجم مع المخيّلة. وسيمثّل اللّقاء بين العبقريّ وشعبه حدثا صادما، لأنّ الشّعب أدمن الرّكون للمعلوم والجاهز معلنا رفضة صيحة صوت الحقّ الدّاعية إلى تحرير الإنسان من نفسه ومن الغير، وهذا ما سيولّد في ذات النّبي شعورا بالحيف والغبن، فلا فائدة من كلمته في محيط عمّر فيه الجهل واستكبر، ليستحيل ضربا من الكآبة المبهمة الّتي لا تفسير لها، يقول الشّابي: (المنسرح)
أَنَا كَئِيبْ،
أَنَا غَرِيبْ،
كآبتي خَالَفَتْ نَظَائِرَهَا،
غَرِيبَةٌ فِي عَوَالِمِ الحَزَنِ
إذ تقدّم الشّاعر- من خلال هذا الشّاهد- صوتا شعريّا منكسرا، ولسان حال نبوّة سوداويّة لا تصنع وعدا، ولا تقترح أملا. فالصّفات المشبّهة "كئيب" و"غريب" باتت إخبارا عن حقيقة الذّات المحبطة، ثمّ يقع الانتقال من الكشف عن حقيقة الذّات الكئيبة إلى استبطان حقيقة الكآبة الغريبة، بضرب من التّداعي، ينبّهنا إلى تميّز الشّاعر الرّومنطيقي منزلة وبنية شعوريّة.
والأرجح أنّ الكآبة الغربية هي بنت "الضّمير الحقيقي" المفارق لما يسمّيه هيدغير "الضّمير العامّ"، ذلك أنّ« هذا الضّرب من الضّمير [ الضّمير العامّ] يعكس، ببساطةٍ المعايير المقبولة، بصفة عامّة، للصّواب أو الخطأ، أمّا الضّمير الحقيقي، أو الضّمير بالمستوى الأعمق فهو يعمل، على وجه الدّقّة، لتخليصنا من صوت الـ«هم they» » . ويبدو أنّ الشّاعر- النّبي هو الضّمير الّذي حاول تخليص الإنسان فتورّط في التّهميش والنّسيان وبدا في حاجة إلى من ينتشله من هوّته، ولقد جاء على لسان جبران:« وإذا منعتني الأيّام وغلّت يدي اللّيالي طلبت الموت، فالموت أخلق بنبيّ منبوذ في أمّته وشاعر غريب بين أهله » ، فزيادة على كون الموت قد بات في المنظور الدّيني ممرّا إلى حياة أرقى وأنقى، ثمّ تبنّته الرّومنطيقيّة رمزا للخلاص من المجاعة الرّوحية وجدب الكيان في عالم البشر، « إنّما هو شعور الوعي الشّقيّ بأنّ اللّه نفسه قد مات» ما يعني أنّ الوجود الإنساني متّجه نحو العدم والفوضى وذلك هو جوهر الموت، أمّا الموت الفيزيائي فهو سبيل لتسريح الرّوح من بوتقة الجسد ورجعة إلى الوحدة البدئيّة ونعيم الخلود. ولذا تحوّل الشّعر من الاشتغال على جدول الطّهارة والنّقاء والبراءة إلى الاشتغال على جدول الخسوف والعتمة والسّقوط لبلورة ملامح الكائن الهجين الّذي طوي طوره السّماوي، وتعبّر الأبيات الشّعريّة التّالية صريحًا على هذا المعنى: (الكامل)
شُـــرِّدْتُ عَــــــنْ وَطَنِي السَّمَــــاوِي الَّذِي ҉-;- مَاكَان يَوْمًا وَاجِــــــمًا، مَغْمُـــــومَا
شُــــــــرِّدْتُ عَنْ وَطَنِي الجَمِيلِ...أَنَا الشَّقِيُّ، ҉-;- فَعِشْتُ مَشْطُــــورَ الفُــــــؤَادِ، يَتِيمَا
فِـــــي غُــرْبَــةٍ، رُوحِيَّــــــةٍ، مَلْعُــــــونَـــــةٍ ҉-;- أَشْوَاقُهَا تَـــــــــقْضِي عِطَاشًا، هِيمَا
ففي هذه الأبيات الشّعريّة تحضر خلسة أسطورة السّقوط، لتتذوّت وتصبح موضوعة شعريّة تحكى قصّة سقوط الشّاعر- النّبي في الأركان المظلمة من الكون الإنساني. ويبدو أنّ للاغتراب آصرة تشدّه إلى الرّؤية الفلسفيّة- الجماليّة الجديدة المناكفة للذّوق الرّسمي الّذي تحالف مع التّقليد ومارس حصارا على الممارسة المبدعة فأخرس صوتها وخنق عبارتها لأنّها حادت عن السّمت: (الكامل)
فإذا سّكَتُّ تَضَجَّرُوا، وَإِذا نَطَقْـ ҉-;- تُ تَذَمَّرُوا مِن فِكْرَتِي وَشُعُوري
ومن الجليّ أنّ من بين العلل العميقة المسهمة في التّضييق على رؤى الشّاعر وإحراج إقامته في العالم علّة موصولة بطبيعة العلاقة بين الشّاعر وشعبه القائمة رأسًا على سوء الفهم، وهاهنا ينفتح أفق تأويليّ آخر يمكن أن ندرس فيه ظاهرة الاغتراب، ونحن إنّما نعني بذلك الغربة اللّسانيّة تحديدًا، فـ« وفقًا لما قاله لاكان، يدخل الفرد في شبكة من العمليّات الرّمزية، نظام التّداول الّذي يقوم بتمثيله لدوالّ أخرى، وهذا النّظام يفشل كلّية، فتنشأ فجوة بين الذّات وعمليّة التّمثيل الرّمزي للعالم، هنا تصبح الذّات نفسها فراغا، مفتقرة إلى المعنى، وتتشكّل هويّة الذّات من خلال ذلك الافتقار إلى المعرفة، الافتقار إلى المعنى، النّقص في التّمثيل، سوء الفهم الجيّد، العجز عن تعرّف نفسها في الصّورة العقليّة الخاصّة بالإنسانيّة» ، وفي سياق مبحثنا يكون الافتقار إلى المعنى رشحًا عن تمزّق الشّاعر- النّبي بين إقامته على القمم والذّرى حائكًا من خيوط الخيال والرّؤيا وطنه المنشود، وبين وقوعه تحت ضغط النّظام الرّمزي الجمعي، ممّا يستدعي اشتغالًا دؤوبًا على خلق اللّغة وتثوير طاقاتها المكبوتة لغاية إشراك المتلقّي في معايشة الحقيقة العميقة، لا سيّما أنّ ما تطفح به النّبوّة من معان نوعيّة لا يمكن أن تنقال في أشكال نمطيّة، بل لا بدّ من أذن باطنة تحسن الإصغاء وعين قلبيّة تنفذ إلى ما وراء الكثافة، ولكن هل من مجيب لدعوة الدّاعي؟!، لذا أقرّ جبران قائلا:« لم تفهم أمّي لغتي وكذلك المرضع لم تفقه ما قلته لأنّني خاطبتهما بلغة العالم الّذي أتيت منه » ويردف في موضع آخر:« أنا غريب وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسي » . فالشّاعر الرّومنطيقي شأنه شأن المسيح الّذي اُبتلي بقادة عميان هم أتباع الكتبة والفرّيسيين القدامى . ولعلّ نبوّة إشعياء القائلة:« سمعا تسمعون ولا تفهمون، ونظرا تنظرون ولا تبصرون » أفضل الدّلائل على كون النّبوّة تحتاج لفهمها دربة روحيّة عالية دونها الجارحة والحسّ المشترك.
وصفوة القول لقد تحدّدت النّبوّة الرّومنطيقيّة- في هذا السّياق- بصفتها نبوّة سالبة، غير فاعلة، ومرهقة، عجزت عن المواجهة والصّمود. بل إنّ سقوط الذّات الشّاعرة في النّسيان والتّهميش، سيعمل عمل المحفّر على مبارحة الواقع المعيش والهروب بحثا عن هويّات ضائعة تجسّد مركزيّة النّبيّ في الكون وعل حدّ قول جورج غيسدورف ) Gusdorf (Georges:« البحث عن المركز يفرض نفسه كمهمّة أنطولوجيّة، تسلك طريق الوعي المكتسب بغياب المركز». و من المعلوم أنّ فكرة المركز فكرة قديمة قدم الإنسان، مستمرّة في الحضور على الدّوام إذ أنّ « التّاريخ، في نظر شيلينغ، "ملحمة منظومة في ذهن الله، و مكوّنة من مرحلتين: سقوط الإنسانية عن مركزها وتغرّبها عن الله، وعودتها إلى ذلك المركز» ، والرّاجح أنّ الإنسان في العالم الحديث قد خبر تلاشي المركز أكثر من سواه، إذ أصبحنا- مع ماركس(Marx) وفرويد(Freud) ونيتشه (Nietzsche)- على يقين بأنّ حقيقة "الأنا" ليست موجودة في "الأنا"، بل موجودة في البنية التّحتية للاقتصاد، في اللّاوعي، وفي علاقة القوّة بالقوّة إثباثا للحياة . ومن ثمّ أصيبت الإنسانية الحديثة بجروح نرجسيّة انحرفت بها عن مركزيّتها بدءا من اكتشاف كوبرنيك (Copernic) لا مركزيّة الأرض، واعتبار ماركس أنّ الذّات الإنسانيّة ليست مركز التّاريخ، واكتشاف قارّة اللاّوعي مع فرويد الّتي خلخلت مركزيّة الوعي وشكّكت في فاعليّة الجوهر المفكّر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل