الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من قتل الحلم إلى قتل الشعب

منذر خدام

2016 / 3 / 15
مواضيع وابحاث سياسية



لم يتصور أحد من المشتغلين في الحقل السياسي، أو الثقافي مجرد احتمال حصول ما صار يسمى "الربيع العربي"، لكنه ما إن حصل بداية في تونس ليمتد لاحقا إلى البلدان العربية ذات الأنظمة المسماة "جمهورية" حتى خلق مادة للشغل السياسي، والكتابة السياسية، تنظيرا وتفسيرا لما يجري. وكان من الطبيعي والمتوقع أن ينقسم العاملون السياسيون والمثقفون في هذه البلدان بين فئتين رئيسيتين : فئة وقفت إلى جانب الأنظمة الحاكمة، وفئة أخرى انحازت إلى جانب الشعوب الثائرة. الفئة الأولى عدت ما يجري مجرد مؤامرة دولية على أنظمة لطالما حسبت نفسها ثورية أو تقدمية، في حين فسرت الفئة الثانية الحدث بإحالته إلى طبيعة الأنظمة الاستبدادية الحاكمة. لا شك بأن كلا وجهتي النظر تنطويان على قسم من الحقيقة. الحقيقة في وجهة النظر الأولى تسند ذاتها من خلال سيرورة الأحداث في هذه البلدان، وخصوصا من خلال مآلاتها النهائية، وما كشفته من تدخلات خارجية فيها. وتستفيد هذه الوجهة النظر أيضا من شاهد مهم، وهو أن الأنظمة العربية الملكية بقيت في منأى عن " الربيع العربي"، مع أنه يفترض نظريا أن تحصل فيها الثورات قبل غيرها؟!!.
أما الحقيقة في وجهة النظر الثانية فإنها تدعم نفسها بالقول باستحالة قدرة المؤامرة على اصطناع حراك جماهيري بالاتساع الذي شهدته بلدان الربيع العربي. أضف إلى ذلك فهي تستفيد من شواهد موجة التغيرات نحو الديمقراطية التي حصلت في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبقي العالم العربي في منأى عنها لبعض الوقت، حتى أن حان الحين لكي تتخذ مكانها في مجراها التاريخي. وتضيف إلى ذلك طبيعة الأنظمة الاستبدادية والتناقضات الكارثية التي تسببت فيها في كل مجالات الحياة في بلدانها بين الحاجات المجتمعية والقدرة على تلبيتها.
في تصنيفنا السابق كثير من العمومية والتجريد، بل التبسيط أيضا، إذ لا يمكن اختزال أحداث "الربيع العربي" وما كتب عنها، بعدد قليل من الجمل التي تنطوي على أحكام فجة، مع ذلك ثمة مبدأ حاكم في عالم اليوم يفيد بأنه لا يمكن تفسير أي حدث داخلي في أي بلد في ضوء المعطيات الداخلية فيه فقط، بل لا بد من حضور العوامل الخارجية فيه ، وتكون هذه الأخيرة حاسمة في كثير من الأحيان. في ضوء هذا المبدأ الحاكم يمكن الجمع بين وجهتي النظر السابقتين على الشكل الآتي: الخارج لم يتسبب بحصول ثورات "الربيع العربي" ، بل العوامل الداخلية الكامنة في طبيعة الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، لكن وبمجرد حصولها بدأ الخارج يعمل على احتوائها، وتوجيهها الوجهة التي تخدم مصالحه، أو في الحد الأدنى الحؤول بينها وبين تهديدها لهذه المصالح.
بالنسبة لسورية، التي تعنينا في هذه المقالة ، لم يكن احد من العاملين السياسيين في المعارضة أو الموالاة، أو المشتغلين في الحقل الثقافي في سورية يتوقع أن يحصل بها تمرد مجتمعي واسع كما حصل، وذلك لأسباب عديدة كانوا يسوقونها في مجرى النقاشات الكثيرة التي كانت تحصل، كنوع من قراءة الانتفاضات الشعبية في بعض البلدان العربية. لذلك عندما نشرنا مقالتنا بعنوان " أفاق الزمن القادم" في الخامس من آذار لعام 2011، أي قبيل بدء انتفاضة الشعب السوري، توقعنا فيها حتمية تمرد الشعب السوري على النظام الحاكم، عدها كثيرون كنوع من الشرارة التي أشعلت النار. وبالفعل ما إن نشرت المقالة حتى تحولت إلى منشور يتداوله بصورة سرية آلاف السوريين في مختلف المدن السورية، وخصوصا في دمشق. بطبيعة الحال لم يكن يحتاج الأمر إلى عبقرية استثنائية لتوقع ذلك، لكن الخوف الشديد الذي زرعه النظام السوري في نفوس السوريين كان من العمق والشدة، بحيث حال حتى دون مجرد التفكير باحتمال حصول تمرد شعبي في سورية ضد النظام الحاكم.على العكس كانت جل الكتابات السياسية والثقافية في ذلك الحين تشي بعدم إمكانية حصوله، مستندة إلى حجج تبين أنها واهية، منها القول بأن النظام السوري ممانع ويدعم المقاومة، وان رئيسه شاب ومحبوب من قبل شعبه، وهو من طرح ضرورة إصلاح النظام بداية، ويعمل عليه، وغير ذلك من حجج. غير أن المراقب الفطن لكثافة متابعة السوريين لما كان يجري في بعض البلدان العربية من تحركات شعبية واسعة مطالبة بإسقاط الأنظمة الحاكمة فيها، وعلى وجه الخصوص في كل من تونس ومصر، والنقاشات التي كانت تجري حولها، كان لا بد له أن يدرك أن انتفاضة السوريين ضد نظام الحكم لديهم حتمية. بطبيعة الحال ليست المتابعة والاهتمام بانتفاضات بعض الشعوب العربية هي السبب، بل طبيعة النظام السوري التي لم تكن تختلف كثيرا عن طبيعة الأنظمة العربية الأخرى، وفيه من الأسباب ما تدفع الشعب السوري لأكثر من ثورة ضده، لكنه كان بحاجة إلى كسر حاجز الخوف لديه، وهذا ما حققته له انتفاضات بعض الشعوب العربية.
لقد كان النظام شديد على معارضيه، يقمعهم بلا رحمة. فخلال فترة حكم الأب المؤسس للنظام، أو خلال حكم ولده المتابع لنهجه زج النظام في سجونه مئات آلاف السوريين، واعدم منهم الآلاف بهدف القضاء على أية إمكانية لوجود حياة سياسية حقيقية، سواء في أحزاب السلطة أو المعارضة. إضافة إلى ذلك فكان يمارس الفساد سياسة ونهجاً، ليس فقط لتحقيق الإثراء غير المشروع، أو لكسب الأنصار والمؤيدين، بل لإدارة الحكم والبلاد..
كنا في مقالات ودراسات كثيرة ناقشنا أسباب انتفاضة السوريين ضد نظام الحكم في بلدهم ومآلاتها المحتملة، نلفت الانتباه لواحدة مطولة منها وهي بعنوان " الشعب السوري ليس مع النظام وليس مع المعارضة" المنشورة في التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية لعام 2014، الصادر عن مؤسسة الفكر العربي، وبالتالي لا نريد التوقف عندها في هذه المقالة التي خصصناها للنظر في كيفية اغتيال الحلم السوري، والتحول إلى اغتيال وقتل الشعب السوري الحالم ذاته.
في خطاب الرئيس السوري بشار الأسد الأول بعد أن بدأت التحركات الشعبية الخجولة بداية في محافظة درعا، وفي اللاذقية تاليا، قال جملته الشهيرة " إذا أرادوها حربا فنحن لها" مفصحا بجملة واحدة عن إستراتيجية النظام للرد على مطالب الشعب العادلة. بطبيعة الحال لم يكن يقصد بالفعل المضمر في كلمته " أرادوها" دول أجنبية، وإلا لكانت الحرب ذات طابع وطني، بل قصد بها شعبه تحديدا، وعلى وجه الخصوص أولائك الذين أخذوا يملؤون الساحات والميادين. وبالفعل بدأ النظام حربه ضد المتظاهرين بداية عن طريق الدسائس والمناوشات المتفرقة، لتتحول لاحقا إلى حرب حقيقية لمنع المظاهرات من الانتشار والتوسع، ومن ثم للقضاء عليها. لكنه وقع في خطأ تصوراته، وأوقع البلد كلها في كارثة غير مسبوقة في التاريخ. لقد زين له راسمو سياساته من الأمنيين والمستشارين بأن تجربة بداية الثمانينات في قمع الإخوان المسلمين تصلح في هذه الحالة أيضاً، فمزيد من الشدة والقمع يعود الشعب إلى القمقم ويهدأ ويستكين. غير أن المواجهة هذه المرة كانت تجري مع قطاعات واسعة من الشعب، وليس مع حزب سياسي معزول، ولذلك كان قمع النظام بمثابة الوقود الدافع لخروج مزيد من المظاهرات، وفي مرحلة لاحقة للتحول إلى حمل السلاح لمواجهة قمعه.
من جهة أخرى لم يكن النظام وحده من ساهم في القضاء على حلم السوريين بل كان له شركاء موضوعيون في المعارضة السورية، وفي جميع الدول التي تدخلت في الشأن السوري تحت عنوان "صداقة الشعب السوري"، وتحديدا تركيا وقطر والسعودية وأمريكا وفرنسا وبريطانيا وغيرها. خلال عام 2011 كان لدى السوريين حلم كبير بالتغيير والعيش بكرامة في دولة تحترم شعبها في ظل سيادة القانون، حلم لطالما صدحت به حناجر ملايين السوريين في ساحات المدن والبلدات السوري " الشعب يريد الحرية.. يريد الكرامة.. يريد الديمقراطية...الشعب السوري واحد واحد...الشعب السوري ما بينذل....الشعب يريد إسقاط النظام" ليتحول الحلم إلى كابوس. اليوم وبعد خمس سنوات مضت على حرب طاحنة في سورية، وعليها، تم القضاء ليس فقط على حلم السوريين بالحرية والديمقراطية والكرامة، بل تحولت الحرب إلى قتل السوريين ذاتهم.
إن حصيلة الخمس سنوات الماضية من الصراع في سورية كانت كارثية بكل المعاني. وبلغة الأرقام تسببت الحرب بدمار نحو أربعة ملايين بيت ومستشفى ومدرسة ومركز عبادة، عداك عن تدمير البنية التحتية في أغلب محافظات سورية، وتراجع القدرة الاقتصادية للبلاد بنسبة تصل إلى نحو 65% بالمقارنة مع مستواها في عام 2010، وصار بالنتيجة نحو 85% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، هذا عداك عن نحو 11 مليون سوري أرغمتهم الحرب على مغادرة أماكن عيشهم، منهم نحو 4 ملايين صاروا لاجئين في دول الجوار، أو هائمين على وجوههم في أوربا وغيرها طلبا للأمن والأمان في ظروف قاسية. وهناك نحو مليون شهيد غادروا البلد إلى غير رجعة، إضافة إلى ضعف هذا العدد من المشوهين الذين سوف يحتاجون إلى المساعدة والإعالة.أضيف إلى كل ذلك ملايين الأطفال السوريين الذين حرموا من التعليم، عداك عن الشروخ الاجتماعية العميقة التي حفرتها الحرب.
هل كان يستحق حلم السوريين بالتغيير حصول هذه الكارثة؟ الجواب بلا شك هو كلا. لو فكر الحكام بالدولة، وليس بالسلطة، وأنصتوا باهتمام إلى مطالب شعبهم، بل لو حققوا ما وعدو الشعب به من إصلاحات، ومن محاربة الفساد، ومن حياة سياسية طبيعية وغيرها، لما وصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، ولما حصلت الكارثة. المسؤولية الرئيسية عن كل ذلك يتحملها النظام وحده.
اليوم سكتت المدافع.. وبدأ منتدى جنيف 3، ربما تتاح فرصة لاستدعاء العقول من إجازاتها المفتوحة، ويبدأ الشغل على كيفية إنقاذ ما تبقى من سورية وشعبها...هل هذا حلم كبير أيضاً؟!!، وهل هو غير قابل للتحقق؟ هو كبير للصغار نعم.. لكنه صغير للكبار... رحم الله المتنبي....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: ما حقيقة هبوط طائرات عسكرية روسية بمطار جربة التونسية؟


.. ليبيا: ما سبب الاشتباكات التي شهدتها مدينة الزاوية مؤخرا؟




.. ما أبرز الادعاءات المضللة التي رافقت وفاة الرئيس الإيراني؟ •


.. نتنياهو: المقارنة بين إسرائيل الديمقراطية وحماس تشويه كامل ل




.. تداعيات مقتل الرئيس الإيراني على المستويين الداخلي والدولي |