الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفارس والأميرة- قصة قصيرة

كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)

2016 / 3 / 16
الادب والفن


على الجدار في غرفة نومي لوحة "كانافاه" بإطار ذهبي، لفارس روماني يصوب حربته إلى تنين، من على ‏ظهر جواد يرفع رجليه الأماميتين في ذعر وكبرياء، وأميرة على باب قصرها ترقب النزال، على خلفية مروج خضر ‏وربى. . ليست بأي حال مجرد لوحة على جدار. . هي عالم ألوذ به، حين تضيق بي الدوائر، ويشتد الحصار. . ‏أنسل من همومي عند إطارها، وأدلف إلى ربوعها المقدسة.‏
أجول في الربى وبين المروج. أربت على ظهر الجواد الأبي. أتبادل النظرات والابتسام تحية للفارس ‏القوي. . حاولت تقدير عمره. له فتوة الثلاثين، وشيبة قديم الأيام، وبريق عينيه كأنه قادم من تلك البدايات ‏الأولى، يوم قيل أن الأرض كانت خربة وخالية، وحدها المروج الخضر، كانت متاحة ومحاطة بوصايا تحلل بدون ‏منطق، وتحرم أيضاً بدونه، وسيف العقاب مشرع فوق الرؤوس، المحكوم عليها بأن تنحني على الدوام.‏
أدور حول القصر وأميرته. أدلف من بابه الضيق. أتجول في أنحائه على ضوء شمعة في يد الأميرة ‏الحالمة، أحس مع أنفاسها الدافئة بالسكينة والسلام. بعبق الخلود الفواح، وبلانهائية الزمان والمكان.‏
لم يحدث أبداً أن أحسست بجسدها يلامس جسدي المرتج بالأشواق، رغم تعمدي القرب منها حتى ‏الالتصاق. عجيب هذا ومحير. . أطرد هواجسي، وآخذ في معاينة كنوز الحكمة وخزائن الأسرار. يقولون تحتل كل ‏الامتداد، وإلى مرمى النظر.‏
واحدة وحيدة هي في بحر الرمال. . مرفأ آمن من الريح ومرمى الصواعق. . الفارس حارسي، والأميرة ‏وقصرها ملجأي. . لا ينعس ولا ينام حافظي. بسترهما أستظل. لن يتركا شعرة تسقط من رأسي. اسمي منقوش ‏على كفوفهما. من يمسني يمس حدقات عيونهما. تشتاق وتذوب نفسي للسكنى في قصر الأميرة، وإلى جوارها.‏
اليوم لم تكن لوحتي كما اعتدتها. . أرضية اللوحة تتحرك. تموج. . كأنها شمع ينصهر. يرتج. . تتداخل ‏الألوان، لكن الشخوص المرسومة مازالت على حالها، كأنها تقاوم من أجل البقاء، تلملم أبعاضها تخوفاً من ‏التبدد. التلاشي. . أسمع أصوات تَقَصُّف الإطار الخشبي، لكنه مازال محتفظاً بشكله المنتظم. . أذهلني أن ‏موئلي للسكينة يبدو وكأنه صار ألعوبة في أيد خفية. يرتعب منها ربما، يتحسب ويتوجس بالتأكيد. . كان هذا ‏جديداً علي تماماً.‏
الأميرة يبدو عليها الذعر. . التنين تدب فيه الحياة. يدور الآن برأسه يميناً ويساراً، يضرب الهواء بذنبه. . أسمع ‏صوتاً كالفحيح.‏
بدأ الاضطراب ينتقل إلى الجواد. كأن عيناه تطفحان بالرعب، وشعر معرفته ينتصب.‏
الفارس مازال كما هو ساكناً.‏
حركة التنين تزداد عنفاً. . يزحف ويبتعد عن مرمى الحربة، تلك المصوبة إليه منذ الأزل، ولم يعرها يوماً ‏التفاتاً. . يحاول الخروج من إطار اللوحة، التي صارت الآن تنتفض بما تحوي.‏
بدأ الفارس يستيقظ وتدب فيه الحياة، وكان هذا في حد ذاته مدهشاً، أن يستيقظ بعد كل دهور النعاس ‏الطويلة.‏
فزع الأميرة يزداد.‏
مازال التنين يحاول الخروج، وذنبه يضرب الهواء بعنف، يلوح به باتجاه القصر والأميرة. . تصرخ الآن ‏أميرتي. تلوح بيديها طلباً للنجدة.‏
الفارس مع بداية حركته، ترتخي قبضته من على الحربة. تسقط. تتجه صوب حدود اللوحة.‏
ينجح التنين في الخروج من الإطار. يتجه نحوي. . عيناه تشعان أضواء مشتتة. . إنه يسبح في فضاء ‏الحجرة. . في المسافة بين اللوحة والفراش، حيث تمددت.‏
لم يكن أمامي إلا أن أحاول الفرار. أطرافي أصابها شلل مفاجئ. . لم أستطع أن أبرح مكاني. . لم أستطع ‏حتى النهوض من وضعي ممداً على الفراش.‏
الحربة أيضاً تغادر اللوحة الآن. تتجه هي الأخرى نحوي. . . . . . . تنطلق باتجاهي بسرعة هائلة. . ‏يعكس نصلها أضواء عيني التنين، بألوانها المتباينة. . أفرك عيناي اللتين كانتا كأنما اتقدت فيهما النيران. ‏تغيم الرؤية، لتصبح كأنها أوعية ألوان قد انسكبت محتوياتها، لتشكل معاً تكوينات شبحية، لا تعبر إلا عن ‏الرعب الذي ينتفض منه الآن جسدي.‏
الفارس. هو المنقذ. الأمل الأزلي. الرجاء. المالك والملك. . لقد دبت فيه الحياة الآن تماماً. . أمارات القوة ‏والغضب ترتسم على محياه.‏
يهم الجواد بالتمرد من تحته، لكنه يكبح جماحه، بمهارة واقتدار. . يتعالى صراخ الأميرة. . آخذ أنا ‏أيضاً في الصراخ. . كأن صوتي صاعد من هاوية عميقة، فلا يصل إلى الفارس. . ها هو يلتفت للأميرة. . ‏أسمعه يناديها. يناجيها:‏
‏- يا وديعة الدهور. يا أبدية الشباب. ربوات من الجنود في خدمة جمالكِ الباهر. . . . . . .‏
يزداد التنين اقتراباً مني. سرعته رهيبة كقذيفة، لكنه لم يصل بعد إلي. . الحربة أيضاً في طريقها نحوي. . ‏لا أجد إلا أن أستمر في الصراخ. . مازال صوتي أضعف من أن يصل إلى الفارس، الذي يستدير بجواده، ليواجه ‏الأميرة. . تمد له يديها مستغيثة. جسدها كله ينتفض. . كان القصر حينها قد بدأ في التصدع، وتتمازج ألوانه ‏في فوضى بدت لي مرعبة. . يستمر الفارس في مناجاته للأميرة: ‏
‏- أنتِ النجم العالي في السماء. . بنوركِ تتبدد الظلمات. . . . .‏
أصرخ معترضاً: ‏
‏- لماذا لا تلتفت إلي؟ لماذا لا تستعيد حربتك وتقتل التنين؟ من دهور وأنت تصوب إليه تلك الحربة. . نناشدك ‏في كل لحظة أن تفعل. أن تنهي المسألة، فماذا تنتظر الآن؟
استدار نحوي. . يبدو أن صوتي قد وصل إليه أخيراً، أقلقني أن نظرته كانت بغير اكتراث، ربما كان أيضاً ‏مشمئزاً من ارتفاع صوتي، خيل إلي أنه كان يسمعني منذ البداية.‏
يزداد صراخ الأميرة. . يشير الفارس إلي منبهاً، وكأنه يقول:‏
‏- هي أولاً. . هي أخيراً. . هي هي، ولا شيء إلاها.‏
سرعة الحربة تزداد. . توشك أن تصل إلي قبل التنين.‏
الهلع يجتاحني. . خواء عجيب ومفاجئ يلفني. . ربما استهلكت أيضاً طاقتي الصوتية، صرت كماً ‏مهلهلاً. . يصل الفارس إلى الأميرة. . تركب خلفه. تنشق بطن الجواد عن أجنحة عظيمة. . يبدأ في التحليق. ‏انطلق الآن في الفضاء. . أحاول أن أنادي عليه، أستعطفه: قلت لي دوماً أن الأميرة وقصرها ملكي. لأجلي. . ‏حسبتها دهوراً سكني وملجأي. في ظلها أستريح، وبنورها أعاين النور. . كيف تنقذها الآن وتتركني؟!‏
ابتعد الجواد براكبيه في الفضاء. يمرق بنذالة وسط النجوم. . فحيح التنين الذي يقترب يصم أذني. . ‏الحربة كادت تصل إلي. . وصلت فعلاً. . ها هي. . تحررت يدي اليمنى من شللها فجأة. امتدت نحو الحربة. ‏قبضت عليها من منتصفها، بقوة لم أظنني أمتلكها. . أديرها. أعدها للانطلاق.‏
بقوة الهلع. بنقمة المخدوع. بطاقة كامنة تجاهلتها منذ الأزل، جرياً وراء السراب. . دفعتها نحو الهدف. ‏‏. مرقت في الفضاء. تصدر صفيراً مدوياً ومرعباً، في اتجاه التنين. . جاوزته. مرت من فوقه. . إنها تزأر صعوداً، ‏تسعى نحو. . . . الجواد وراكبيه!!‏
‏***‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منصة بحرينية عالمية لتعليم تلاوة القرآن الكريم واللغة العربي


.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات




.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة


.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها




.. الممثلة ستورمي دانييلز تدعو إلى تحويل ترمب لـ-كيس ملاكمة-