الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صرخة

صبا مطر

2016 / 2 / 23
الادب والفن


لم يكن للجسد غير ذاكرة واحدة, تلك التي تربعت في دهاليزها صرخة مزقت احشاء الكون في ذاك المساء الشتوي الغابر الا ان احدا لم يسمعها فتناثرت في الاثير البعيد وظل الوجع قائما مثل شفرة حادة, تمزق احشاء الروح ليسيل نزيفها الساخن منسابا من قنوات دمعية شتى تفجرت من ذاكرة منهكة مالبثت تستحضر احداث ذلك اليوم وتلوكه كمن يلوك آلامه بصمت موجع. هكذا كانت حميدة الفتاة الريفية الخرساء تشاهد جسدها مضمخا بالالم بعدما تعرضت لحادثة لم تقدر على ايضاح مفارقاتها ولم تشر باصابع الاتهام الى الجاني الذي عرفته جيدا, فتلفعت بحزنها الكئيب كمن يتلفع بعباءة ليواري احزانه خلف لونها الداكن!.
كان خطيب القرية رجلا شديد اللهجة حاد القسمات, ذا صوت جهوري يجلجل في خطب الجمع التي يكثر فيها من الوعيد والتهديد راسما بكلماته الملتهبة محيطا ضيقا يحكم فيه لجامه الناري على تصرفات الناس وفطرتهم الازلية. يكثر من الحديث عن العقوبات التي ستلاحق كل من يخالفه في الرأي ويخرج عن مشورته. ينهى النساء عن الافعال المشينة بطرق مخيفة للغاية فيكثر في خطبه من الحديث عن النار التي تحرق الاكباد والسياط التي ستشوي جلودهن ان كشفت احداهن عن عورتها على اي غريب مذكراَ اياها على الدوام بعقوبة الرجم او الجلد التي ستنالها في الدنيا قبل الأخرة. لكنه كان متسامحا مع الرجال, اذ يحلل ما يراه منسجما مع متعته ومتعتهم ويتوانى عن التذكير بالعقوبات التي سيتعرض اليها الرجل ان سلك درب المعاصي. بل كان يرى بأن الرجل له حق الطاعة المطلقة على المرأة وله احقية التمتع بكامل حقوقه وحريته وما ملكت ايمانه. كان شاغله الاوحد هو تنمية الرغبات الجسدية لدى رجال القرية دونا عن الغرائز والرغبات الاخرى لايمانه بأن فتح عين الجسد برغباته المشتعلة لديهم هي الوسيلة الوحيدة لتغييبهم عن الواقع والسيطرة عليهم بالكامل ومن دون ادنى عناء يذكر.
قرية صغيرة وبعيدة كل البعد عن الحياة المتحضرة, وكأنها مصنوعة من نسيج الخيال. كل هّم سكانها ارضاء خطيب الجامع فهو الرجل الاكثر قدسية في نظرهم لامتلاكه السلطة الدينية التي طالما سلطها سيفا على رقاب كل من يمتنع عن ارادته. أب لسبعة ذكور وبنت واحدة هي حميدة, وكم امتن للخالق لان ابنته الوحيدة ولدت خرساء, فصوت المرأة في عرفه عورة ولا يجب ان يستمع اليه الغرباء. كانت تلعب مع اقرانها الصغار بلا صوت, حيث لا قدرة لها على الصراخ اذا ما ضربها احد الاطفال ولا قدرة لها على بث مظالمها الى اهلها ان الّم بها مكروه فهي عاجزة عن البوح. نعمة المّت بالخطيب ان تكون ابنته هادئة مطيعة وجميلة بلا طلبات ولا بكاء ولا صراخ ولا زعيق كبقية الاطفال ونقمة حلت بالطفلة التي طالما تمنت ان تتحدث بصوت مسموع وكلمات جميلة مثل بقية اقرانها بدلا من الاشارات المبهمة والاصوات الطلسمية التي تطلقها كلما ارادت ان تعبر عن حاجة ما او رغبة ما في نفسها. هادئة سمحة, نظراتها تحدق دوما الى الفراغ الذي يعصف مدويا في روحها. خرساء تريد ان تصرخ ولكن عبثا فان محاولاتها تذهب دوما سدى فيضحك عليها اقرانها جراء الخواء الذي تصدره ان اعتراها الغضب. كَبر الصغار واخوتها السبعة وكبرت معهم الفتاة ذات اللسان الملتصق في قعر بئر تسكنه العجائب وظلت تخدم ابويها واخوتها بلا هوادة ولا كلل. تذهب بالطعام كل يوم الى والدها الذي يتاخر كثيراَ في الجامع. هناك حيث يجتمع رجال القرية ويعقدون الاماسي مع الرجل المبارك صاحب الفتاوى والحلول الجهنمية لاصعب المشاكل واعقدها وصاحب الاحكام والقرارات التي لا يستطيع رجال القرية رغم شدتهم على اتخاذها دون الرجوع اليه. فهو يعرف كل صغيرة وكبيرة عن كل واحد منهم, كما يعرف ادق خصوصيات واسرار كل بيت من بيوت القرية, كيف لا وهو صاحب السلطة الدينية والتشريعية والتنفيذية ان اقتضى الامر في تلك القرية. صوته وحضوره الطاغي كان يفرض عليه مقداراَ من الهيبة والوقار مما يجعله موضع اجلال وتقديس من قبل الكبار قبل الصغار. وحتى الزيجات والطلاقات فلا تحدث الا بمشاورته وموافقته. والعقود يكتبها بخط يده المرتبك ويضع عليها من يشاء من الشهود!!.
صوت مكتوم يشبه الخواء انطلق من الفضاء المظلم المحيط بالطريق المؤدي الى الجامع استرعى انتباه بعض المارة المنبثقين من جوف المساء, الا انه انتهى بلمح البصر وكأنه خيال طري مر مسرعاَ الى عالم اخر. لا شئ غير ان حميدة لم تاتى كعادتها الى ابيها ولم تسلمه وجبة طعامه المسائية فظل الخطيب يصارع جوعه واحتدام مصارينه الى ان قفل راجعا الى البيت في وقت متأخر. لم تستقبله ابنته كعادتها بابتسامة يلوح منها العرفان والرضى ولم تطبع قبلتها الهادئة على يده كما في كل مساء, كانت مريضة وخلدت مبكراَ الى النوم !!.
نحول وذبول وانتفاخ في البطن اعراض مرض الابنة الخرساء لخطيب الجامع الذي لم يتوانى عن رقية الفتاة بمختلف الرقيات والحجب علها تشفى من الداء الغريب الذي اصابها. لم يزرها احد من اقرانها خوفا من انتقال العدوى فلقد كان بطنها يكبر ويكبر الى الحد الذي خالوه سينفجر في اي لحظة مخلفاَ الاوساخ والميكروبات في كل مكان فكان الرأي ان يعتزلوها جميعا ويتركوها تواجه مصيرها وحدها في خيمة كئيبة خارج أسوار البيت. اصبح داء الانتفاخ ندرة اخرى يتندر بها اهل القرية على حميدة بالاضافة الى الخرس. اما هي فلم يسعفها من ذاكرة جسدها الحادة غير دموع ساخنة تنزل على اودية الوجع لتحرق وجه الجاني وتحرق اللحظة التي استباحها فيها وتحرق ضعفها وخرسها الذي لم يمكّنها من البوح بما الّم بها. كانت حميدة تسأل نفسها مراراَ في عزلتها تلك عما ستكون عليه ردة فعل ابيها واخوتها السبعة اذ ما عرفوا بالامر؟ هل سيقتلونها رجماَ بالحجارة رغم استباحة القوي لجسدها الضعيف؟ ومن الذي سيباشر بالقاء اول حجر عليها من اهلها؟ هل سيشوى جسدها على سياخ من نارحامية رغم كونها المجّني عليها؟ ام تراهم سيقّدرون ضعفها وعجزها امام جبروت وحش تحرقه نار الشهوة فأستباحها بلا رحمة مستغلاَ خرسها الكامل؟ اي مفارقة تجعل من ابنة رجل الدين ضحية وآثمة في آن واحد في عرف اهل القرية الذي رسمه لهم والدها!!.
مرّ الوقت بطيئاَ الى الحد الذي خالته تخاذل عن اداء مهمته, وان تعاقب الليل والنهار اصبح من المصادفات التي يحتفل بها اهالي القرية المبتهلين دوما لنيل رضا الخطيب الذي وسع صيته ليشمل قرى اخرى مجاورة بات سكانها ياتون اليه وفوداَ لطلب الرضا والبركات.
نهار الاثنين من اكثر الايام بركة اطل بشمسه البهيجة بعد مرور الكثير من الوقت الذي نسيت فيه القرية ابنة الخطيب الملقاة الى مصيرها المحتوم. ومع اشراقة شمس الصباح الدافئة تعالت صرخات عالية مزقت سكون القرية الوديع, وتناهى الى مسامع الجميع صدى تلك الصرخات المتتالية وكأنها صادرة عن وحش يزئر تحت رحمة قاتليه!!. انتفض الجميع يتقدمهم خطيب الجامع وتلاميذه متجهين صوب ذلك الصوت المجهول وكل حمل مما وقعت عليه يداه من سلاحٍ اومدية او عصا. زحفوا رويداً رويداَ الى ذلك الصوت المخيف. انه يتجه من خيمة حميدة المريضة !!!
تساءلوا جميعاَ... ترى من الذي يصرخ في الداخل؟ وكيف لها ان تستعيد لسانها الذي غاب عنها دهرا لتصرخ؟ ولماذا تصرخ بقوة؟ هل هي على وشك الانفجار؟ ام انها انفجرت وسال قيحها ودمها في كل مكان؟
صراخ متواصل ومدّوي يصّم الآذان ... ترى ماذا حل بها؟ هل هناك من يصرخ عوضا عنها؟ وهل سيجرؤ احد على الدخول عليها واستبيان اسباب صراخها الموجع؟
خيمة صغيرة يحيط بها رجال مدججين بالسلاح والسكاكين والعصي وصراخ يصهل من الداخل بلا انقطاع. فجأة حل صمت مطبق متبوعاَ بصراخ طفل حديث الولادة. خرجت حميدة منهوكة القوى الى خارج خيمتها تحتضن طفلا صغيراَ... انه طفلها الذي انجبته للتو وخيط الدم يتبع خطواتها اينما حلت. تكلمت الى الجميع واخبرتهم بانها انجبت طفلا من بعد تعرضها لحادثة اعتداء وانها تعرف الجاني.. انه تلميذ والدها خطيب الجامع كان قد اغتصبها في ليلة ظلماء بعد ان علّمه ابوها كيف يفتح عين غريزة الجسد ويغلق ما دونها من العيون!!.
لم تكن قادرة على الافصاح عن الجريمة التي تعرضت لها حينذاك كونها خرساء, اما الان فانها قادرة على التحدث بعد ان اعاد اليها الالم قدرتها على الكلام والصراخ معا . الا ان احداَ لم يكن يسمعها فلقد اصيب الجميع بالطرش والخرس واصبحوا يطلقون اصواتا مبهمة تشبه الخواء !!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا