الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإعلام المحرِّض - توصيف في الحالة السورية -

يوسف أحمد إسماعيل

2016 / 2 / 29
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


تشيع كثيراً فكرة الإعلام الحر، أو الإعلام المحايد و الموضوعي، أو الإعلام المحترف الذي يقدم الحقيقة دون زيف وتزوير ، ويدرك ، بشكل عام ، المستمع أو المشاهد أن تلك المواصفات للإعلام هي نسبية، كما أنّ الحيادية المطلقة هي كما العدالة المطلقة ليست من قدرات الإنسان . ولذلك لن نقف عند تلك المفاهيم، خاصة أننا نبحث في الإعلام في ساحة ساخنة، تعددت فيها الأطراف و الأصوات ، بل البنادق وأنواع الأسلحة والجهات، إلى درجة أنّ بعض المحللين بدأ يرى فيها حرباً عالمية ، ولكن على الأرض السورية .
ولذلك ستقارب هذه الكتابة الإعلام المحرِّض وليس الحر أو المحايد أو الموضوعي . وهناك فارق بينهما ؛ فالنوع الثاني ( الحر والمحايد) قد يرى الأحداث من زاويته المذهبية أو العقدية، أو من تموضعه الجغرافي، أو نسقه الثقافي العام ؛ و تفسيراته، قد لا تتشوه بفعل الوقائع فيما إذا انتبه بين الفينة والأخرى إلى الأخلاقيات التي تؤطِّر مهنته النبيلة و الإنسانية؛ مما يدفعه إلى المراجعة بين وقت وآخر لتصويب التجربة، وخلق التوازن بشكل دائم؛ ليكون لصوته الصدى الإيجابي في وعي متلقيه . أما النوع الأول ( الإعلام المحرّض ) فإن رسالته تتنافى والقيم الأخلاقية العامة التي تحكم الإعلام ، لأن الدور المرتبط بالإعلام كفكرة هو التنوير أو الكشف عن حدث مختبئ ومموَّه أو ملتبس أو إبراز ظاهرة ما من جميع جوانبها لتبدو عناصرها المتكاملة أمام المتلقي ، فيقوم برؤيتها بموضوعية ، ثم يتلقاها عاطفيا وفق تموضعه ووعيه وحاجته ورغباته، دون تلقين من الطرف الإعلامي .
وعليه فإن الإعلام المحرّض يتجاوزفي خطابه اللغة الإخبارية إلى لغة إنشائية ذاتية وعاطفية ،تحمل حكماً قيميا اجتماعيا أو أخلاقيا أو جماليا ، وبذلك لا يكون المتلقي أمام الدور التوصيلي المنوط بالوسيلة الإعلامية و إنما أمام نص يخضع في علاقته بمتلقيه للوظيفة الرئيسة في الخطابات الذاتية التي تتمثل في أثر التداولية في الخطاب ؛ أي إنشاء علاقة تأثير وتأثر، وتغيير وظيفة الإعلام من منحى إخباري إلى منحى تحزبي عاطفي وإنشائي .
اتسم الإعلام العربي الرئيس (الجزيرة ، العربية ، السورية، أورينت ) المنشغل بالأزمة السورية منذ الشهور الأولى في 2011 بمجافاة الحقيقة الإعلامية أو الرؤية الموضوعية ، فالمظاهرات السلمية للنشاط المدني السلمي لم يستطع الإعلام السوري تسليط الضوء عليها بوصفها حراكا شعبيا اجتماعيا سلميا يجب مقاربته عبر البحث في أسبابه وطموحاته، ومعالجته بإيجابية، بل رأى فيه خروقات فردية للأمن العام، وتحدٍ لسلطة الدولة الأمنية ، أما مظاهره العامة في الشارع السوري فلم ير فيها غير فبركات سينمائية من صناعة قنوات فضائية معادية ... وحين طالت الأزمة وأخذت مفترقاً جديدا بدأ ت الأخبارية السورية تتحدث عن المجموعات المسلحة والجهات الخارجية التي تدعمها وخطابها الإرهابي ، وبدا الخطاب من حيث الجوهر له مصداقيته؛ لأن الكتائب المسلحة لم تخف خطابها الإسلامي الجهادي وطموحاتها السلفية ، ولكن في ثنايا ذلك لم يسع الإعلام السوري إلى إعادة النظر في منهجيته ليرى الناشطين السلميين المدنيين الذين بدؤوا الحراك الثوري، بل اعتبر ظهور الكتائب المسلحة والإعلان عن خطابها بمثابة انتصار وبرهان على رؤيته للحراك برمته؛ مما أبقاه على الرؤية الأحادية للأزمة؛ أي أزمة عدوان خارجي متمثل بالإرهاب العالمي الإقليمي والدولي ، أما المواطن السوري فهو ضحية ذلك الإرهاب وحسب .
على الضفة الأخرى كانت العربية والجزيرة تعملان بشكل مستمر على تفنيد اتهامات الإعلام السوري لهما بالفبركة، وكانت قد أخذتا مصداقيتهما من تجربتهما الطويلة مع المتلقي العربي، خاصة في تغطيتهما للثورتين التونسية والمصرية في حراكهما السلمي في ميدان التحرير والقصبة . ولكنه حين حدثت التحولات الخطيرة في الساحة السورية من النشاط السلمي إلى الصراع المسلح بدأ الخطاب الإعلامي فيهما يتحول من وجهته الإخبارية إلى وجهته الإنشائية التحريضية ، ولم يعد يمثل الخبر فيهما قيمة موضوعية، بقدر ما يمثل مبررا لرؤية الأحداث من زاوية وجهة نظر موقعهما التشويقي أو العاطفي أو الطائفي أو المذهبي ، و اضطرت القناتان لتعميم مفهوم الثوار والثائر على كل من يقاتل في الساحة السورية ضد الجيش السوري وحلفائه، من خارج الجغرافية السورية ؛ حتى بات يشمل المصطلح من لا يعترف في خطابه بمفهوم الوطن السوري ،لأنه يحارب المرتدين في بلاد الإسلام ، والثورة بالنسبة له هي جهاد مسلح ضد الكفرة ، والدولة المدنية بدعة غربية ضالة . ولولا معاداة الأمم المتحدة وكل دول العالم ، علانية، لتنظيم داعش ، لربما شمل مصطلح الثوار المقاتلين في ذلك التنظيم أيضا..وعليه ألم يقدَّم الجولاني، بعباءته التي أخفت وجهه، بوصفه نموذجا للإنقاذ بخطابه الإقصائي السلفي على قناة الجزيرة ،مرفقاً بعبارات الاحترام والتقدير ؟!
أما قناة " أورينت " فقد رأى النشطاء المدنيون فيها، في بداية الحراك السلمي، سندأ قويا للثورة بوجهها المدني/الحضاري ، وأصبحت مقصدا لتلقي الخبر الموضوعي ، أو على أقل تقدير المواكب لطموحات الثورة السلمية المرتبطة بالحرية والكرامة الإنسانية، ولكنها انزلقت أيضا في الخطاب التحريضي حين سيطرت الكتائب المسلحة على المشهد برمته، وانسحب النشطاء السلميون ، فظهرت فيها أصوات طائفية ، أو أنها تتحدث بلغة طائفية، ومفردات تصنيفية، حتى أصبحت الجغرافية السورية لديها مختلفة عن الجغرافية السورية لدى السوريين؛ إذ أصبحنا نسمي البلدات والأحياء بمذهبها وبانتمائها القطيعي للنظام أو المعارضة، يضاف إلى ذلك أنها عملت على غسيل الثياب القذرة على مبدأ غسيل الأموال لأصوات انتهازية وأصوات تفكيكية تقسيمية ، كل ذلك كان وراء مفهوم الواقعية السياسية ، بل كادت تطبّل لداعش إذا انتصرت في هذا الموقع أو ذاك حين تصطدم مع قوات الجيش السوري وحلفائه ، على مبدأ " عدو عدوي صديقي " وتقف في وجهها حين تكون مواجهتها مع الجيش الحر والكتائب المسلحة الأخرى .
إن تلك التحولات في مهمة الإعلام وضعت المشاهد أمام صورة لا تبحث عن الخبر لمعرفة ما يجري، أو ما وقع هنا وهناك ، وإنما أمام محطة انطلاق شعبية يحاول كل من المنادين جرَّك للركوب بحافلته حتى وإن أخذتك بعيدا عن مبتغاك ووجهتك ، وعلى طريقة التاجر الحلبي الذي يورطك في شراء ما لم تكن ترغب فيه ، وفي النهاية تعمل كل تلك القنوات على مبدأ " التجارة شطارة " أما المعرفة الموضوعية والقيمة االتنويرية للمحطة فقد أصبحت مؤجلة في الملف السوري على أقل تقدير .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بدر عريش الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي في تصر


.. عبد الحميد أمين ناشط سياسي و نقابي بنقابة الاتحاد المغربي لل




.. ما حقيقة فيديو صراخ روبرت دي نيرو في وجه متظاهرين داعمين للف


.. فيديو يظهر الشرطة الأمريكية تطلق الرصاص المطاطي على المتظاهر




.. لقاء الرفيق رائد فهمي سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي