الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأيديولوجيا و السلطة السياسية

باقر جاسم محمد

2005 / 11 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


تتعدد حدود الأيديولوجيا و تعريفاتها بتعدد مظاهرها و تشابك علاقاتها و تجلياتها مع كثير من الظواهر الاجتماعية و النفسية و الاقتصادية و الفلسفية و المعرفية و الأنساق الرمزية حتى ليمكن القول أن من الصعب، إن لم يكن من المحال، اعتماد تعريف واحد جامع مانع لها. و يرتبط كل تعريف بمدخل معرفي أو مدرسة فكرية تستند إليه و تتخذ منه موجها منهجيا في الوصف و التحليل و الاستنتاج. و لو بدأنا بتفكيك مصطلح الأيديولوجيا نفسه، وهو بالإنجليزية ideology) ) لرأينا أنه يتألف من مقطعين هما: "ideo " الذي يعني الأفكار؛ و اللاحقة "logy " المتكررة في مصطلحات كثير من العلوم و التي تحتمل معنيين هما: الأول هو "علم " أو" دراسة " ؛ و الثاني هو الكلام أو "logos ". و بهذا فإن المعنى الحرفي للمصطلح هو علم دراسة الأفكار أو الكلام في الأفكار.
إن المعاني الاصطلاحية للفظ ، و هي كثيرة، تتجاوز المعنى اللغوي إلى حد بعيد. و لا يتسع المجال هنا لعرض المعاني الاصطلاحية كافة و مناقشة أوجه اختلافها عن المعنى اللغوي فهي قد تشغل كتبا برمتها. لذلك سنكتفي بإيراد تعريفنا الذي سنعتمده في هذه المقالة. و هو تعريف يعتمد على كون الظاهرة الأيديولوجية ظاهرة سياسية في الجوهر. فالأيديولوجيا تشير إلى منظومة فكرية و رمزية مبنية على جملة من الأسس و المسلمات التي تتخذها الجماعة البشرية، التي قد تكون جماعة دينية أو عرقية أو طبقية أو جهوية أو فئوية، منطلقا و منهجا لها في العمل السياسي و الاجتماعي و الثقافي في مرحلة تاريخية معينة. و تسعى هذه الجماعة إلى دعم هذه المنظومة الفكرية و الرمزية و نصرتها إزاء المنظومات الفكرية و الرمزية المنافسة لها داخل المجتمع . و هذا يوضح الجانب الصراعي المتلازم مع الجانب السياسي للأيديولوجيا.
و تؤدي الأيديولوجيا وظائف مختلفة. فعلى المستوى النفسي، تكون وظيفة الأيديولوجيا توفير الشعور بالانتماء الحميم و الوحدة لأفراد الجماعة التي تعتنق الأيديولوجيا نفسها فيحل مفهوم " النحن" بدلا من مفهوم " الأنا" ، مع ما يوحي به هذا الانتماء من قوة و ما يعد به من امتيازات. و قد تكون الأيديولوجيا نوعا من العقل الجمعي. و على المستوى الاجتماعي تقوم الأيديولوجيا بوظيفة تجسيد الوعي الطبقي أو الديني أو المهني لمكونات المجتمع المختلفة و تمثيل إراداتها بشكل برامج و تنظيمات سياسية و حزبية تميزها عما سواها كما تقوم الأيديولوجيا بمهمة اللحمة الرابطة للمجتمع. و على المستوى السياسي تختلف وظيفة الأيديولوجيا بين مرحلة ما قبل تسلم السلطة و مرحلة ما بعد تسلم السلطة. ففي المرحلة الأولى تعمل الأيديولوجيا، بوساطة معتنقيها، على نقد السلطة القائمة للأيديولوجيا المنافسة لغرض إظهار تناقضاتها و عيوبها و تعبئة الرأي العام لإزاحتها و الحلول محلها أما بوساطة الانتخابات أو بالقوة عبر الانقلابات العسكرية. و ما أن يتحقق لها ذلك حتى تبدأ وظيفة المرحلة الثانية المختلفة تمام عن وظيفة المرحلة الأولى. و سيكون أهم مظاهر وظيفة الأيديولوجيا في هذه المرحلة الدفاع عن السلطة الجديدة و إجراءاتها و تسويغ أخطائها و دعوة الناس إلى دعمها من جهة، و التحلي بالصبر و تفهم الظروف قبل المطالبة بتحقيق الوعود التي بذلت قبل تسلم السلطة وعدم الانجرار مع خصومها الأيديولوجيين أو الاستماع إلى أقاويلهم. و لعل هذا الفهم يكشف الطابع النفعي للأيديولوجيا و افتقارها إلى البعد الأخلاقي بحكم ارتباطها بالسياسة. و هذا الكلام وصف للأيديولوجيا و ليس نقدا أو تقويما لها.
و سواء أكانت الأيديولوجيا وعيا محدودا و زائفا كما يذهب إلى ذلك ماركس، أو إطارا موحدا و مشابها للوعي الجمعي للجماعة البشرية كما يقول الأنثروبولوجيون ، أو هي كل ما لا ينتمي إلى حقل مقولات العلم من أفكار كما في الفهم المعرفي للمصطلح، فإننا بالرغم من كل ذلك نلاحظ أن أهم خصيصة للأيديولوجيا هي أنها ليست من النوافل أو مما يمكن الاستغناء عنه. فهي ضرورة مطلقة للإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا حتى ليمكن أن نصل إلى توكيد أهميتها بأن نقلب الأمر و نعرف الإنسان بأنه كائن أيديولوجي. إنها حاجة أساسية للفرد لأنها تأتي بالمرتبة الرابعة بعد الحاجة إلى الطعام و إلى الجنس و إلى الأمان. و هي حاجة أساسية للمجتمع لأنه لا يمكن تصور مجتمع حديث أو قديم دون وجود سياسة محددة توجهه داخليا و خارجيا. و تعتمد هذه السياسة على أيديولوجيا معينة قد تكون دينية موروثة أو مأخوذة من إحدى الفلسفات أو تمثل مزيجا من أفكار عامة لها تطبيقات سياسية ملموسة مثل أفكار الحرية و حقوق الإنسان. فالسياسة إذن هي الوجه الآخر لمصطلح الأيديولوجيا. و يمكن استخدام أحدهما بدل الآخر. و إذا كانت الأيديولوجيا ضرورة كما قلنا، فإن لها ضررا بليغا لا يمكن نكرانه إن تركت دونما مراقبة من المواطنين الذين هم الجهة الوحيدة التي بإمكانها، و عبر الممارسة الواعية لحق الانتخاب، أن تقلل من أضرار الممارسة الأيديولوجية السيئة، تمنع من تحولها إلى الدكتاتورية.
و ترتبط الأيديولوجيا بالسلطة و ممارسة السلطة ارتباطا وثيقا. فالسلطة هي الهدف و الدافع و المحرك الأساس للفعل الأيديولوجي. و نحن هنا لا نقصر مصطلح السلطة على الممارسة السياسية فحسب. فهناك صور و مستويات مختلفة لممارسة السلطة غير الممارسة السياسية التشريعية و التنفيذية التي ترد إلى الذهن عند ذكر السلطة. فهناك أنماط من السلطات المختلفة كما يقول فوكو. إذ فضلا عن السلطة السياسية التي تنقسم بدورها إلى سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية يمكن أن نذكر ما يأتي: السلطة الصحية و السلطة القضائية العقابية المرتبطة بالقانون و السلطة التعليمية و سلطة القيادات النقابية و السلطة داخل الأحزاب السياسية و السلطة الأبوية داخل الأسرة. و لكن تظل ممارسة السلطة السياسية هي الهدف الأسمى للممارسة الأيديولوجية لكونها هي الأصل الذي تستمد منه بقية صور و مستويات ممارسة السلطة شرعيتها. فهي التي تملك من الوسائل و الإمكانات ما يجعلها تؤثر في شتى صور ممارسة السلطة و ترسم لها حدودها و تقرر لها صلاحياتها. و قد يقول قائل أن الصور الأخرى لممارسة السلطة تؤثر بدورها في السلطة السياسية و بالأيديولوجيا خاصتها, فنقول إن ذلك التأثير محدود. و هو تأثير يصب، في الغالب، في صالح الأيديولوجيا القابضة على السلطة و يخدم أغراضها و ليس العكس. و لكن ذلك لا يعني عدم قدرة الأيديولوجيات المنافسة على التأثير على ممارسة السلطة داخل النقابات و الاتحادات و بقية منظمات المجتمع المدني. فهي تستطيع أن تؤثر، خصوصا مع توفر ظرف سياسي منفتح نسبيا، كما هو الحال في مصر حين سيطر الأخوان المسلمون على النقابات التي تضم شرائح اجتماعية مثقفة مثل نقابات المحامين و الأطباء رغم ممانعة الأعضاء من أتباع أيديولوجية الحزب الوطني الحاكم. لذلك نرى أن جل ما تطمح إليه الأيديولوجيا هو الوصول إلى قمة هرم السلطة. ثم تبدأ بإعادة ترتيب البنية السلطوية، و عبر التشريعات و الإجراءات التنفيذية، بما يؤمن لها أكبر قدر من الاستمرار في الجلوس على قمة السلطة. و هذا الميل نحو الاستئثار بالسلطة متأصل بالأيديولوجيا، وهو إحدى سماتها الأساسية سواء أكانت شمولية أم ليبرالية. كما أنه مكمن الخطر و مصدر النزعة الاستبدادية التي تبدأ عادة داخل الجماعة الأيديولوجية نفسها، ثم تمتد لتشمل المجتمع برمته حين يتاح للجماعة الأيديولوجية المعنية أن تتبوأ السلطة؛ و خصوصا إذا كانت هذه الجماعة محكومة داخليا على نحو استبدادي و تفتقر إلى الديمقراطية و حرية الاختلاف بين المنخرطين فيها.
إن قوة أيديولوجيا ما و ضعفها لا يرتبطان بمدى رصانة و تماسك أطروحاتها الفكرية بالمقارنة مع أطروحات الأيديولوجيات الأخرى. إذ مع الإقرار بوجود معايير واضحة لمثل هذه المقارنة فإن الأطروحات الأيديولوجية نفسها تظل عصية على التوصيف الموضوعي لكونها تمثل قناعات عقدية قبلية ليست موضع بحث أو مقارنة بالنسبة لمن يؤمنون بها. لذلك يصح القول إن أحد أهم شروط عقد مثل هذه المقارنة هو الحياد التام للباحث إزاء الأيديولوجيات المختلفة التي يقارنها فضلا عن رسم منهج واضح يجعله على مسافة متساوية من جميع العقائد و الأفكار التي تعتنقها الأيديولوجيات المختلفة. و هو أمر صعب التحقق. و عموما فإن مثل هذه المقارنة ستكون ذات طابع نظري بحت. و هي قد تكون ذات قيمة كبيرة من ناحية منهج نقد الأفكار الذي يمثل حقلا معرفيا صعبا. أما المعايير الأساسية الذي يمكن أن تعتمد في مجال تقويم الأداء السياسي الفعلي للأيديولوجيات المختلفة و معرفة مقدار قوتها و حظها من النجاح فهي تتمثل عمليا، في تقديري، في جملة أمور منها:
1. سعة القاعدة الاجتماعية التي تحظى بها الأيديولوجيا و ثباتها النسبي. و تعتمد سعة القاعدة الاجتماعية على جملة مؤشرات أهمها: تاريخ الأيديولوجيا المعنية و مقدار التوافق بين البنية الفكرية للأيديولوجيا بالمعنى السياسي الضيق و الأيديولوجيا بالمعنى الثقافي العام المتمثل بالموروث الديني و العادات و التقاليد الراسخة،و عمق و رصانة الأفكار و التحليلات التي تطرحها، و جاذبية الشخصيات القيادية التي تروج لها.
2. صلة أطروحات الأيديولوجيا و برامجها بالقضايا و المشكلات السياسية و الاجتماعية الكبرى التي تشغل القوى الاجتماعية المختلفة في الظرف التاريخي الذي يعيشه المجتمع و قدرة الأيديولوجيا على عكس تطلعات القوى الاجتماعية الفاعلة في صلب الحلول المقترحة لحل تلك المشكلات و حشد التأييد لها.
3. و بعد أن تكون الأيديولوجيا في السلطة، فإن طبيعة الوعود التي قدمتها الأيديولوجيا للمجتمع و مقدار المتحقق منها على أرض الواقع و السياسات التي اتبعتها في تحقيق تلك الوعود ستكون حاسمة في اتجاهين؛ فهي أما ستسهم في زيادة الأيديولوجيا قوة بزيادة عدد المنضوين في صفوفها أو القابلين عن قناعة بأدائها السياسي. و ذلك حين تنجح الأيديولوجيا في تقليص الفجوة بين وعودها و ما حققته فعليا. أو هي ستؤدي إلى إضعاف قوة الأيديولوجيا و النيل من هيبتها تدريجيا في حال اتسعت تلك الفجوة .
4. قدرة الأيديولوجيا على فهم المتغيرات الدولية و الانفتاح عليها و التعامل معها بشكل يؤمن المصالح الوطنية و يحفظ المجتمع من الأخطار الخارجية و بناء تحالفات إقليمية و دولية لمصلحة الوطن. و ذلك للترابط الوثيق بين تلك المتغيرات الخارجية و التنمية الاقتصادية و السلام الاجتماعي الداخلي للبلاد خصوصا بعد ثورة المعلومات التي جعلت العالم ليس قرية صغيرة فحسب ، بل بيت يعلم كل فرد يعيش فيه كل شيء عن الأفراد الآخرين و يتأثر بهم و يؤثر فيهم.
5. وجود جهاز دعاية و إعلام( صحف، فضائيات، محطات إذاعة) ذي خبرة و كفاءة يدعم الأيديولوجيا عن بصيرة لا عن عمى. و يبشر بها بصورة غير مباشرة. و ينوه بإنجازاته الفعلية و ذلك بصيغة تعتمد المزج بين الترفيه و الفائدة العلمية و الخبرية. و حاجة الأيديولوجيا إلى جهاز الدعاية تفرضها حقيقة أن حقل الدعاية متاح للأيديولوجيات المنافسة. لذلك لا بد من إدامة عوامل قوة الأيديولوجيا عبر مثل هذا الجهاز.
وهكذا نرى أن الأيديولوجيا ظاهرة شاملة و موجودة في كل المجتمعات و في كل الأزمان. و لا نحسب أنها ستنتهي كما يزعم بعض مفكري الغرب مثل ريمون آرون و فوكوياما. و ذلك أنها من لوازم الاجتماع الإنساني التي ترتبط بالسلطة السياسية على نحو يجعل من ذكر أحدهما يستدعي الآخر تلقائيا. وهي ليست مما يستحق التنديد أو المديح بحد ذاته. فأنت حين تشتم الأيديولوجيا إنما تتبنى موقفا أيديولوجيا. و إنما المهم هو كيف يمكن أن تكون ممارسة الأيديولوجيا نزيهة و تخدم تطور المجتمع لاأن تكون وسيلة للتدليس و الكذب تحقيقا لمنافع ذاتية. و لكن الفيصل في ذلك هو وجود نمط من الرقابة المجتمعية التي تمنع تحول ممارسة السلطة السياسية ممارسة للغلبة و القهر السياسي. و لن يكون ذلك ممكنا بدون الديمقراطية و الانتخابات.
ملاحظة خارج المتن
و أخيرا ، كيف يمكن للمرء قراءة الوضع العراقي الراهن و ما يكتنفه من فوضى أيديولوجية ضاربة؟ لن أكون قيما على أحد في فهمه لما يدور في الساحة السياسية العراقية الآن. و لكنني آمل أن تكون هذه المقالة ذات فائدة وهو يتوجه للانتخابات المصيرية في 15/12/2005. و آمل أن يزداد المواطن العراقي بصيرة بعد قراءة هذه المقالة فيكون أكثر وعيا و هو يتقدم ليعطي صوته لهذه الجهة أو تلك. فهذا الصوت سلاح سياسي فعال يقرر مصير البلاد في الحقبة القادمة. إذن فلنعط أصواتنا لمن يستحقونها عن جدارة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يهدد بإيقاف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل ما تبعات هذه الخ


.. أسو تتحدى فهد في معرفة كلمة -غايتو- ????




.. مقتل أكثر من 100 شخص.. برازيليون تحت صدمة قوة الفيضانات


.. -لعنة الهجرة-.. مهاجرون عائدون إلى كوت ديفوار بين الخيبة وال




.. تحديات بعد صدور نتائج الانتخابات الرئاسية في تشاد.. هل تتجدد