الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خلل التكوين الانساني

محسن حنيص
(Mohsin Shawkat)

2016 / 2 / 27
الادب والفن


خلل التكوين الانساني
بقلم : محسن حنيص
......................
هناك خلل في التكوين الانساني يمكن ملاحظته مباشرة عند الاقتراب من الموت . يتمثل هذا الخلل بوجود تناسب عكسي بين الروح والجسد . ففي الوقت الذي تكون الروح في ذروة توقدها يكون الجسد في ذروة الانطفاء . هذا التعارض يمثل جوهر المرارة في الحياة الانسانية .
وللمزيد من الوضوح نقول ان الروح هنا تعني تاريخ الانسان الشخصي . انها جميع المهارات والخبرات والحوادث المسجلة في الذاكرة منذ لحظة الولادة . ويهمنا على وجه الخصوص عمليات التصحيح والتعديل التي تطرأ على الروح لتجعلها اكثرة قدرة على الاستمتاع بالحياة .
كلما اقتربنا من الشيخوخة كلما اتسعت الروح مقابل تقلص الجسد وتراجعه وضيق مساحته . حتى نصل الى لحظة يصبح الجسد كوعاء غير قادر على استيعاب الروح . ويمكن ان نقول ان لحظة الموت هي لحظة هروب الروح من تلك الزنزانة الضيقة (الجسد). نؤكد هنا على الطابع المجازي لهذه الصورة (خروج الروح من الجسد ) , اذ لانملك اي دليل علمي لدعمها . لكنها تنفعني هنا في وصف هذه الاشكالية . الجسد يحاول اعاقة تمدد الروح وانطلاقها ذلك ان الكثير من الافعال الروحية تمر عبره الجسد وتتحقق من خلاله . ويتحول هذا التعارض في اواخر العمر الى ومأساة حقيقية حيث يقترب الجسد من الموت بينما ماتزال الروح في ذروة توقدها واقبالها على الحياة .
ولكي لا تموت هذه الورقة في مهدها سوف نتغاضي مؤقتا عن الاعتراضات التي تنفي وجود ثنائية في التكوين الانساني و ترى الروح جزءا غير منفصلا عن الجسد . بل تراها مظهرا للجسد .
توفر الحياة الجنسية في الشيخوخة مثلا ممتازا لما نود التدليل عليه في هذه الورقة . عند مسح الانحدار الجسدي في مرحلة الشيخوخة سوف نمر بكل ماهو محبط : التجاعيد , والشيب , والترهل , و تكسر الصوت , وصعوبة الانتصاب , و هبوط مستوى الاداء الجنسي بشكل شامل . مقابل كل هذاالانحدار هناك نمو وتوقد ورغبة عارمة داخل الروح . بالتعبير السائد ان الروح تبقى خضراء (الروح الخضرة ) . والحقيقة ان كل الارواح يمكن ان تبقى خضراء بمعنى انها تواصل النمو رغم ضمور الجسد.
اننا كلما كبرنا كلما ازدادت روحنا تكاملا وتخلصت من الكثير من العيوب واصبح بمقدورها ان تمتد , لكن هذا التطور يصاحبه ضمور وانحدار في ادواة التنفيذ . كلما كبرنا اصبح بمقدورنا ان نحب بشكل افضل , لكننا بالمقابل نفقد كل مقومات الجذب اللازمة . اننا نحمل روحا خضراء داخل جسد من حطام .
ويبدو ان عنصر الألم الاكبر في الموت ليس مفارقة الحياة بل في الوعي العميق بوجود خلل في التكوين الأنساني . ففي فترة الاقتراب من الموت يكون الانسان قد وصل الى اكتشاف اكبر الحقائق واستطاع ان يصل الى مفاتيح اللذائذ بعد مرحلة طويلة من التخبط والتجريب والحرمان . الموت يشبه اغتيال لحظة القطاف . يشبه شلل الكف في لحظة العثور على مفتاح اللذائذ كلها .
ورغم ان فترة الاقتراب من الموت هي افضل الفترات لوعي هذا الخلل في التكوين الانساني , الا ان هذا لايمنع من حدوث الوعي بشكل مبكر عند مرور الانسان بتجربة وجودية عميقة .
لنضرب مثلا : شاب في مقتبل العمر يملك روحا حرة يفقد احدى عينيه . من الناحية الفيزيائية لاتوجد كارثة كبيرة , ذلك ان عينا واحدة تكفي للابصار (بكفاءة اقل ) , لكن ماهو عنصر الكارثة هنا ؟ . الجواب هو ان الروح تواصل نموها متخطية تلك الحادثة , وترفض بشدة هذا المصير , ومهما حاولنا او قدمنا لها من مسكنات لفظية لن ترضيها , وتعتبر كل ما نقدمه لا اكثر من عزاء وتوكيد على الاندحار . وبكلمات اخرى ان الجسد يصبح اعورا لكن الروح تبقى معافاة (بعينين ) وتواصل تقدمها . من هنا تبدأ المأساة . ولو كان هناك عدل في التكوين الانساني لرأينا انكماشا في الروح وضآلة تسمح بقبول هذا الوضع .
هناك حالة واحدة تسمح للاعور بقبول حالته وتمنع عنه الشعور العارم بالخلل الوجودي هو ان تكون روحه محتقرة من قبله ومن قبل المحيط الذي يعيش فيه ان الذات المحتقرة الذليلة تعاني بقدر اقل هذه المطبات وربما لا تدرك وجودها اصلا .
ويمكن ان نمد الامثلة كالآتي : فنان تشكيلي وصل الى الذروة في خياله وقدرته ثم بدأت اصابعه ترتجف وعيونه تضعف . الحواس بدأت تخونه وتمنع انطلاقه وايصال النمو المتصاعد لفنه وعبقريته . يحدث نفس الشيء للموسيقار حيث تخونه اصابعه واذنه وتمنع عنه تنفيذ ما وصل اليه روحيا .
وتبدو هشاشة الجسد امام العدو الخارجي كمظهر واضح لهذا الخلل . بالمقابل لايوجد في الروح ما يشير الى الاستسلام لهذه الهشاشة . يمكن ان نضرب هنا مثلا بصمود المناضلين في جلسات التعذيب حيث غالبا ما ينهار الجسد اولا بينما تبقى الروح صامدة . ويمكن ان نضيف الرفض الداخلي لهذه الهشاشة عندما يكون الجسد ضحية لفيروس لايرى بالعين المجردة او تسرب لغاز اول اوكسيد الكربون او توقف القلب لثوان , هذه الانهيارات وامثالها التي تسببها عوامل صغيرة جدا لدرجة التفاهة لا يمكن تقبلها بسهولة من قبل جبل الروح , ذلك الجبل الهائل من التجارب والمعاناة والامتلاء الكامل بالحياة والرغبة في الاستمرار والانجاز .
لو كان هناك عدل في الوجود او في التكوين الانساني لكان من المفروض ان يكون التناسب طرديا وليس عكسيا . بمعنى اننا كلما كبرنا روحيا تكبر معنا قدراتنا الجسدية والعكس صحيح .
ولكي نكون اكثر دقة نقول ان رجلا في عمر الثمانين يشعر برغبة عاطفية وجنسية هائلة في صبية عمرها 14 عاما , وهي رغبة تبدو شاذة ومقززة وغير مشروعة اذا ما نظرنا اليها بعين تلك الصبية , لكنها تحمل مايكفي من القوة والرصانة داخل الشخصية الثمانينية اذا ما تم تنحية النظم الاخلاقية السائدة . انها رغبة حقيقية لانها وليدة نمو الروح اما الجسد المتهريء المليء بالاوجاع والعيوب المنفرة والغير قادر على اشباع هذه الرغبة فهو في واد آخر .
سوف يكون الوجود اكثر عدلا لو حصل مايلي :
اما ان تصعد الروح بطريقة اخرى بحيث تنطفيء مثل هذه الرغبات الشاذة والتي تكون من طرف واحد او يتم التوازي بين نمو الروح ونمو الجسد بحيث يكون الجسد اكثر قوة بمرور الزمن وليس العكس . وهو ما نصطلح عليه بالتناسب الطردي بين الروح والجسد .
................
تقدم المنظومات الاخلاقية عمليات ترقيع لردم هذا الخلل في التكوين الانساني . ويقدم التصوف لنا شكل من اشكال العزاء وجبر للخواطر . اما الدين فيحاول ردم هذا الخلل بافتراض وجود حياة اخرى بعد الموت خالية من كل العيوب واولها الخلل الذي نحن بصدده .
وقد استثمر الدين هذا الخلل في التكوين الانساني ليحقق ارباحا طائلة وبشيد الجزء الاكبر من قلعته على فرضية الفردوس الموعود والتي مازالت شاخصة حتى الآن .
هناك حلول ترقيعية اخرى نودالاشارة اليها مثل فكرة الامتداد . ان الروح والجسد ينتقلان عبر الذرية ليعيدا فترات الحياة الذهبية . ان رؤية الأب المنتهي صلاحيته ابنه وهو يضاجع (يتزوج ) ثلاثة مرات في اليوم او وهو ينطح ثورا بقرونه دون ان تتكسر او يلتهم نصف خروف دون ان ينقل الى المستشفى هو محاولة لتخطي الخلل في التكوين الانساني . لكن معضلة الامتداد الكبرى انه بلا حد لذلك يفضي الى الطغيان . ان معظم الطغاة , والجشعين , واصحاب الثروات الكبيرة , واللصوص الكبار هم بشكل او بآخر مظاهر لنزعة الامتداد .
.
................
ما العمل ؟ , هل نستسلم لمثل هذا الخلل ؟ هل نتقبله بكل نتائجه المأساوية وقدرته على جعل حياتنا اكثر مرارة ؟ هل نواصل اختراع فلسفات وعمليات ترقيع جديدة ؟ . هل نواصل عب الفراغ ونفخ الخواء تحت مسميات اخلاقية مثل النضج والشيخوخة التي هي في النهاية تعبيرات اخرى عن الاستسلام والقبول بهذا الخلل ؟
انه خلل مؤلم وغير مبرر وخال من المنطق , ويدل دلالة واضحة ان الانسان خلق في اسوأ تكوين .
يحتاج الانسان ان يعيد تكوين نفسه بشكل اكثر عدالة ومنطقية . يحتاج ان يخلق نفسه بنفسه ويبدو ان الطريق الوحيد هو عبر خيار العلم , حيث تتسارع خطوات البيوتكنولوجيا , والسبرنتيقا , والحاسبات , والنانو تكنولوجيا , وفيزياء الكم .
ان الانسان القادم ( Posthuman ) لن يكون من صنع الله بل من صنع الانسان نفسه . . هناك جهود علمية متواصلة لانتاج حضارة (ما بعد الانسان ) وهو مجتمع تتخذ فيه القرارات الستراتيجية من قبل كائنات تفوق قدارتها العقلية الحدود الطبيعية لعقل وذكاء الانسان الحالي .
ان الحركة الفكرية والعلمية لما بعد الانسانية ( Posthumanisme ) تدعم استخدام العلوم والتكنولوجيا لأحداث طفرات في القدرة الانسانية العقلية والفيزيائية وقدرة تحمله وحتى الغاء الكثير من عيوبه مثل الغباء والمعاناة والمرض والشيخوخة وصولا الى التخلص من الموت نفسه .
................
محسن حنيص








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس