الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لعل البحر محتاج الى البلح

محمد الذهبي

2016 / 2 / 19
الادب والفن


لعل البحر محتاج الى البلح
محمد الذهبي
كان يقلب تلك الحكاية ويردد بصوت عال ويقهقه، كم يشبهني هذا البحار الراعي، نعم يشبهني كثيرا، في سوء الطالع وفي اقتناص الفرص الفاشلة، يعود ثانية يقلب الحكاية على اكثر من وجه، تركت تلك المروج الخضراء، والنعاج البريئات، وخففت متجها الى البحر الهائج الذي كنت اتصوره هادئا، منحته ثقتي وبعت اغنامي واشتريت سفينة، حملتها بالبلح، لكن البحر نقض عهده، وهاج في منتصف الطريق، لم يكن يعلم كم هي متقلبة اخلاق البحر، متى يهيج ومتى يهدأ، البحار الذي لايحسب حساب الريح ليس بحارا، وهو لم يكن كذلك ، كان راعيا، لكنه اغتاظ من البحارة، ومما يحملون عند عودتهم من بقاع كانت مجهولة لديه، محملين بانواع الهدايا والتحف والثياب، الاغنام كانت بليدة بعض الاحيان، نعم اعتدت عليها وكانت ترافقني، حتى انني افضل النوم بقربها، لكنني سئمت هذه الحال، اريد ان ارى عوالم جديدة، سابيع الاغنام واشتري السفينة، واملأها بلحا، لاسبر غور عوالم هذا المجهول.
ليتني لم اتبع نزوتي حين تخيلتها، بانها هي المنقذ لي من المأزق الذي وقعت فيه، فصرت كالراعي الذي تقمص دور البحار، عاد الى حكايته من جديد، هاهو البحر هائج ماذا ستفعل، اخذ رأي الكثيرين من المستشارين، فكان الرأي ان تلقى الحمولة في البحر، لتفرغ السفينة، وتكون عودتها الى اليابسة ممكنة، القى المسكين ثمن الاغنام في البحر، ورجع بالسفينة فارغة، قرر ان يغادر البحر، ويعود الى عمله الاول مع الاغنام، وبعد فترة جاؤوا ليبشروه بهدوء البحر ثانية، فضحك عاليا وهو يحمل معزى على كتفيه: لعل البحر محتاج الى البلح، قهقه عاليا، وردد بحري انا دائما محتاج الى البلح، في كل مرة اعيد كرتي السابقة، واعود لمعاناتي، لم اتعظ من كثرة الخسارات، هذا الراعي كان حكيما حين كشف عن خبث البحر، ومعرفة البحارة به وبنواياه، انهم يعرفونه جافا بلا عواطف، ولذا كانوا يتخذون تدابيرهم للتعامل معه.
هو هكذا القى بنفسه في خضم بحر هائج من غير ان يعرف كيف له الخلاص، لم يكن البحر نزهتي، فلماذا اقحمت نفسي في لجته مع الآخرين، تجاوزني بالكثير، حتى بالسنين، عمري حينها لم يكن مؤهلا ان اجادل البحارين عن عملهم واغلبهم، كان فوزا سخيفا وغلبة غبية دفعت ثمنها هيجان البحر المستمر، وقلقي الذي وصل الى حد الجنون، كيف لي ان اعود الى اغنامي، ولا اقنع بكتب التنجيم التي تقول دائما: انك امام مرحلة جديدة ستكون السعادة رفيقا لك فيها، كيف لي ان اهرب من هذا البرج المنافق، واقتنع بان البحارة كانوا على صواب، وانني اضعت حتى السفينة، لم اكن مثل الراعي، لقد تدارك الرجل السفينة وضحى بالبضاعة، لكنني اقف حائرا، لا اريد التضحية بالبلح، ولا اريد التضحية بالسفينة، عليّ ان احتفظ بالاثنين، فماذا ستكون خسائري، نعم ستكون الخسائر مضاعفة، وسأخسر الاثنين، وها انا اشرع بخسارتهما، كان عليّ ان احزم امري، واعيد السفينة للبحارة، لكنني احتفظت بها فكانت النتائج مثلما توقعت.
هاهي تأخذ البلح معها وتغادر باتجاه المجهول وسط بحر هائج، ربما ستصادر حياتي بهذه الرحلة التي صارت طويلة جدا، يا لهذا البحر كيف له ان يقنع الآخرين بالمرور، الم يروا لجاته متلاطمة، الم يحذرهم من قبل حارس الفنار، الم يطلع البحار الاحمق الذي هرب من المواجهة على وحشية البحر، وانه هو السبب في كل ماجرى للراعي حين اقنعه ببيع الاغنام، كان الليل بطيئا ونحن نتبع اثر النجوم في السماء، الليل والبحر عالمان مخيفان، احدهما يعطي للآخر مشروعيته، كشاعر كبير ومهرجان لم يحضره الا الطارئين، يصول ويجول بكل الاتجاهات، موجة عاتية واخرى خفيفة، لكن لا طمأنينة هناك، هناك خوف وترقب بلا حنان او همسات، الماء يصرح بالكثير، في عالم تلاشت حدوده وصار عبارة عن احجية، نعم احجية، مع هذا العمر الطويل لم يزل البحر احجية، احجية كبيرة وعصية على الحل، انفرد به مرات عديدة، ولم يصل معه الى اتفاق، صمت من كل الاتجاهات، ثم ثورة عارمة تقضي على كل شيء.
البحر غريب كغرابة عاشقة موبوءة بعشق قديم، الثورة تسكن ربما في اول قبلة، او حتى في القبلة الاخيرة بعض الاحيان، عندما تدير وجهها هاربة مع احلامها القديمة، هكذا هو البحر عاشقة تخبىء حبها تحت طيات ثيابها، او ربما خبأته تحت جلدها، هي تدعي ان الاخرين لايعرفون، لكنها تفضح ذاتها باول نظرة، وكذاك البحر، عندما تتحرك المياة باتجاه السفينة، تضرب جوانبها بشكل عدواني، البحار يعرف النتيجة، اما الراعي فانه غافل عن تصرفات البحر، عاد الى ذاته ليكشف للآخرين مأساته الكبيرة، في كل مرة ارمي البلح، واعود بالسفينة، والبحر على عادته هادىء ورحيم ويسبح لله، البحر لم يزل جائعا للبلح، هو مشرف على العودة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة بسفينته، وفي كل مرة يكون البحر جائعا للبلح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقابلة فنية | المخرجة ليليان بستاني: دور جيد قد ينقلني إلى أ


.. صانع المحتوى التقني أحمد النشيط يتحدث عن الجزء الجديد من فيل




.. بدعم من هيئة الترفية وموسم الرياض.. قريبا فيلم سعودي كبير


.. المخرج السعودي محمد الملا يتحدث لصباح العربية عن الفيلم الجد




.. الناقد الفني أسامة ألفا: من يعيش علاقة سعيدة بشكل حقيقي لن ي