الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرصة هدف

عباس مدحت محمد البياتي

2016 / 2 / 23
الادب والفن


فرصة هدف ( قصة قصيرة من كتابي فرصة هدف)

لم يمنعني حجمي الصغير، ونحول جسدي، من أن أَدْخُلْ انفي في معترك كرة القدم. تلك الأمنية التي لازمتني منذ حداثة سني، بدأت تنمو وتورق اغصانها جدلا، على ضفاف صبري وشاطئ حلمي.
كثيرا ما حاولت أن اشارك أولاد محلتنا أهواءهم، ورغباتهم، واهتماماتهم، لكن دون جدوى. رفضهم المستمر لي! حل كالصاعقة على واقع حلمي الفتي، فأحاله إلى هشيم منثور على ضفاف الصمت المرعب، في اديم احساسي. كان يرهقني، يلاحقني، إلى حيث أن أتيه في وحل ظني. يتبع خطواتي الوئيدة نحو مسلة النجاح، يحيل هشاشة الثقة المتعلقة بإصراري، الى عصف مغبر أمام واقع قدراتي الفتية. يجعلني أعيش على جمر الوحدة، تلك التي لا أتحمل مر سوطها القاسي. فأزداد ارتباكا وهمجية، نحو ذاتي - وكأنّ كياني وتكويني الخلقي، هو المانع الذي يحيل أحلامي إلى مجرد أوهام مدفونة في الثرى. ذلك الكارت الأحمر! الذي يرفعه زملائي بوجهي، يحيل صبري إلى مرارة ذائبة في صمتي. يحيل البسمة والمرح، إلى حزن داكن يتملكني. أو ربما إلى دموع تحتقن العيون الواجفة. فأتنازل عن صرح كبريائي العتيد، ذلك المنبر الذي أعتز به كثيرا، فأجهش بالبكاء بعيدا عن أنظارهم وتعليقاتهم. كطفل يرتجي بصمة الأمان في سراب أمنياته.
كل ذلك كان دافعا لي لأخطط بفكر صافي، وعزيمة قوية، لغد أفضل. أن أبدأ المشوار من الخطوة الأولى، على أن أرسم خارطة طريق واضحة المعالم، نحو أهداف أكبر مما تجول في خاطري. إلى الشهرة، إلى الغاية، والشخصية. تلك التي أراها تتراقص أمام أعين خيلائي، تبتسم لي ومن ثم تختفي خلف وشاح الحسرة والألم. تلك التي دغدغت عزيمتي، وأوقدت شموع الحلم في خاطري. تلك التي تركتها معلقة على عاتق الصبرِ والمثابرة والعمل الجاد. بعيدا عن أنظار من يجحف بقدراتي ويقلل من شأني وعزيمتي، ويحكم على ضعف إمكاناتي الفتية بالموت المدقع. تلك الأمنية التي لم أجد من يؤازرني عليها، أو يشجعني على تنمية مهاراتي بها، سوى والدي الذي منحني معطف عطفه وحنانه، على الرغم من أنه مدرك تماما بمحدودية إمكاناتي الفنية، وقدراتي الجسدية.
بدأت أشاهد المباريات عبر التلفاز، وقد نما هذا الولع في خاطري، حتى أصبح من اولويات عزفي واهتماماتي. كنت أحفظ الحركات والفنيات، التي يبدع بها اللاعب المحترف - وفي اليوم التالي أحاول أن أطبقها على قدر المستطاع، بحذافيرها، في تقليد أعمى لتلك المهارات. شيئا فشيء؛ نمت في أقدامي بذور تلك المهارات. بت أسندها بالتمرين المكثف. تحفزت الثقة في نفسي، ارتفعت اشرعتها في أعماق هوسي. أصبحتُ أكثر حكمةً وولعاً في الكرة. تطورت قدراتي الفنية، أحسست بتناغم الألفة بين قدميَّ وسطح الكرة. بل شعرت بامتداد الحوار بينهما إلى ضفة التلاقي. تحولت تلك العلاقة من مجرد ألفة سطحية، إلى صداقة حميمية وولع أزلي. من صداقة مرحلية، لحب وعشق استثنائي. عشق غريب يسحرني، يشغل تفكيري. حتى إنني أصبحت أول المعجبين بإمكاناتي الفنية.
هذه الاهتمامات الكروية أنستني جانب مهم من اهتماماتي المدرسية. بل أصبحتُ أقل نشاطاً وعلما. تدنى مستواي الدراسي عن مستويات الطلبة، مما دعا الأساتذة إلى توجيه عقوبة التنبيه المتكرر لي، وأحيانا تصل تنبيهاتهم إلى درجة التوبيخ والعقوبة الصارمة، التي تجيزهم بطردي أو رسوبي. ولكن كل هذا لم يثنيني !لم يمنعني من التواصل بثقة نحو الهدف الذي رسمت خطوطه الأولية على صفحات ذهني. كان هذا هو بمثابة تحدٍ لذاتي ولكل الزملاء في فريق محلتنا، بعد أن أقحم يقيني الشك المتراخي، الذي لاحقني وأرهقني كثيرا فيما مضى من العمر..
لم أعد تلك الأيام التي مضت، أو الشهور التي مرت. لكنها فترة ليست بالقصيرة. ما أتذكره !هو إصراري الوحيد على النجاح، والجهد المبذول، والمثابرة، على أن أدرك غايتي المنشودة. ما كان ينقصني بعد هذه الفترة المشحونة بالتدريب المستمر، هو إبراز قدراتي في محك حقيقي، وتجربة حقيقة، ضمن مضمار حقيقي. كنت أبحث عن ضالتي والفرص السانحة في ألواح الحظ، وعيون المدربين، وفي كل مكان أتواجد فيه. حتى في الفرق المتأخرة في ذيل قائمة المنافسة. بل أني ذهبت بعيدا عن اللياقة الرياضية، حين بدأت أبحث عن وساطة ما تنتشلني من وحل الهوس والتمني الذي يلازمني، لواقع الحلم والحقيقة. عن فرق غريبة لا تجمعني بها أية صلة!، أو وشائج محبة، أو معرفة معينة. لا بد من إقحام نفسي في مشاركة ما، كي أُثَبِتْ مسمار الثقة في لوح جسدي الفني. لتكون الدوافع أكيدة في مؤازرة روح المغامرة في أفق اللعبة، لكي لا تهتز أوصالي أو ترتعش، أمام أية تجربة مرحلية أو مستقبلية..
لم تطل الفترة المرجوة التي كنت أنتظرها، حتى جاءت الفرصة على طبق من ذهب، هبة من الله عز وجل. حين تغيب أحد أبرز المهاجمين عن فريق محلتنا، أمام منافس قوي، غالبا ما فرض هيمنته وإمكاناته على فريق محلتنا. ليمنحني الحظ فرصة العمر!، التي ستغير مجرى تأريخ حياتي. وقد صدق المثل القائل ((مصائب قوم عند قوم فوائد)). حين إذ منحت نفسي تلك الفرصة الجليلة، فقدمتها للمدرب الذي كان في أوج الحيرة من أمره، لتعويض النقص الحاصل في فريقه. في حقيقة الامر كان مجبرا على قبول عرضي، لتغيب ثلاثة أو أربعة من عناصر فريقه الأساسية لأسباب أجهلها. لذا بعد أن أوصدتْ أبواب الخيارات أمامه تماما، رضخ لطلبي بالانضمام لفريقه، على الرغم من أنه ليس لديه فكرة واضحة عن قدراتي الكروية.
دخلت لساحة الملعب، والنشوة تملكت هواجسي!، طارت بي على أجنحة الفرح، ذهبت بي لقرص الشمس، لأبرز من هناك بكل طاقتي وعنفواني. وبمعية خيوطها الذهبية، بت أزيح هالة الظلام التي أغشت عيون الزملاء، وتلك النقطة السوداء التي نُقشتْ في قلوب المشككين بقدراتي، والمغرضين الذين لسعتهم سعادتي الآنية!، والمنافقين الذين أزعجهم وجودي كعنصر أساسي في الفريق!. نشوة لم أشعر بها من قبل، كوني لم أجربها، أو أصاحبها!. وكوني لم تمنحني الحياة قوة عضلية، وفرصة حقيقية، لأصنعها بنفسي. أو لتصنعني هي في ظرف أفضل مما أنا عليه. تجربة سأمثل بها فريق لم يتقبلني كشخص فيما سبق، ولم يقبلني كلاعب في صفوفه، ولم يقتنع بإمكاناتي الجسدية والفنية.
اضافة للنشوة الطاغية التي غمرتني، شعرت برهبة مبهمة تتخلل هواجسي، تمخر أوصال جسدي، كونها أول تجربة تفسح لي أمام جمهور كبير، ووجوه معروفة لها باع طويل في مجال الكرة. لكني لم أدع قيد الشك أن يعيق مزلاج يقيني، ذلك النبض المشع في أعماقي كضوء مداجي، يزيح ظلمة الأمس من أفق المسير. بدأت كما تبدأ الحياة بنعومة أظافرها. التوجس، والحذر، عكازتان أتكأ عليهما في عزم وإقدام. أشعر بهما كالعرق الذي يتصبب من جسدي، بللا قميص إصراري. ففي كل خطوة أخطوها أفكر في لغز الكرة، أبحث بها عن عقدة الألفة بين القدم والكرة.
أصبحت مسارات تحركاتي في الملعب من الأولويات الأساسية، في بزوغ ما خفيَ من مهاراتي وقدراتي الفنية. بدأت اللعب بثقة عالية جدا. أحاكي الكرة في مساراتها، أداعبها براحة قدمي، أمنحها ثقتي وقدراتي، تبتسم لي، ترقص تحت قدميَّ، تصاحبني، ترافقني أينما ذهبت، فتمنحني عشق جميل، وأحساس مرهف بالأمان. أركض بها وهي تتدحرج أمامي برغبة جامحة وعشق عميق، كأنها تقرأ ما يدور في سطور فكري، وما يستهوي ذهن قدمي. أشعر بها تستهوي مهاراتي، كأنها لا تود أن تفارق حنان قدمي، ولا أن تتخلف عن رغباتي، أو تخاصم فكري، أو تفكر في خصام أهوائي. ملتصقة بقدمي كالمرونة، والحركة التي استهويها، صارت الوشائج حميمة، يجتمعان على آصرة الفن ولغة الأبداع. يتحاوران، يتغازلان، تذهب بعيدا وتعود اليه بشوق ولهفة، وشغف أكبر مما كانت عليه. يحيط بهما عشق سرمدي، يلتف حولها وتلتف حوله، وكأنَّهما مرتبطان بميثاق عهد وعبودية، ختم على مصيرهما. أدركت غاية القدم فاستمالت لأهوائه. فازددت سحراً، وتحرراً في الملعب. كما ازدتُ ثقة ويقين في ذاتي. حتى اصبحت لغة الحوار يسمعها الجمهور، يطنب لبراعتها ويسترخي على سحرها ويتتبع شغافها. بل اصبحت أكثر من أن تكون لغة عشق وتخاطر. أضافة للغة الفن احتفت ببراعة لغة العقل، كلغات البرمجة الكمبيوترية، بحيث بإيحاء من العقل باتت تستجيب الكرة لدوافع القدم، وتفسير ذهنه.
بدأت أسمع تصفيق الجمهور المرتفع وهتافاته الصاخبة، كلما أمسكت بالكرة أو تحكمت بها. أو من خلال توزيعاتي الكروية، أو حين أدفعها، أو أضربها باتجاه الهدف. مرة تلو المرة أزداد ثقة ومعرفة باتجاه أو طريق الهدف. وأحيانا أشعر بالكرة تكافئني !، حين تتدحرج أمامي حسب رغباتي. أو أنا الذي أكافئها حين أحيدها عن انحرافها. ومع ازدياد التشجيع، وتعالي الأصوات باسمي، وفرحة المدرب بالمستوى الذي أقدمه، ذلك ما لمحته من خلال تشجيعه المستمر لي، ومنحي الثقة الكاملة في استمرارية تحركاتي وتوزيعاتي المربكة للخصم. أحسست بمسحة الأمان، والفرحة المرسومة على وجوه الزملاء، كان ذلك واضحا من خلال تلميحاتهم، وتشجيعهم لي (أحسنت يا حسن) المتكررة.....
ومن فرصة مواتية، لم أدعها تُلفت ذهن الحارس إليها، ومن ضربة مباغتة على هدف الخصم، منحت فريقي فرصة التقدم بتسجيلي الهدف الأول. هذا الهدف الذي ألهب حناجر الجمهور، بدأت أسمع الهتافات تزداد وتتعالى باسمي. وبدأ الفريق المنافس يشعر بفعل خطورتي. لذا صار يراقبني عن كثب، بل يرمي بثقله اتجاهي كلما أمسكت بالكرة أو تقدمت بها. مما جعلني أمنح زملائي فرصة التحرر والتقدم نحو هدف الخصم. تمكن فريقنا من تسيد أرجاء الملعب.ازدادت هجماتنا، وتسديداتنا. شيئا فشيء أحسَّ فريق الخصم بانكساره الأكيد، ولا مناص من التملص من هزيمة أكيدة. هذا ما دفعهم إلى تغيير سلوكهم، وتعاملهم معنا. باتوا يعتمدون على الخشونة الزائدة، كي لا تزيد عدد الأهداف في مرماهم. وكانت الخشونة بحد ذاتها عامل مرعب بالنسبة لي، لنحول جسدي، وخاصة عندما أمسك بالكرة. ازدادت خشونتهم معي بالذات!، وكأني القطب الأوحد الذي أخلّ بالتوازن لصالح فريقنا!. بينما كان فريق الخصم قبل أن ينزل الى الملعب، على ثقة تامة من تجاوز حاجزنا، وعبور قنطرتنا، وتجاهل إمكاناتنا. هذا ما كان يتوقعه مسبقا. وكان واضحا وضوح الشمس على تعابير وجوههم واستفزازاتهم الغير مجدية، وسلوكهم العدواني قبل أن تبدأ المباراة.
ومن فرصة ثانية مواتية لتسجيل هدف ثان قبل أن تنتهي المباراة بدقائق، وبعد أن تقدمت بالكرة مراوغا المدافع المتقدم والظهير الأيمن، تمكنت من أن اجتياز المدافع المتأخر بيسر .. أصبحت بمواجهة الهدف بالمباشر، وقبل أن تسنح لي فرصة التسديد على الهدف، منحني أحد اللاعبين دفعة قوية من الخلف، مما جعني أفقد توازني وأصطدم بالقائم القريب وبشكل مباشر بقدمي الأيمن، ليحدث به هذا الاصطدام شرخا عميقا بالكاحل، وتمزق بالعضلة. فكانت صرختي العالية قد تزامنت مع صافرة الحكم، تلك التي منحتنا ضربة جزاء مُحقة، وكارت أحمر للاعب الخصم.
لكن دموعي التي انهمرت من شدة الألم، لم تمنع الابتسامة أن تغطي وجهي بملمسٍ من حرير السعادة الناعم، تلك التي أشرقت مع شمس الفوز الأكيد، على صبح الفريق الجديد. تلك التي عبق بها الحلم في اعماقي، كعبق أورق زهرة الجوري. تلك التي تخطى عبيرها أنوف الجمهور المتحمس. صورة النجاح تلألأت كالنجمة في سديم الظلمة.. ذلك ما شاهدته في وجوه الزملاء، وخاصة المدرب الذي تألم كثيرا على خروجي من الملعب. وعلى كثرة الثناء، والمديح الذي ملأ فضاء أذنيّ. إصابتي لم تمنع الفرح والبهجة من أن ترسم إشراقة الحلم في وجهي، بعد أن تحققت غاية صبرت عليها طويلا. لكن على الرغم من النجاح اللافت للنظر، والذي تحقق على نار الصبر الهادئة، إلا إني شرعت أفكر بهدف أكبر. فالطموح لازال صغيرا في أول مشواره، والغاية مرادها كبير، والطريق إلى قمتها طويل. وما تحقق هو أول الغيث، حيث إن الأهداف دائما ما تكبر بكبر العطاء المبذول(واذا عزمتم فتوكلوا) صدق الله العظيم.

عباس مدحت محمد البياتي- السويد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب