الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- إرادة السعادة -

أحمد فيصل البكل

2016 / 3 / 2
الادب والفن


كل ما حولي لم يكن ينبىء بأي أمارة من أمارات إثارة مشاعري ، كان "الباص" قد تحرّك لتوّه عائدا من الغردقة إلى ضجيج القاهرة وصخبها وصداعها ، لم نكن تخطّينا "الجونة" بعد ، كنّا في قلب قيظ الصيف ، على يساري كان يجلس صديقى نصف يقظ نصف نائم ، وعلى يمينى كنت أرقب من النافذة الصخور الممتدّة بمحاذاة الشاطيء متسربلة بصمتها الأزلى إزاءنا وإزاء تلك الأمواج التى تتكسّر على أطرافها ، وخُيّل إليّ أن الشمس تكاد تخترق سقف الباص نافذةً إلى رأسي وأطرافي وقلبي ، وبدا لى وكأن طريقها إلى إحساسي كان معبّدا ، فما هى إلا لحظات حتى نبتت فيّ رغبة في الكتابة على حين فجأة ، والرغبة في الكتابة تعنى أننى أرغب في أن أحيا ، وأنني أحيا لأرغب ، وتعنى فيما تعنيه أنني ما زلت أحمّل الحياة أكثر مما تحتمل ، أحمّلها ربما ما لا طاقة لها به . إنها الرغبة التي تربطنى بالأرض وبالعالم وتشدّنى إليهما ، تلك الرغبة التي تخلّص منها فلاسفة الشرق الأقصى وحكمائه ، هؤلاء الذين قالوا إن كل مرض يبدأ من الثقة فى الحياة ، الثقة في أن الحياة يمكن أن تعطينا أكثر مما في استطاعتها ، وكان كفّهم عن الكتابة كفّا عن الرغبة في الحياة . ربما كانوا هم فوق مستوى الإنسان ، غير أنني ما زلت لم أدرك مستوى الإنسان بعد ، والرغبة ما زالت مستبدة برأسي وأطرافي وقلبي ، إنها ماضية في تفتيتى أكثر فأكثر .

لم أكن أعرف عن أي شيء أريد أن أكتب ، عن تلك الروسية التي حدّثتها عن دوستويفسكى وتشيكوف وإتضح لي أنها لا تعرفهما ، أم عن ذلك الوقت الذي قضيناه في لعب "الفولي" على البلاج ، والواقع أن ما كان يثيرنى ليس استثنائية تلك اللحظات ، وإنما رغبتى في الإمساك بأي منها ، رغبتى في الإمساك بأي شيء ، وجعلت اتسائل في نفسي : هل كنت سعيدا في تلك اللحظات؟ الحقيقة أن السعادة تُعاش ولا يُكتب عنها ، إنها تُحس ولا يُفكّر فيها . وما أن نعى أننا سعداء ، حتى تستحيل السعادة هباءً لا يمكن العثور عليه . ولكن ما الذى يمكن أن تعنيه السعادة إن لم تكن سوى تشنجات نادرة عابرة في مسيرة الزمن؟ هل نحن نشترك في امتلاكنا لإرادة السعادة كبشر ؟ الفلسفة الوجودية لأنها تهتم بكل ما هو مفرد وفريد في كل إنسان تقول إننا لا نملك حسا مشتركا ، وكانط يرفض ذلك بقوله إننا وإن كنا لا نقدر على فهم الحرية في ذاتها ، إلا أن كل البشر لديهم حسا بالحرية لا يمكن انتزاعه منهم . فإن كنا نملك جميعا إرادة السعادة ، فماذا نكون غير مجانين يقررون أن الحياة تستحق أن تُعاش لأجل لحظات نادرة عابرة؟

الواقع أن أكثر المهتمين بالسعادة اعتقدوا أن السعادة لا وجود لها ، فبوذا قال صراحة إن السعادة الأرضية التي يعتقد بها الوثنيون لا وجود لها ، وإن السعادة التي تعتقد بها الأديان السماوية لا وجود لها ، وأن كل ما في استطاعتنا هو السعى للخلاص من كل إحساس ، وجاره لاو تسو قال إن علينا أن نبقى قلبنا فارغا لا أكثر ، وإبكتيتوس على الجانب الآخر يقول إن السعادة ليست في المتعة والكسب وإنما في الخلاص من الرغبة . إنهم جميعا يتوهّمون أن العيش في الجبال يجعلهم فوق مستوى الإنسان ، وهذه حقيقة ، فكل مصاب بمرض النبوة عاش في الجبال أو في الصحراء لفترة ما ، ولا بد أن يشعر كل من يعيش وحيدا في قلب الطبيعة أن تلك الطبيعة الصامتة منذوره له طالما أنه لا يرى بشرا من حوله نُذروا له .

لم أكتب ، ولم يتغيّر شيء حولي من تلك الأشياء التي لم تنبىء بأي أمارة من أمارات إثارة مشاعري ، ومضت الشمس تخترق سقف الباص نافذةً إلى رأسي وأطرافي وقلبي ، وبقيت الرغبة في السعادة بداخلي رغم إغراءات الحكماء ، وبقى فيّ الأمل في أن أسعد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا