الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل‭ ‬تحدث‭ ‬ثورة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والإبداع

سلامة كيلة

2016 / 3 / 9
مواضيع وابحاث سياسية



ربما‭ ‬كانت‭ ‬الثورات‭ ‬التي‭ ‬تفجرت‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬قد‭ ‬وضعت‭ ‬حداً‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬المسائل،‭ ‬وكشفت‭ ‬وضع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المسائل‭ ‬كذلك‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬عفوية‭ ‬تماماً،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬بلا‭ ‬“وعي”،‭ ‬حيث‭ ‬ظهر‭ ‬واضحاً‭ ‬أن‭ ‬النظم‭ ‬الاستبدادية‭ ‬قد‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬تدمير‭ ‬ليس‭ ‬الوعي‭ ‬السياسي‭ ‬بل‭ ‬والثقافة‭ ‬عموماً‭. ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬نتيجة‭ ‬القمع‭ ‬المباشر‭ ‬فقط،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬طال‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬وأنهى‭ ‬تأثيرها‭ ‬المجتمعي،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الأمر‭ ‬الأسوأ‭ ‬كان‭ ‬نتيجة‭ ‬تدمير‭ ‬منظومة‭ ‬التعليم،‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تخريج‭ ‬حاملي‭ ‬شهادات‭ ‬دون‭ ‬معرفة،‭ ‬أو‭ ‬دفع‭ ‬إلى‭ ‬هجرة‭ ‬الدراسة‭ ‬منذ‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى،‭ ‬وبالتالي‭ ‬توسيع‭ ‬رقعة‭ ‬الأميّة‭ ‬لتشمل‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭.‬
بهذا ‭ ‬أن‭ ‬الطبقات‭ ‬التي‭ ‬انخرطت‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬كانت‭ ‬تعرف‭ ‬بالضبط‭ ‬ما‭ ‬تعاني‭ ‬منه،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تتجاوزه،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬يحقق‭ ‬لها‭ ‬ذلك،‭ ‬وكيف‭. ‬لقد‭ ‬لمست‭ ‬بـ”حسها”‭ ‬مشكلاتها،‭ ‬لكن‭ ‬غاب‭ ‬الوعي‭ ‬الذي‭ ‬يساعدها‭ ‬على‭ ‬بلورة‭ ‬الرؤية‭ ‬والاستراتيجية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬البديل،‭ ‬التي‭ ‬تفضي‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬وضع‭ ‬يسمح‭ ‬بحلّ‭ ‬هذه‭ ‬المشكلات‭. ‬ولهذا‭ ‬كانت‭ ‬الثورات‭ ‬عفوية،‭ ‬أي‭ ‬دون‭ ‬تنظيم،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضاً‭ ‬دون‭ ‬رؤية‭ ‬لكيفية‭ ‬انتصار‭ ‬الثورات،‭ ‬الانتصار‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬تحقيق‭ ‬مطالبها‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬المجتمع‭ ‬“بعيداً‭ ‬عن‭ ‬السياسة”،‭ ‬ولكن‭ ‬كذلك‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جرى‭ ‬تدمير‭ ‬التعليم‭ ‬وتسطيحه،‭ ‬والهيمنة‭ ‬على‭ ‬الإعلام‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬خطابات‭ ‬مدح‭ ‬أو‭ ‬ردح،‭ ‬والرقابة‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة‭.‬
لكن‭ ‬سنلمس‭ ‬أيضاً‭ ‬بأن‭ ‬الفئات‭ ‬الشبابية‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دوراً‭ ‬بارزاً‭ ‬في‭ ‬الثّورات،‭ ‬بالتحديد‭ ‬نتيجة‭ ‬غلبة‭ ‬نسبة‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وارتفاع‭ ‬نسبة‭ ‬البطالة‭ ‬والفقر‭ ‬بينها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬بالسياسة‭ ‬في‭ ‬الغالب،‭ ‬أو‭ ‬لديها‭ ‬وعي‭ ‬نظري‭. ‬وكانت‭ ‬أزمتها‭ ‬كفئات‭ ‬تعاني‭ ‬البطالة‭ ‬والفقر‭ ‬تدفعها‭ ‬إلى‭ ‬الميل‭ ‬التديّني‭ ‬كعزاء‭ ‬روحي،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬العبثية‭ ‬كهروب‭ ‬من‭ ‬الأزمة‭. ‬بالتالي‭ ‬هربت‭ ‬من‭ ‬تطوير‭ ‬وعيها‭ ‬النظري،‭ ‬لهذا‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تطرح‭ ‬بديلاً‭ ‬للوضع‭ ‬المأساوي‭ ‬القائم،‭ ‬ولا‭ ‬رؤية‭ ‬أو‭ ‬استراتيجية‭ ‬لكيفية‭ ‬التغيير‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬عفوية‭ ‬ككلّ‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية،‭ ‬وحلمت‭ ‬بتغيير‭ ‬“يأتي‭ ‬من‭ ‬فوق”،‭ ‬أو‭ ‬اعتقدت‭ ‬أن‭ ‬الثورة‭ ‬سوف‭ ‬تأتي‭ ‬بحلّ‭ ‬سحري‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬تُصدم‭ ‬بمسار‭ ‬الأحداث‭ ‬بعد‭ ‬الثورة،‭ ‬ويميل‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬اليأس،‭ ‬أو‭ ‬تدهكها‭ ‬التجربة‭ ‬فتحاول‭ ‬تجاوز‭ ‬وضعها‭.‬

في‭ ‬المقابل‭ ‬أوضحت‭ ‬الثورات‭ ‬أن‭ ‬الفكر‭ ‬المتداول‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬بعيد‭ ‬عمّا‭ ‬يجري،‭ ‬ولا‭ ‬يلامس‭ ‬ممكنات‭ ‬الثورة،‭ ‬لهذا‭ ‬ظهر‭ ‬أنه‭ ‬يجهل‭ ‬الثورات،‭ ‬خصوصاً‭ ‬هنا‭ ‬لدى‭ ‬اليسار‭ ‬الذي‭ ‬تطرح‭ ‬أفكاره‭ ‬التغيير‭ ‬الثوري‭. ‬لقد‭ ‬جرى‭ ‬تعميم‭ ‬أفكار‭ ‬مبسطة‭ ‬وسطحية‭ ‬أو‭ ‬“الانتقال‭ ‬السلمي”،‭ ‬و”التغيير‭ ‬اللاعنفي”،‭ ‬وأن‭ ‬الإصلاح‭ ‬هو‭ ‬الأساس‭ ‬لتحقيق‭ ‬“التغيير‭ ‬المطلوب”،‭ ‬هذا‭ ‬التغيير‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬تحقيق‭ ‬“الانتقال‭ ‬من‭ ‬الاستبداد‭ ‬إلى‭ ‬الديمقراطية”،‭ ‬و”الانخراط‭ ‬في‭ ‬العولمة”،‭ ‬وتعميم‭ ‬اللبرلة‭. ‬لهذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الفكر‭ ‬يتناول‭ ‬جدياً‭ ‬المشكلات‭ ‬المجتمعية،‭ ‬بل‭ ‬ركّز‭ ‬على‭ ‬مشكلة‭ ‬الدولة،‭ ‬كونها‭ ‬دولة‭ ‬مستبدة‭. ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يرصد‭ ‬تصاعد‭ ‬الاحتقان‭ ‬المجتمعي،‭ ‬ويحلل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يوصل‭ ‬إليه‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬البديل‭ ‬الذي‭ ‬يطرحه‭ ‬هو‭ ‬الدمقرطة‭ ‬واللبرلة‭ ‬فقط‭. ‬بالتالي‭ ‬كان‭ ‬الفكر‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬معاكس‭ ‬لما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬“حسمه”‭ ‬بأن‭ ‬البديل‭ ‬هو‭ ‬اللبرلة‭ ‬والدمقرطية،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬اللبرلة‭ ‬هي‭ ‬أساس‭ ‬انفجار‭ ‬الثورات،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الدمقرطة‭ ‬ضرورة‭ ‬فإنها‭ ‬ليست‭ ‬ممكنة‭ ‬دون‭ ‬تغيير‭ ‬النمط‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الريعي‭ ‬الذي‭ ‬أوجدته‭ ‬اللبرلة‭.‬

بمعنى‭ ‬أن‭ ‬الفكر‭ ‬كان‭ ‬ضد‭ ‬الثورة،‭ ‬ولقد‭ ‬تعمّمت‭ ‬التصورات‭ ‬حول‭ ‬“تجاوز‭ ‬الثورة”،‭ ‬وأن‭ ‬“حضارية‭ ‬الرأسمالية”‭ ‬سمحت‭ ‬بتطور‭ ‬سلمي‭ ‬ديمقراطي‭. ‬ولهذا‭ ‬كانت‭ ‬“النخب”‭ ‬عموماً،‭ ‬والأحزاب‭ ‬خصوصاً‭ ‬“في‭ ‬مكان‭ ‬آخر”،‭ ‬أي‭ ‬بعيداً‭ ‬عما‭ ‬يختمر‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وعن‭ ‬المطالب‭ ‬التي‭ ‬تطرحها‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية،‭ ‬منحصراً‭ ‬في‭ ‬“همِّها‭ ‬الذاتي”،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬تتيح‭ ‬لها‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬ذاتها،‭ ‬والمشاركة‭ ‬السياسية‭ ‬كـ”معارضة”‭. ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬أزمة‭ ‬المجتمع‭ ‬تفرض‭ ‬تغيير‭ ‬كلية‭ ‬الدولة،‭ ‬أي‭ ‬تغيير‭ ‬النظام‭ ‬الاقتصادي‭ ‬السياسي‭ ‬ككل،‭ ‬وليس‭ ‬“تغيير”‭ ‬شكل‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬استبدادية‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬ديمقراطية،‭ ‬أو‭ ‬شبه‭ ‬ديمقراطية‭.‬

لقد‭ ‬أظهرت‭ ‬الثورات‭ ‬فراغاً‭ ‬فكرياً‭ ‬وسياسياً،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أخص‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬جعلتها‭ ‬تتعثر‭. ‬كما‭ ‬أظهرت‭ ‬سيطرة‭ ‬فكر‭ ‬يناهض‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ضروري‭ ‬مجتمعياً،‭ ‬و”نخب”‭ ‬تغمرها‭ ‬الذاتية‭. ‬لهذا‭ ‬كانت‭ ‬الثورات‭ ‬عفوية‭ ‬و”عمياء”‭ ‬معاً،‭ ‬بالتالي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬“الطبيعي”‭ ‬أن‭ ‬تتعثر،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬مجالاً‭ ‬لمناورات‭ ‬الطبقة‭ ‬المسيطرة،‭ ‬ولتدخلات‭ ‬القوى‭ ‬الإمبريالية‭. ‬فأزمة‭ ‬الثورات‭ ‬تكمن‭ ‬بالضبط‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الرؤية‭ ‬والاستراتيجية‭ ‬والمنظور‭ ‬البديل،‭ ‬وكذلك‭ ‬التنظيم‭.‬

ربما‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬مدخلاً‭ ‬للتوصل‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬سلبية‭ ‬حول‭ ‬الثورات،‭ ‬والظن‭ ‬أنها‭ ‬فشلت‭ ‬أو‭ ‬ستفشل،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬باتت‭ ‬“سلفية”،‭ ‬أو‭ ‬سيطر‭ ‬الإرهاب‭ ‬عليها،‭ ‬أو‭ ‬باتت‭ ‬أداة‭ ‬لتدخلات‭ ‬إمبريالية‭. ‬حيث‭ ‬جرى‭ ‬اللعب‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المخزونات‭ ‬المتخلفة‭ ‬التي‭ ‬تركها‭ ‬الماضي‭ ‬مقيمة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وأصبح‭ ‬ما‭ ‬يُطرح‭ ‬يعيد‭ ‬إلى‭ ‬الخلف،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬باتت‭ ‬برامج‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬تضخّمت‭ ‬قبل‭ ‬وبعد‭ ‬الثورات‭ ‬هو‭ ‬إقامة‭ ‬“دولة‭ ‬إسلامية”،‭ ‬أي‭ ‬سلفية‭ ‬أصولية‭ ‬قروسطية‭. ‬لكن‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬نتاج‭ ‬منظور‭ ‬شكلي‭ ‬أو‭ ‬شكلاني،‭ ‬فهذا‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬على‭ ‬السطح،‭ ‬ما‭ ‬يظهر،‭ ‬ما‭ ‬نشاهده،‭ ‬فقط‭. ‬لقد‭ ‬أفضى‭ ‬الانفجار‭ ‬إلى‭ ‬انفلات‭ ‬الماضي‭ ‬بالتحديد،‭ ‬بالضبط‭ ‬نتيجة‭ ‬غياب‭ ‬البديل‭ ‬الذي‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭. ‬ونتيجة‭ ‬غياب‭ ‬الخطاب‭ ‬الذي‭ ‬يقدّم‭ ‬التصورات‭ ‬حول‭ ‬الواقع‭ ‬ويحدد‭ ‬البديل،‭ ‬ويجيب‭ ‬على‭ ‬الأسئلة‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬تحقيق‭ ‬مطالب‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية،‭ ‬مطالب‭ ‬العمل‭ ‬والأجر‭ ‬والتعليم‭ ‬والصحة‭ ‬والبنية‭ ‬التحتية‭ ‬والديمقراطية‭.‬

هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الثورات‭ ‬تفرض‭ ‬الملاحظة‭ ‬الدقيقة‭ ‬لما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬الثورة‭ ‬لم‭ ‬تعن‭ ‬كسر‭ ‬حاجز‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬النظم،‭ ‬وأن‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬الوضع‭ ‬الذي‭ ‬باتت‭ ‬فيه،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬طرحت‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة،‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬بالتحديد،‭ ‬على‭ ‬بساط‭ ‬البحث‭. ‬فالثورة‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬فرضت‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تلمّسه‭ ‬حين‭ ‬التدقيق‭ ‬في‭ ‬مجريات‭ ‬الواقع‭. ‬وربما‭ ‬بدأ‭ ‬الأمر‭ ‬عبر‭ ‬التجربة،‭ ‬فقد‭ ‬أظهرت‭ ‬الثورة‭ ‬للشباب‭ ‬الذي‭ ‬خاضها‭ ‬الحاجة‭ ‬الكبيرة‭ ‬للوعي،‭ ‬حيث‭ ‬اكتشف‭ ‬أن‭ ‬التمرد‭ ‬وحده‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬لتحقيق‭ ‬التغيير،‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬فهم‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتطور‭ ‬الثورة‭ ‬لكي‭ ‬تنتصر،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬البديل‭ ‬الذي‭ ‬يحقق‭ ‬مطالب‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية؟‭ ‬اكتشف‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬“عماء”،‭ ‬وأن‭ ‬أحلامه‭ ‬في‭ ‬التغيير‭ ‬كانت‭ ‬وهمية،‭ ‬بالضبط‭ ‬لأنه‭ ‬راهن‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬الفاعل‭ ‬فيه،‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بالتمرد،‭ ‬التمرد‭ ‬الذي‭ ‬سيجلب‭ ‬حتماً‭ ‬التغيير‭ ‬الذي‭ ‬يحقق‭ ‬مطالب‭ ‬المجتمع‭ ‬كما‭ ‬ظنّ‭. ‬إذن‭ ‬لقد‭ ‬أدّت‭ ‬الممارسة‭ ‬إلى‭ ‬اكتشاف‭ ‬نواقصها،‭ ‬وطرحت‭ ‬السؤال‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬تجاوز‭ ‬ذلك‭.‬

الممارسة‭ ‬وحدها‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬قطاعا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬الذي‭ ‬خاض‭ ‬الثورة‭ ‬إلى‭ ‬اكتشاف‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬الوعي‭ ‬الذي‭ ‬يسمح‭ ‬له‭ ‬بتحقيق‭ ‬التغيير،‭ ‬لهذا‭ ‬انتقل‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬الممارسة‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬المعرفة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬تجاهل‭ ‬الشارع،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬فقد‭ ‬باتت‭ ‬الممارسة‭ ‬مترافقة‭ ‬مع‭ ‬الميل‭ ‬لاكتساب‭ ‬الوعي،‭ ‬الوعي‭ ‬الذي‭ ‬يساعد‭ ‬في‭ ‬الإجابة‭ ‬على‭ ‬أسئلة‭ ‬الواقع‭. ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬أكبر‭ ‬ما‭ ‬أحدثته‭ ‬الثورات،‭ ‬حيث‭ ‬هزت‭ ‬“العقل”،‭ ‬وفتحت‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬الوعي،‭ ‬الوعي‭ ‬العميق‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬الحاجة‭ ‬الواقعية‭ ‬فرضته‭ ‬لكي‭ ‬يجيب‭ ‬على‭ ‬أسئلة‭ ‬الواقع،‭ ‬ويسمح‭ ‬بتأسيس‭ ‬وعي‭ ‬مطابق‭ ‬لمصالح‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية،‭ ‬ويحدد‭ ‬الطريق‭ ‬لتحقيق‭ ‬التغيير‭ ‬وفرض‭ ‬البديل‭ ‬الذي‭ ‬يحقق‭ ‬هذه‭ ‬المصالح‭.‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬النقلة‭ ‬الأهم‭ ‬التي‭ ‬أحدثتها‭ ‬الثورات،‭ ‬والتي‭ ‬تمظهرت‭ ‬عملياً‭ ‬في‭ ‬الميل‭ ‬للمعرفة‭ ‬عبر‭ ‬القراءة‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬الشباب‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬سعيهم‭ ‬لتطوير‭ ‬الحراك‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬انتصار‭ ‬الثورة‭.‬

ولهذا‭ ‬حين‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬الثقافة‭ ‬والفكر‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الخمس‭ ‬من‭ ‬الثورة،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نأخذ‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار،‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭ ‬يبدأ‭ ‬بعد‭ ‬اكتساب‭ ‬المعرفة،‭ ‬أي‭ ‬عبر‭ ‬القراءة‭ ‬والتثقف‭. ‬بالتالي‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الثورات‭ ‬قد‭ ‬فتحت‭ ‬على‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬والفهم،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬للتحليل‭ ‬وبناء‭ ‬التصورات،‭ ‬بدأ‭ ‬مع‭ ‬بدء‭ ‬اندفاع‭ ‬الشباب‭ ‬إلى‭ ‬التثقف‭. ‬وهنا‭ ‬ستكون‭ ‬الثقافة‭ ‬عميقة‭ ‬نتيجة‭ ‬أنها‭ ‬نتاج‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الفهم‭ ‬وتحليل‭ ‬الواقع،‭ ‬وليس‭ ‬نتيجة‭ ‬المعرفة‭ ‬بمعناها‭ ‬العام‭. ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬القاعدة‭ ‬المعرفية‭ ‬تُبنى‭ ‬الآن،‭ ‬تُبنى‭ ‬خلال‭ ‬الثورة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬سيجعل‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬الثقافي‭ ‬أكثر‭ ‬عمقاً‭ ‬وشمولاً،‭ ‬ووضوحاً‭.‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬أسميته‭: ‬ثورة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة،‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬ترسّخ‭ ‬الوعي‭ ‬عبر‭ ‬الميل‭ ‬للتثقف‭ ‬والمعرفة‭ ‬سوف‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬تحوّل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭. ‬وربما‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬مثقفاً‭ ‬عضوياً‭ ‬بالمعنى‭ ‬الغرامشي‭ ‬سوف‭ ‬يحضر‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة‭ ‬القادمة،‭ ‬المثقف‭ ‬الذي‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬مشكلات‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية،‭ ‬وينهض‭ ‬لكي‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬الصراع‭ ‬لمصلحة‭ ‬هذه‭ ‬الطبقات‭. ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬لن‭ ‬يطال‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬السياسي‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬سوف‭ ‬يطال‭ ‬كل‭ ‬الفروع،‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة‭ ‬والشعر‭ ‬إلى‭ ‬السينما‭ ‬والمسرح‭. ‬ربما‭ ‬نهضة‭ ‬كبيرة‭ ‬تغيّر‭ ‬الوضع‭ ‬الكتيم‭ ‬الراهن،‭ ‬وتحقق‭ ‬“قطيعة”‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬الثقافي‭ ‬الفني‭ ‬الذي‭ ‬تبلور‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬السابقة‭.‬

الثورات‭ ‬هزَّت‭ ‬الوعي‭ ‬السائد،‭ ‬وربّما‭ ‬جعلته‭ ‬من‭ ‬الماضي،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬فتحت‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬الوعي‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬طابعها‭ ‬كثورة‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬التغيير‭ ‬العميق‭. ‬لقد‭ ‬انفتح‭ ‬أفق‭ ‬تفكك‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬السائدة‭ ‬بشكليها‭ ‬الأصولي‭ ‬والليبرالي،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬الثورات،‭ ‬وبهذا‭ ‬بات‭ ‬القادم‭ ‬هو‭ ‬المسار‭ ‬الذي‭ ‬يفرض‭ ‬تبلور‭ ‬بديل‭ ‬فكري،‭ ‬سيظهر‭ ‬بكل‭ ‬أشكال‭ ‬الثقافة‭. ‬إذن‭ ‬ثورات‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬والفهم‭ ‬والتعبير‭. ‬في‭ ‬المضمون‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الشكل‭. ‬فقد‭ ‬بدأ‭ ‬البناء‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬والتثقف،‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬تجربة‭ ‬هائلة‭ ‬الأهمية،‭ ‬وعلى‭ ‬ضوء‭ ‬طموح‭ ‬كبير‭ ‬لتغيير‭ ‬الواقع،‭ ‬لأنه‭ ‬بات‭ ‬غير‭ ‬قابلٍ‭ ‬للاحتمال،‭ ‬وفي‭ ‬أفق‭ ‬وضع‭ ‬يحقق‭ ‬مطالب‭ ‬طبقات‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تستطيع‭ ‬العيش‭.‬








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الثورة وما ادراك ما الثورة! عن اي ثورة تتحدث؟
علاء الصفار ( 2016 / 3 / 9 - 21:48 )
قام لينين بقيادة اكبر ثورة ناجحة في التاريخ,إذ كان دقيقاً حد اللعنة!الثورة اليوم! لو تمت البارحة لكانت متقدمة لوتحدث غداً فتكون متأخرة.ورأينا ثورة سبارتكوس وقيادته للعبيد فتركت أثرأ تاريخيا وقيمياً,حيث تعرض افلام سبارتكوس كل عام.فقيل مات سبارتكوس وظهر المسيح! اما السيد فيحدثنا عن بدهيات مائعة متلاشية لا تجيد فن الحديث ولا التحريض على الثورة!ان المأساة ليست في الجماهير المنتفضة بل لعدم وجود قوى ثورية( حزب بلاشفة ولينين)! يا سيدي,انت تعيش في برج عاجي وتحلم بالثورة لكن بلا بوصلة ولا فهم لا للظرف التاريخي سواء ذاتي أم موضوعي, وتحقر الجماهير لكونها لا تملك وعي, وهي تسبقك بالوعي والفهم وهي تريد الموت عبثياً وليس تريد الأنتصار بل فقط ترفض ان تموت مهانة ومحتقرة! هي كما قل ماركس! تحاول الخلاص من اغلالها, انت تُنظر في ثورة حدثت في فنجان مقلوب! لا تعي أمر الجوع والاهانة والمسخ لحياة الشعوب!هذه الشعوب وان كانت بلا ثقافتك وأبهة الكلمات الر قيعة تعرف أنها مهانة ومُذلة, وهي تخرج للشارع بلوعة وكما كومونة باريس لتشير لحضورها المأساوي,لتقول لساكني الابراج العاجية انتم حثالة مجتمع بارعين للغوِ الفارغ!ن

اخر الافلام

.. مستشرق إسرائيلي يرفع الكوفية: أنا فلسطيني والقدس لنا | #السؤ


.. رئيسة جامعة كولومبيا.. أكاديمية أميركية من أصول مصرية في عين




.. فخ أميركي جديد لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة؟ | #التاسعة


.. أين مقر حماس الجديد؟ الحركة ورحلة العواصم الثلاث.. القصة الك




.. مستشفى الأمل يعيد تشغيل قسم الطوارئ والولادة وأقسام العمليات