الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


!! الجوع .. كافر

ياسر العدل

2005 / 11 / 17
كتابات ساخرة


لأننا مصريون نعيش أحوالا اقتصادية مفضوح فقرها، أصبح الحصول على الطعام المناسب مشكلة للأقارب وأبناء السبيل والمغتربين، ولأننى مصرى أعمل بعيدا عن مدينة الزوجة والأولاد، وموظف حكومى أعمل بعيدا عن صحبة الوزراء والمحافظين ومسئولى الأمن الغذائى، أصبحت أحوالى الاقتصادية أكثر فقرا وافتضاحا، ولأن الحكومة تسعى لفتح أبواب السلام الاجتماعى، بين الفقراء جدا والأغنياء جدا، أجاز بعض فقهاء السلطة استحقاق أمثالى من الموظفين لكثير من الرشاوى وأكياس البلح والزيت والدقيق وأموال الزكاة.
مع غربتى فى أيام شهر رمضان الكريم، واستحقاقى لتناول كل الطعام على موائد الرحمة، طرحت على زميل فى العمل، موظف حكومة ومغترب أيضا، أن نتناول الإفطار على أقرب مائدة رحمة، استجاب زميلى لطموحاتى وأضاف طموحاته فى أن يكون طعام إفطارنا فخيما على مائدة عامرة، وشحذنا عقولنا نرسم الخطة الحكيمة.
زميلى موظف مثلى، لا يحب الحكومة، ويرى أن كبار الأثرياء فى زمانها بشر غيرنا، يكسرون قوانين الأخلاق فى الاقتصاد والعمل، يحسنون طرق جمع الأموال، يسعون للكسب الفاحش فى التجارة، يقيمون موائد طعام محشوة بدعاية يسدون بها الأفواه فى مواسم الجوع ويشترون بها الذمم فى مواسم الفساد، وبعد جنى الثمار يسعون للتكفير عن أعمالهم بإقامة موائد رحمة فى مواسم الغفران، ولأن صاحبى يرى انه لا كرامة لموظفين حكوميين يرتادون موائد رحمة فى مدينة يعملون فيها، رأينا أن نهاجر مؤقتا إلى مدينة مليئة بالأثرياء، تبعد عن عيون الإعلام، ونصيب فيها طعاما على موائد غفران عامرة.
فى اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان، استقر الأثرياء فى أوطانهم، وهدأت الإعلانات عن موائد التصالح الوطنى، وخفت حركة العزومات بين الأقارب، وصرت مع زميلى أكثر إحساسا بالغربة وأكثر تأثرا بالجوع، وبدأنا تنفيذ الخطة الحكيمة.
قبيل الغروب انطلقنا بسيارتنا كيلومترات قليلة شمال مدينتنا حيث وظيفتنا الحكومية، ووصلنا مدينة الثراء حيث حلمنا الجميل، اخترناها مدينة يشتهر أهلها بالتجارة وصناعة الفسيخ والأثاث ويسكنها مئات من الأثرياء.
دخلنا المدينة عارفين بقلوب أثريائها، قلوبهم تحب جمع المال وقلوبنا تحب إنفاقه، نمنى النفس بانتشار موائد كبيرة، تتنوع ذنوب أصحابها فتتنوع أصناف طعامها، ونهبر أنواعا من اللحوم والأسماك والحلوى.
جبنا شوارع المدينة والجوع يراقصنا، الشارع الأول ملئ بسيارات النقل الكبيرة ولم يكن به مائدة رحمة، الشارع الثانى ملئ بورش الحدادة الضخمة ولم يكن به مائدة رحمة، الشارع الثالث ملئ بمحلات تبيع أفخر أنواع الفسيخ والبطارخ ولم يكن به مائدة رحمة، بقية الشوارع مليئة بتجار الذهب والممنوع والعملة ومكاتب السفريات ومعارض السيارات ولم يكن بها مائدة رحمة واحدة، زاد جوعنا وزاد التوتر، فحصنا الأزقة ولم نعثر على طعام يقدمه أصحابه تكفيرا أو زكاة أو رحمة، اقتربنا من وقت الإفطار دون الحصول على طعام مجانى، فطفحت علينا رغبة فى تأديب المدينة، وقررنا أن لا نشترى طعاما من أهلها.
أصابنا الجوع بجرأة السؤال واحتراف الشحاذة، أطلت رؤوسنا خارج السيارة نستوقف واحدا من أهل المدينة بانت عليه ملامح الشبع، سألناه عن موائد الرحمة، استنكرت عيناه جهلنا بمطالع الأثرياء، وسألنا هو عن شيء نعطيه لواحد من أهل المدينة، ابتسمنا بكاء وشماتة وحقدا وبخلا، وهرولنا نغادر المدينة غير مودعين أو ملاطفين، يملأنا الغيظ من كرم الأثرياء ويملكنا الأسى من بخل أنفسنا.
تهادت سيارتنا على طريق الإسفلت نطرد المدينة خلفنا، وحين لحقنا موعد الإفطار على مشارف قرية صغيرة، استوقفنا أناس من أهل القرية يسدون الطريق على العابرين، ويصرون على تقديم أكياس مجانية تضم وجبات إفطار مصحوبة بالماء والتمر، إنهم أهل قرى يقدمون إحسانهم مخلصين، ويمضى رمضان فى قلوبهم كريما.
بعد أول منحنى على الطريق، اقتسمنا ما جمعناه من زكاة أهل القرية، بلح وجوافة وعرقسوس وأرغفة مليئة باللحم والأرز وقطع من الكنافة، وحين ملأنا البطون نام إحساسنا بالإحباط، وانصرفنا نسفه أحلامنا الكسولة بالشبع من بطون الأثرياء.
عدنا إلى مدينة وظيفتنا الحكومية، نفكر كيف سيكون حالنا مع السّحور، نمارس الصبر ونفضح سياسات الحكومة فى إفقار الجميع، نضع الخطة الحكيمة لتحقيق ثرائنا السريع فى الأعوام القادمة، أن نخلط بعضا من البخل والدعاية مع مناورات التخلص من الحكومة والفقراء والأخلاق والضرائب والتجارة فى الممنوع، ونقتسم العائد مع ذوى السلطان، ولا مانع من الدعاء بالخير لأصحاب النوايا الطيبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غادة عبد الرازق: ليس لي منافس على الساحة الفنية ولا يوجد من


.. غادة عبد الرازق: الساحة الفنية المصرية لم تعد بنفس قوة الماض




.. الفنان درويش صيرفي.. ضيف صباح العربية


.. -بحب الاستعراض من صغري-.. غادة عبد الرازق تتحدث عن تجربتها ف




.. أمسيات شعرية - الشاعرة سنية مدوري- مع السيد التوي والشاذلي ف