الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وقائعُ إعدامِ المُحِبِّ -مُمُو-

حفيظ بورحيم

2016 / 2 / 21
الادب والفن


في زنزانةِ ممو شمعةٌ تضيءُ المكانَ، وممو جالسٌ يتأملُ في راحةٍ وهدوءٍ . بعدَ لحظاتٍ أتى حارسُ السجنِ مُدخلاً ابنَ عمه الذي جاءَ للزيارةِ، فأقفلَ البابَ بالمفتاحِ بعدمَا أدخَله وعادَ إلى الخلف متنصتاً على الحوارِ الذي دارَ بينهما.
ابن العم : أخي ممو ما بك ؟ تبدو لي مريضاً فمماذا تشكو يا ترى ؟
ممو (مبتسماً) : لا أشكو من أيِّ شيءٍ خطيرٍ يا بنَ عمِّي. إنها مجرد حمى ستزولُ سريعاً . قد زوّدني ذلك الحارسُ الطيبُ بدواءٍ مكوَّنٍ من أعشابٍ جِيء بها من إحدى غابات بُوطانَ، وقامتْ زوجتُه بصنعِ الدواء منها .وبفضلِ الله وفضلِهم جميعاً أصبحتُ اليومَ بخيرٍ.
ابن العم : حمداً لله على سلامتِك، إنَّ زوجتي أيضاً قد أعدَّت لك هذه المأكولاتِ. تفضَّل كلْ.. فطعامُ السِّجنِ فاسدٌ .
ممو : دعِ الطّعام جانباً وأخبرْني عن حبيبتي زَينَ، هلْ هي فِي أفضلِ حالٍ ؟
ابن العم : إنَّها في أفضلِ حالٍ .
ممو : ماذا عن الصبيانِ الذين نَقَلُوا رسالاَتِي إليها، هلِ اتَّهَمهُم الملكُ بتهمةٍ كتهمَتي ؟
ابن العم : لمْ يُحاكمهم .
ممو (مرتاحا ) : حمدا لله !
ابن العم : أخشى أنَّ لدي أمرا سيئاً أودُّ إخباركَ به يا عزيزي ممو ، فعِدْني بأنَّك لنْ تجزعَ ولن تهابَ.
ممو : لن أجزعَ ولن أهابَ.
ابن العم : (متمتما) لقد .. أرجو أن .. في الحقيقة لقد .. إنهم سوف ..
ممو : تحدثْ يا صاحبي ! فلم أعْهَدْكَ متوتراً ولا محجماً عن قول شيء قبلَ اليومِ.
ابن العم : أرجو أن تصْبِرَ يا ممو ، فهم سيعدمونك غدا أمام الملأ.
ممو : (ضاحكا ) أ هذا ما كنتَ تخافُ قوله لي ؟ رعاكَ الله يا بْنَ عمِّي وحماكَ . فلستُ خائفا من الموت. ومن ذا الذي يخشى لقاء النورِ ؟
ابن العم : لكنَّك سوف تموت معذباً فوق الخازوقِ الذي أحضروه من بلادٍ بعيدة خصيصاً لك؛ حتى تموتَ ميتةً شنيعةً.. ما رأيكَ اﻵ-;-نَ ؟
ممو : وما الفرقُ ؟ الوسائلُ تختلفُ والعالمُ اﻵ-;-خر واحدٌ.. هو عالمٌ ليسَ فيه ألمٌ ولا يأسٌ ولا ندمٌ.
إذا تكلمتُ هكذا فلا تَحسبْنِي متشائماً من الدنيا فلها منزلة بقلبي ومكانة كبيرةً في لبي ، لكنَّ أمرَ الله قضَى عليَّ بالذهابِ، ولنْ أرفضَ هذه الرحلة، ما دام أنَّ تباشيرَ الخيرِ قدْ بانتْ فيها.
ابن العم : أنتَ تهدِّئُ نفسَك بهذا الكلامِ لا غيرُ.
ممو : لا والله ما أهدِّئ نفسِي. فهي هادئةٌ، مستقرةٌ و مرتاحةٌ.
ابن العم : ماذا عن زينَ حبيبتُك ؟
ممو : سنلتقِي معاً هناكَ بلا ريبٍ، ربَّما في ضفةٍ من الضفافِ، أو تحت ظل شجرةٍ من اﻷ-;-شجارِ.
ابن العم : أنتَ لست في وعيكَ ، أنت معتوهٌ بلا ريبٍ . فلا مكانَ لنا بعدَ الموتِ.. هل تريد أن أكلِّم أبِي؛ حتى يبعثَ رسالةً لحلفَائِنا؟
ممو (منزعجا): كلا يا بْنَ عمِّي. حذارِ أنْ تفعلَ هذا الفعل. قدْ حانَ وقتُ سَفري ولا مجالَ للبقاءِ . افهمِ اﻷ-;-مرَ أرجوكَ !
ابن العم : لكنك لم تذنبْ وهذا ما يُحزنُنِي.
ممو : وما ذنبُ سقراطَ وكوبيرنيكوسَ وسيرانو وغيرهِمْ من الناسِ؟ قد عاشوا ما عاشوا ولمْ يُذنبوا، لكنَّ الله اختارهُمْ؛ لكي يعودوا إليه، ولا يصحُّ التراجعُ، كما لا تصحُّ الشكْوى ولا يصحُّ البكاءُ.
ابن العم : لك ما تريدُ . أرجو من الله أن يقلِّلَ ألمَكَ .
بعدَ هذ الحوارِ غادرَ ابنُ عمِّهِ وبقِي ممو في زنزانتِه .وربمَا لَمَحَ الحارسُ نوراً غريباً يُشِعُّ في الزنزانةِ ثم يخبُو تدريجياً، فتملَّكَه الرُّعبُ والخَوفُ ..
*************************************** **************************************
في الغدِ تَمَّ نقلُ ممو إلى ساحةِ اﻹ-;-عدامِ.. ومَا إِنْ رأَى الناسَ، حتى بدأَ يُجِيلُ عينيهِ فيهم واحداً واحداً؛ لكي يراها .. لكنه لمْ يعثرْ عليها .
بعدَ ذلك جاءَ خبيرٌ بالخازوقِ، وتأكَّد من صلابَتِه وحِدَّته، وقالَ لِمومو :
الخبير بالخازوقِ : أتعلمُ شيئا عن الخازوقِ ؟
مومو : أداة للتعذيب والقتلِ معاً . هذا ما درسونَا في جامعة بوطانَ.
الخبير بالخازوقِ (في استهزاء) : وسيستغرقُ بقاءُ الروحِ في الجسد زمناً طويلاً قبل أنْ تخرجَ . وقبلَ أن تخرجَ بقليل سيكونُ جسدُك قد بلغ قمةَ اﻷ-;-لمِ. فهل ستجزعُ أم ستنادِي على أبيكَ ؟
مومو : ليس لي أب .. لن أجزعَ، وإذا جزعَتُ سأنَادِي على اللهِ.
الخبير بالخازوق ( ضاحكا ) : لا تحاولْ ؛ لأنَّ أحداً لنْ يسمعَكَ ما عدا هؤلاءِ النَّاس وأنا.. أمَّا مليكنا ، فهو كما تعلم لا يحِّب أنْ يرى وقائعَ اﻹ-;-عدامِ.
مومو : رائع . هل نبدأ اﻵ-;-نَ ؟
الخبير بالخازوق : نعم .
نظرَ مومو مرةً أخرى إلى الجَمعِ فلم يرَ حبيبته، ورأى الناسَ يصرخونَ، وبعضُهُم يستهزؤون مِنهُ . تذكَّرَ طفولَته وتذكَّرَ أمَّه وتذكر حبيبته التي كانَ قدْ تعرَّفَ عليها في جامعةِ بوطانَ، تذكَّرَ حديقةَ اﻷ-;-ملِ التي كانا يجلسانِ فيهَا ويلعبانِ بأرجُوحَتِها. تذَكر كلماتِ الحبِّ وقصائدَه التي ضاعتْ. وتذكَّر يومَ انزعاجهَا منه وانزعاجِه منها. وتذكر لمسةَ اليد منْها وطولَ الطريقِ الذي كانَا يعبُرَانِه تحتَ أشجارِ الصنوبرِ. تذكرَ أولَّ مرةٍ قالَ لها : أحِبُّكِ.
وبعدَ لحظَاتٍ، اخترقَ الخازوقُ جسدَ مومو. فظَل يتألمُ وصوتُه حبيسٌ لا يسمَعُ إلا في أخفضِ نقطَة من وجدانِه. علِمَ أنَّه لا يملكُ مفراً إلا أن يلقَى هذا الحتْفَ المريرَ.
ونزفَ حَتَّى فقدَ أغلبَ الدَّمِ الذي يحَرِّكُ دورةَ الحياةِ في أعضَائِه .. وفي تلك اللحظةِ بالذَّاتِ فَتَحَ عيْنَيْهِ وتمَثَّلَ صورةَ طفلٍ صغيرٍ محتقرٍ لا يملكُ أباً.. أغمَضَهُمَا فبدَا غائباً عن الوعِي .
اقتربَ الخبيرُ ليتأكَّدَ من موتِه، فَصَدَقَ حدسه. لكنَّ الأمرَ الغريبَ الذي أثَارَ شَكَّهُ وعَجَبَهُ أنَّ الفتَى كانَ مُبْتَسِمًا وعلَى وجْهِه آمَارَاتُ الرَّاحَةِ والاطْمِئْنَانِ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري