الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نافذة وعينان!

عزة رجب
شاعرة وقاصّة ورائية

(Azza Ragab Samhod)

2016 / 3 / 15
الادب والفن


نافذة وعينان!

للذاكرة وشمٌ على جداريات العقل، إنها تسلب لبِّ الإناء من محتواه، كلما شعرتْ أنَّها محاصرة بالوجوه، وبدأتْ تكتظ في ازدحام الملامح، أفلتتْ من عقالها زمام الزمن، فتسرب كالماء من إناء الفكر، وبدأ العقل في خرف الخيال، يصَّاعد جبال الشهوة للصبا، ماضيا في كتابةٍ تاريخيةٍ لرحلة عودةٍ للوراء، لعله يٌحظى بلحظة شرفٍ، تمنح الفارس وسام استحقاق الأبدية.

عندما قرأتُ لريكور كنتُ صغيرة على الحب، لا أفقه في فهم قلبي شيئاً، وكنتُ أكبر من ثمار الشماري بقليل، مثلها تعلقتُ بشرنقة الطموح، ما إنْ رتلوا أمامي قصيدة الحياة، حتى نأيتُ إلى ركن قصيِّ، وتعبَدتُ في غار وحدتي، هنالك تجلى لي عقلي، ملكتُ منه صيرورة الآني، وعرفتُ مؤمنة أنني زهرة في أوجِّ الاكتمال، وقمة الإحساس، لكني غير صالحة للحب، وهذا العالم ليس على مقاسي، ولا يحتمله قلبي الصغير، ولمَا عشتُ الفقد، لأبي وأمي، لم أفرق عن ريكور في شيء ـ كلانا عاش يتيماً، مُبعداً عن الاقتراب من الناس، ينظر في الأخلاق كأنها غصن يتهدل من شجرة الوجود، فيعطي ثمار معرفته بلا مقابل، ويمضي ويقينه بالإنسان مزروعاً في صدره، كما الإيمان النابع من القيمة، لا من التقييم، الناتج من رحم المعاناة، والارتقاء، لا من التصفيق وميراث الأسماء، عرفتُ حينها أنني أروق للظل، أكثر من حرقة الشمس، فزرعتُ نبات الظل في بيت حكمتي!

نافذةٌ وعينان!... ومزهرية تحيط بصمتي المنزوي في ركن السؤال، يُمطرني الغيم سحابة عائمة، عيناها تصبحان في وطن، وتمسيان دمعاً متساقطاً في وطن آخر، مُهجَّرة كأي غريب، يلتحق بالقطار أخيراً، يحملني كفِّ الريح طفلةً، تتطلع من شرفات السماء فيقع بصرها على المدن العائمة في التربة الطينية، والرملية، والرطبة، أتنشق رائحتها المتطاولة لعنان السماء، ثم أجلس فوق بساطي المتواضع، وأتسربل أغنية تموج مع حفيف الشجر، ووجه البحر، وهديل اليمام، وهدير الماء، ولفح الهواء، وليبيا.. ليبيا.. أتذوقها كطعم مهلبية باللوز على شفتي ِّ المحترقتين لوعة...!

نافذةٌ وعينان!... وقلبي مشرع على مصراعيه للوجع، يصادرني الكابوس بتهمة الإسراف في الحلم، تلحقُ بي رصاصةٌ عابرة في نزق، تخترقُ سرعة الصوت، وتجبرُ الوطن على الصمت المهين، حواريات هاربة من نوافذ الحلم، مررها أرشيف الضياع عبر أبواب غير مشروعة، والناطور الذي يحرس بيوتنا لم يتغير، إنه التالي للبيانات، وللتفجيرات الانتحارية، وهو الذي يمرر لنا لصوص الأكسجين، ويسرق أنفاس الفقراء، ويتظاهر ضد تغيير الحكومات، ويقبض ثمن الاعتراضات، والوجوه تدور... تدور... رأسي كأرجوحة مُعلقة في الهواء، تسقط النسبية هنا، وتنعدم معايير الجاذبية، ويتوقف ماركوس عن إتمام أطروحته، بعد أن سيسوا عقله، وفرقعوا نظريته في قذارة المجتمعات الغارقة في وحل الرذيلة، هنالك تقع الفلسفة في قاع الاختبار، وترتقي الانتخابات على أكتاف الجهل، فكل المختارين الذين مروا من بوابة العبور للحرية، اكتشفنا أنهم بلغوا ذروة الأمية، وسرقوا من أفواهنا حقول القمح والأرز ورغيف الخبز!

نافذةٌ وعينان!... ووجه أمي يحاصرني في غرفتي، ما أطول هذه الليلة ! يمكنني أن أتوسد عراء وسادتي، وألتحفُ البرودة، يمكنني أنْ أضحك في هستيريا و أسمع صوتها الحنون ينادي اسمي في هدوء، لا توجد كفَّ آمنة، أو وجه يومئ لي بما أقول، فقدتُ وجه الروز (نبتة ظلي)، وافترقنا عند عتبة بيتنا، ظلَّت صامتة تتوحد اسمها في المبكى، كلما ذكروا لها اسمي، قالت اسقوني ماء وجودها، ردهات البيت استحالتْ من السكون بيداء قاحلة ـ من الممشى على سيمياء وجهها، يقول جارنا محمد لأخي الصغير كلما التقاه: قل لعزة أنَّ الروز تبدو مُطلة من النافذة، لكني لا أصل إليها، حاولتُ القفز وفشلتُ، الروز بخير، فماء المطر يصلها متسرباً، ولا تطالها أشعة الشمس، أردُّ عليه: قد تموت الروز إذا ارتوتْ من الماء، كما الحرية في بلادنا يا محمد! يسمع محمد مقولتي، فيعود، ويرسل لي أحلافه بسيدي عبدالقادر الفيتوري وهو والده، لا تقلقي طالما أنا موجود!

نافذةٌ وعينان!... يقفز محمد ويجلب لي الروز، ها قد جلب لي مُحبتي، واللصوص يقفزون من نوافذ الدولة، ليجلبوا لصوصاً آخرين في هجيع الليل، وشعبنا نائم، والثكالى فاقدات، والعذراوات نائحات، والفل والياسمين شباب البلد، مات بين أيدينا، شتان بينهم! محمد يُحيي نبتة، وهم يبعثون جزارين، يذبحون ليبيا عشرات المرات في كل مرة، الوطن يتناول جرعات مسكنة، وحبوب مُنومة، وإبر تجعل الأطراف في شلل تام، لا شيء يرانا، حتى الصحافة التي تشخص الوضع، حتى المقالات التي تقول الحقيقة، لم يعد يأبه بها اللصوص، لم يعد أحدٌ يقرأ، إنهم مشغولون بتقاسم نصيبهم، وأمي ترحل بلا سبب، وجارنا يفقد بصره من البكاء، وجارتنا تسقط من النواح، والبيت يتهدل، ثم يخر راكعاً على أنقاضه، والقنوات تغرد بنشيد الثورة المجيد، والمتشدقون هم هم.. في كل قناة يُعاد تدوير الوجوه، ويدور المشهد وراء المشهد!

نافذةٌ وعينان!... لك يا من أطلت في عمري، وبقائي هنا، تركت للعبير هواء يتنفس من نافذة تشرع وجهها، تلقاء مدين بلادي، كلما أوصدوا في وجهي باباً، فتحت لي أبواب السماء، وهدأ أنين المقبرة، وسكن صوت الشهيد، وزغردت ْ الأمهات، وتعالتْ صيحات الإعجاب بالشرفاء، وطالبوني برسم وجه وطني، كتبتُ، وكتبتُ، ما استطعتُ من الحب، نثرتُ حبات اللؤلؤ، زرعت حقول القمح، توهمتُ للجوري مواسم خريفية، جعلته ينمو فيها قسرا، رششتُ عطري المفضل، ولوُّحتُ بالعلم، ومن رسالة عبيرية لأخرى كنتُ حاضرة، في كل تحولات الفراشة على لحاء غربتها، سعيدةً، مجروحةً، باكيةُ، طفلةُ، امرأةُ، مراهقةُ، شاعرةُ، أتوشَّحُ حزني، وأشاهدُ في مرآتي عينان للنافذة، تريان وجهي، وتُطلان بي على شرفة وطني الصامتة، كانت ليبيا ملآى بالمآقي والدموع، وكفَّها مضرجا بالدم، ووجهها شهيد، لكن الشهيد لا يمــــوت!

تابع المزيد من الكتابات على :

http://smraaa.blogspot.com/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال