الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة بطعم الجنون

رفقة رعد

2016 / 2 / 25
الادب والفن



لست ذلك المجنون الذي يمشي في الطرقات يحدث المنازل لكن يمكن لي ان افهم حديثه الغريب و حروفه المبعثرة في شوارع بغداد ، و يمكن لي ان ادرك ان الشعوب المتعبة لا يمكن لها ان تقاوم اغراء الجنون ، اغراء ان يكون لنا عالم خاص نخلقه بإنفسنا و نلونه بألواننا ، فنجعل الشبابيك تحدثنا و النافورات ترقص معنا و ثقوب الرصاص غمازات لحبيباتنا .
عندما كنت ادرس طلابي الفلسفة ، كنت اعلم ان وقع الكلمة كبير عليهم و هذا اول ما يجب ان يتعلموه ، ما هي الفلسفة؟ ، كنت اعتمد على مثال المجنون هذا ، فأقول لهم: لو كان لنا مجنون وسط مجتمع فماذا سوف تكون الاحكام عليه ، فيقول احدهم: العامة من الناس سيقولون (مخبل) ، وعلماء الاجتماع سيقولون معنف اجتماعياً ، و اطباء النفس سيقولون مريض نفسي ، بينما الفلسفة ستقول انه انسان تعب من تفاصيل الحياة فخلق له عالم متكامل يعيش به براحة اكبر ، لان الفلسفة هي الحكمة ، هي اخر ما يصل إليه الأنسان في بحثه عن الحقيقة و هذا ما توصل له المجنون المتحدث مع الأبواب ، فالظاهرية يمكن ان تفسر لغة جسده و افكاره بأن ما نراه هو ماهية الحقيقة . و تبقى الحقيقة نسبية فلما علينا ان نكن نحن العقلاء و هو لاعاقل ؟
اخر مرة رأيته كان منهمك بالحديث مع حائط جيراننا ، يتناقش معه بصوت عالي بكلام غير مفهوم ، و هذا ما جعلني اركز اكثر فيه ، فلم يعيرني اي انتباه كأني شبح ، أو متطفل يلغي وجوده بالأهمال . حديثه لم يكن عدائي وانما نبرة صوت هادئة تعكس ثقة بالنفس ، صوت متوازن العلو بتركيز كبير في نقطة واحدة اثناء الحديث ، الظاهر انه كره لغتنا الأم و استغنى عنها بلغة خاصة أو هي طريقة احتراسية استخباراتية لتجعلنا بعيدين عما يفقه و يعرف ، فليس من حكمة المجانين ان يكشفوا معارفهم للعامة ولا حتى للخاصة ، سر فلسفتهم يبقى بين انفسهم لتحافظ الحياة على جمالها ، فالأسرار اجمل من البوح ، ذلك الغموض الذي نختبره اجمل من الوضوح الذي يبحث عنه الاخرين ، فالمجنون ليس اخرين بل هو شعب لوحده ، دولة لها دستورها الخاص و لغتها ، مدينة فاضلة .
ملابسه استثنائية لم تعكس لي من اي حقبة اختارها ، فلم تكن كلاسيكية أو عصرية بل كانت خليط من بساطة اعترف انها جميلة رغم اتساخها ، فليس ضروري ان يبحث المجانين عن النظافة لتناقظها الذي اكتشفوه متأخراً ، فكان اتساخهم رد فعل طبيعي حينما راقبوا لسنوات طوال نظافة الملبس متسخي العقول، فكانت هذه النتيجة ببساطة .
حقيبته من قماش صديق للبيئة يتحلل بما فيه فلا يبقى لتاريخهِ من اثر ، و ربما يعاد تدويره فتعم الفائدة على الجميع في النهاية ، يحملها بطريقة جانبية ليس ثقيلة ولا خفيفة ولا يدل اي اثر ان في داخلها اي طعام ، وهذه ميزه اخرى للمجانين ان طعامهم قليل جداً ، فغالبا ما ينامون جوعى استخفافاً منهم بالجوع ذلك الذي لا يشبع ، من لا يشبع لا يتوقف ، و المجانين قرروا التوقف ، ووقع قلقهم تحت خانة الاختيار ، فأختاروا في الوقت الذي لم يتنسى للعقلاء ذلك .
الحياة هشه جداً عند المجانين، لان قيمتها ليس في مادة بل في لحظة راحة يعيشها احدهم مع حائط أو زقاق أو صديق وهمي يسروه عن اسرارهم العاقلة ، وهذا ما جعلني اتركه بهدوء في مكانه يكمل نقاشه ، حتى اني لم امر بينه و بين الحائط كي لا اشوش له افكاره و ذاكرته ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ميزان
حمودي الحبابي ( 2016 / 2 / 26 - 15:55 )
نصّ جميل. مزيج محسوب بدقة من الفلسفة والأدب. حقا أن المجانين يأكلون قليلا، وأن الجنون يمكن أن يكون وجهة نظر في الحياة، لكنها وجهة نظر محترمة لا علاقة لها بإجرام الفاسدين والدكتاتوريين ومجرمي الاقتصاد.


2 - تحية
رفقة رعد ( 2016 / 2 / 27 - 19:07 )
اهلا استاذ حمودي
شكرا لقرائتك أسعدني اعجابك بالمقال
نعم الجنون وجهة نظر ، اختيار يأتي بعد فترة طويلة من التفكير كما هو الانتحار .
تحياتي لك

اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى